يوميات المقاومة الليبية ضد الاستعمار الإيطالي بقيادة القبائل في برقة، وإظهار بطولات الشيوخ والشعراء في دعم التحالف مع البريطانيين أثناء الحرب العالمية الثانية.
د. حامد عبدالعاطي آلعبيدي: بعد التهدئة النهائية في عام 1929، عندما قُتِل نصف السكان العرب في برقة على يد الجنرال غراتسياني، حاول الإيطاليون المصالحة (إقرأ الحلقة الأولى هنا). تم منح عبد القادر بوبريدان رتبة فارس، أو كاڤالييري (Cavaliere)، وتم منحه نجمة مرصعة بالجواهر كبيرة تُلبس على شريط أزرق عريض. ثم في بداية الحرب، تم استدعاؤه للمثول أمام الحاكم العسكري، الجنرال پياتي، كما أخبرنا، وحذره من أنه ما لم تتوقف المساعدات العربية لأسرى الحرب البريطانيين الهاربين، فسيتم سحب وسامه منه.
"نزع النجمة والشريط، ووضعه في جيبه وسأله: "هل لم أعد فارسًا الآن؟".
"بالتأكيد لا"، قال پياتي غاضبًا. "لكنني ما زلت عبد القادر بوبريدان، أليس كذلك؟".
زأرَ الرجل العجوز ضاحكًا وهو يروي القصة، وأراني النجمة وكرر: "هل ما زلت عبد القادر بوبريدان؟".
ثم دعا الشاعر علي بو عاس أو Ali bu As، كما أورد پينياكوف اسمه في الكتاب، ليقدم لنا قصيدته عن غراتسياني.
كانت قصيدة تتألف من العديد من المقاطع، وكل بيت فيها ينتهي بنفس القافية. كان الأداء بطيئًا وواضحًا ومؤثرًا ومُشَددًا عليه بشدة. تحدثت القصيدة عن قسوة غراتسياني، وعن الشيوخ المتمردين الذين خطط لإلقائهم أحياء من طائرة فوق خيامهم، وعن الترحيل الجماعي لكل عرب الجبل وأسرهم وماشيتهم إلى مرسى البريقة، وعن خياناته وبلطجته.
ثم استمرت القصيدة في سرد هزيمته الساحقة على أيدي الإنجليز، وانتهت بسخرية بمقابلة خيالية بين غراتسياني وموسوليني.
تقدم العديد من الشعراء الآخرين بمؤلفاتهم التي تشير إلى حوادث في تاريخ القبيلة، بعضها يعود إلى أيام ما قبل الإيطاليين من الحروب بين القبائل، ويحتفل بهزيمة البراعصة في لملودة. البراعصة من إخوة العبيدات ومن قبائل الجبل الأخضر القوية، ولا زالت كذلك.
لكن الجزء الأكبر من القصائد كان عن النضال ضد الإيطاليين، الذي شكل الخلفية لهؤلاء الناس لجيلين.
الشيخ علي بو عاس، المحارب العجوز ذو اللحية البيضاء، الذي كان بعين واحدة فقط، كان شاعرًا مرموقًا في القبيلة.
پياتي يكاتب موسوليني
كان الشاعر في القبيلة قد اعتكف في تلك الأثناء واختلى بنفسه. وكنت أراه على ضوء النار، وهو يتمتم ويضرب بيده. وعندما بدأ في إلقاء القصيدة، توقف كل الحديث، لأنه كان موضع إعجاب.
لقد روى فيها أحداث هذه الأيام: عن النداء المثير الذي وصل إلى العرب في مراعيهم المنعزلة، عن المسافرين الذين يتجمعون ليلًا ونهارًا عند وادي القصور، وعن الرائد الإنجليزي وخطابه الغريب، عن كلمات الشيوخ العظماء، عن صبي الجمل المتلعثم، وعن العشاء والوليمة وتلاوة الشعر.
لقد أثار ضحكًا كبيراً عندما وصف پياتي، الحاكم الإيطالي لبرقة، المتغطرس والمخدوع، وهو يكتب إلى موسوليني أن كل شيء على ما يرام في الجبل.
واختتم بنبوءة عن الهزيمة النهائية والمذبحة التي سيتعرض لها العدو، ومجد الجيش الإنجليزي، والأمير سيدي إدريس، والعرب بشكل عام، والعبيدات بشكل خاص.
نام ضيوفي واحدًا تلو الآخر. لفّ الشيخ عبد القادر بوبريدان رأسه وجسده برداء يسمى "الجرد" (جرده الأسود)، ثم استلقى بجانب النار. وتقاعد علي بو حامد إلى كهف، وصعدت إلى وكري على ضوء النيران المشتعلة.
أسلحة وذخيرة
في الصباح الباكر، ذهبنا إلى اللجان لمناقشة الترتيبات العملية. كنت أعرف ما هو متوقع وقلت إنني سأحضر الشاي والسكر والدقيق والقماش، بقدر ما تستطيع شاحناتنا أن تحمل من أسلