quot;المتدينون ديانة عقلانية لا يعتبرون أنفسهم quot;أصحاب الحقيقةquot; وإنما يفهمون تدينهم بمعنى أنهم quot;طلاب الحقيقةquot;، فتدينهم لا يعني أنهم امتلكوا الحقيقة بل إنهم شرعوا بطلبهاquot;[1]

الليبرالية موجة اكتسحت العصر مع نهاية القرن العشرين ومستهل القرن الواحد والعشرين وخاصة بعد انهيار جدار برلين وتفكك حلف فرصوفيا ومجموعة الدول الأوروبية التي تحسب على الكتلة الاشتراكية ومع رحيل بعض من رموز الأنظمة الدكتاتورية في العالم الثالث وتحولت إلى قوة ضاربة تهدد عدة مرجعيات مغلقة وتسعي إلى تفكيك إيديولوجيات الجنات الموعودة وقد حاول البعض الحد من جرأتها وتقليم أظافرها بتكفير روادها واتهامهم بأبشع النعوت وهي عند البعض الآخر طريق نحو الإقلاع والتجديد إذ كل من لا يرضى بالسائد ويثور على الموجود ويطمح نحو ماهو أفضل ويسعى إلى التطوير يركب هذه الموجة القديمة الجديدة ويسمي نفسه ليبراليا، والليبرالية هي مفهوم يستخدم في الأخلاق والسياسة والإلهيات والاقتصاد وهو يعني أول ما يعني الانفتاح والتحررية واحتضان الآخر وبذل الجهد للتفاهم معه والتعاون والتبادل والمشاركة في الفضاء العمومي والمساهمة في المشترك البشري بطريقة مرموقة على جهة الإبداع والاستفادة وليس على جهة التقليد والصد.
كتاب المفكر الإيراني مصطفي ملاكيان: quot;العقلانية والمعنوية ،مقاربات في فلسفة الدينquot; عالج قضية العلاقة بين الليبرالية والإسلام في فصل بعنوان تجاذبات العلاقة بين الإسلام والليبرالية[2] وحاول أن يزيل سوء التفاهم الذي وضعه بعض التأويلين بينهما واشتغل على إسهامات المناهج العلمية في تصور المسلم لحياته من الناحية الأخلاقية والدينية والاقتصادية والسياسية مستفيدا من المرجعية الليبرالية، فكيف عالج هذا المفكر المتأثر بالمرجعية الهرمينوطيقية العلاقة بين الإسلام والليبرالية؟
بين ملاكيان أن اللبرالية تقف في المجال الأخلاقي على الضد من تصنيم القانون أو الشرع وتعمل على سن قواعد سلوكية على غابة من الإسهاب والتفصيل وتثبت الكثير من المرونة في التطبيق واليسر في الالتزام. كما تحارب التزمت السلوكي والجمود في العمل وتدعو إلى الحركة والتجديد والعصرنة وتعرف النظام الأخلاقي على أنه:ما لا يرى لكل الأوضاع والأحوال الممكنة قاعدة أخلاقية صارمة مضبوطة بل إن الكثير من الأمور تقع في quot;منطقة الفراغquot; . وكشف عن أن الليبرالية لا ترى وجوب إتباع القانون الأخلاقي دائما وأبدا إلا إذا نتج عي ذاك زوال أو فقدان هذا القانون.
بينما تنحاز الليبرالية السياسية إلى:
إحداث تغيرات تحصل وفق نظام وترتيب معين بعيدا عن الثورات والاضطرابات.
تقليص أو إلغاء الامتيازات والفوارق التقليدية بين الأفراد والشرائح والطبقات.
توسيع نطاق الفرص والإمكانيات.
ترحب الليبرالية بالتغيير ولكنها ترفض التحولات الفجائية والثورية والتعسفية.
كذلك تنادي بتقليص التراتبية المبنية على العرف واللون والجنس والانتماء والدين واللفة والوضع الاجتماعي والرأي.
ترى ضرورة توزيع الفرص والإمكانيات بين كل المواطنين بالتساوي وأهمها حق التمتع بشتى أنواع الحرية الطبيعية والأساسية.
تؤمن الليبرالية السياسية بالمبادئ التوجيهية والأفكار الناظمة التالية:
الإنسانية كانت ولا تزال وستبقى تسير في تطور مستمر.
الطبيعة الإنسانية هي طبيعة خيرة وطيبة.
الإنسان موجود حر يمتلك نفسه.
أصالة النزعة الفردانية تقوم على مبدأ تأكيد الفرد لحقوقه الذاتية واحترامه لحقوق المجموعة التي ينتمي إليها والمجموعات الأخرى.
حقوق الفرد تجاه السلطة متلازمة مع واجبات السلطة تجاهه، فالسلطة مطالبة بترك الحريات وصيانتها وخاصة حرية التعبير والسلوك.
التحرر من القيود الاجتماعية ومن الإكراه المذهبي والاصطفاف الإيديولوجي وذلك بتجديد النصوص القانونية بما يواكب روح العصر.
أما الليبرالية الدينية فهي تحمل ضد الدغمائية والتعصب واللاتسامح مع الأقليات وتسعى إلى تحطيم التزمت والجمود الذي يلتصق ببعض الكهنوتيين.
ترى أن حقائق الدين الأصلية لا تقترن اقترانا ضروريا بأي نمط ثقافي بل تبقي على نفسها محايدة ومتعالية فوق الخصوصيات ومتفاعلة مع العديد من الأنماط الثقافية على مر العصور وباختلاف المجتمعات.
تخضع النظم الفكرية والدينية القديمة إلى تأثيرات الثورات العلمية ومستحدثات المعارف البشرية المتجددة والخاضعة لجدلية الهدم والبناء.
تركز على البعد الأخلاقي التربوي للدين وعلى وظيفته النفسية والاجتماعية في مستوى الاستقرار النفسي للذوات والتلاحم والترابط في الجماعات وتترك مسألة العبادات والشعائر والطقوس في مرحلة ثانية ومتأخرة.
يقوم المفهوم العام لليبرالية على ما يلي:
سعة الصدر والثقة بالنفس وتقبل الآخر.
التركيز على أن يكون التغيير وفق نظام وسياق سلمي تدريجي.
احترام حرية الفرد وقيمته بلا أي تمييز بين إنسان وآخر.
الليبرالية الاقتصادية تفيد اعتماد الاقتصاد الرأسمالي وتشيع الملكية الخاصة والنزعة الفردية في الاستثمار والربح وذلك بتقديس قيم السوق واعتماد منظومة التجارة الحرة وإبداء مرونة تجاه البضاعة الأجنبية وتفعيل آلية المنافسة والاحتكام إلى مبادئ الجودة والمردودية. لكن إذا كان هذا هو تعريف الليبرالية فماذا سيكون حال الإسلام؟
من الضروري التمييز بين ماهو تقليدي وماهو حداثي في الإسلام وبين جوهر الدين والمذهب الخاص وبين المعطيات المنزلة عن طريق الوحي والاجتهادات التي أضافها الناس لها.
الإسلام التقليدي يرى أن حجية وقيمة العقل البرهاني ترتبط بقدرته على اكتشاف واستنباط الحقائق من الكتاب والسنة ويشدد على المظاهر والشكليات والطقوس والعبادات، ولذلك فهو إسلام شرائعي يرى أن كل شيء متعلق بأحكام الشريعة والفقه ويؤمن بمنطق الفرقة الناجية ويرفض التعددية والاختلاف ويعارض كل نظام حكم لا يتقيد بالشرع ويعمل على تأسيس المجتمع على الأحكام الفقهية ويعارض الثقافة والقيم الغربية ويقر بأن الدين يلبي كل احتياجات الإنسان مادية دنيوية أو معنوية أخروية. في المقابل هناك فهم تقدمي للإسلام يركز على البعد المعنوي العقلاني.
إن المعنوية التي تجمع بين الروحانية والدنيوية هي جوهر الدين والمقصد من تدين الإنسان هو تخفيف المعاناة والألم وتحقيق السكينة والأمل والبهجة.
يمكن التمييز بين التدين والدين والتاريخ فالدين ظاهرة اجتماعية تتكون في تاريخ وتتطور على مر العصور أما التدين فأمر فردي ناتج عن رغبة فطرية تنتاب الإنسان وتجعله يتعلق بالمطلق ويبحث عن هدف سامي لحياته ولا يرضى بماهو محدود.
ويرى وجود ثلاثة معاني للدين هي على النحو التالي:
1) تارة أريد من الدين مجموع النصوص المقدسة للأديان والمذاهب الموجودة في عالم اليوم. المعنى الأول يعنى بالنصوص المكتوبة والمقدسة لدى الأديان.
2) وتارة أخرى أقصد من الدين مجموع الشروح والتفاسير التي أحاطت بتلك الكتب والنصوص. المعنى الثاني يراد منه النظريات والآراء والعقائد التي ترجع إلى أكثر من حقل معرفي( فقه، أخلاق، إلهيات، عرفان، فلسفة) بل يشمل بعضها الآراء والنظريات الوضعية كالتاريخ والجغرافيا.
3) وتارة ثالثة أقصد منه جميع الأعمال والممارسات التي قام بها أتباع دين معين على مر التاريخ مع إلحاق النتائج والآثار التي ترتبت على تلك الأعمال والممارسات.[3]
التدين هو التجربة الشخصية والممارسة الفردية للإنسان ويتسم بتنوع كبير لأنه حالة وجدانية تحدث للمتدين يختلط فيها الجانب العقائدي مع العبادات والأخلاق وتتحقق هذه الحالة تدريجيا حينما تختلج في ضمير الإنسان جملة من الأمور الغيبية والتي يريد أن يترجمها على صعيد الجوارح.
يقوم الإسلام الحداثي على إيمان عميق بأن العقل هو مصدر من مصادر المعرفة إلى جانب كونه أداة لا غنى عنها لاكتشاف واستخلاص حقائق الكتاب والسنة، يؤكد على الروح والمضمون بالنسبة لرسالة الإسلام وليس على الظواهر والشكل.
يرى ملاكيان أن التدين هو أن يعيش الإنسان حياة أخلاقية وأن يخضع حياته إلى جملة من القيم والمبادئ الإنسانية الوجدانية وحتى أحكام الشريعة والفقه فهي تقبل التغيير لأن معظمها من صنع الزمان والمكان والظروف.
لا يسعى الإسلام الحداثي إلى إقامة حكومات على أساس شرائعي فقهي بل يدرج نفسه ضمن ثقافة المجتمع المدني ويدعو إلى الإصلاح الديمقراطي وتحديث أنظمة الحكم وآليات التسيير والتنظيم للعلاقات بين الأفراد والهيئات والتحكم في الشأن العام.
يؤمن بافتراق الشأن السياسي عن الشأن الديني وبتخفيف تواجد الرموز الدينية في المجال السياسي وينادي باحترام التنوع والاختلاف وقيام تعددية سياسية حقيقية.
يعترف الإسلام المستنير \انه في حاجة إلى رؤى أخرى مثل الفن والعلم والفلسفة من أجل تلبية الحاجيات المادية والمعنوية للبشر ولذلك نراه يدافع عن كل القيم الكونية بما في ذلك الثقافة الغربية وخصوصا عندما تتخلى عن تمركزها حول ذاتها وتسعى إلى خدمة الإنسان أينما كان.
يطالب الإسلام الحداثي المتدين أن يكون فردا عقلانيا مزودا بقيم الحداثة ومتجذرا في تراثه متفهما لماضيه ومزودا بفلسفة حياة ورؤية للعالم تنتمي إلى المعايير الجديدة وأن ينخرط في ممارسة نقدية تفكيكية لكل الأقوال والأفكار والأفعال وأن يتبنى أخلاقا كونية ويكون مطمئنا دون الاعتقاد الوثني في أي حقائق نهائية وأن يكون صريحا مع ذاته مستعدا للتضحية ومبتعدا عن كل نزعات التأله والشخصنة.
نستخلص من هنا أن الإسلام الحداثي يتفق ويتلاءم مع الليبرالية خاصة على المستوي الديني والأخلاقي والسياسي وأنه من حيث الجوهر دين الحرية وكل ما يقال عن التناقض بينهما فهو مجرد رأي ظاهري وسوء فهم للإسلام في كونيته وإنسانيته.
كما ننتهي إلى القول بضرورة الإشادة بالمحاولة الرائدة للمفكر الإيراني ملاكيان في قراءة الإسلام قراءة عقلانية تأويلية ولكن يمكن اعتبارها محاولة ظلت حبيسة النزعات العرفانية وحتى مفهومه عن المعنوية فانه بقي قريب من النزعة الاشراقية التي خطها ابن سينا والتي مازالت المدرسة الفلسفية الإيرانية متأثرة بها إلى الآن، فمتى نرى اليوم التي يؤسس فيها حكماء حضارة اقرأ فلسفة دين بالمعنى الحقيقي للكلمة ومميزة عن اللاهوت وعن علم الكلام؟ وماهي شروط إمكان قيام هرمينوطيقا للوحي الإسلامي فيها؟
في نهاية المطاف لا يقتصر الإسلام الحداثي فقط على المواءمة مع الليبرالية بل نراه يستفيد أيضا من عدة مناهج وينهل من عدة مرجعيات تحديثية أخرى كالوجودية والبراغماتية والريبية والتفكيكية، الأمر الذي يدعونا إلى التساؤل عن حال الإسلام منظورا إليه من زاوية تقليعات ما بعد الحداثة المجنونة والغريبة، فهل يؤدي ظهور مفهوم جديد عن الإسلام المعولم والمابعد حديث إلى التخلي عن الإسلام الحداثي؟ وهل بدأت الإنسانية تحلم بعصر ليبرالي دون دين أم أن الأمر يتعلق بتصور للعالم ما بعد ليبرالي؟

كاتب فلسفي

[1] مصطفي ملاكيان، العقلانية والمعنوية ،مقاربات في فلسفة الدين، ترجمة عبد الجبار الرفاعي وحيدر نجف ،دار الهادي للطباعة والنشر الطبعة الأولى بيروت 2005ص 94
[2]مصطفي ملاكيان، العقلانية والمعنوية ،مقاربات في فلسفة الدين، ترجمة عبد الجبار الرفاعي وحيدر نجف ،دار الهادي للطباعة والنشر الطبعة الأولى بيروت 2005ص439
راجع في هذا الأمر كتاب: مصطفي ملاكيان، العقلانية والمعنوية ،مقاربات في فلسفة الدين، ترجمة عبد الجبار الرفاعي وحيدر نجف ،دار الهادي للطباعة والنشر الطبعة الأولى بيروت 2005ص 177[3]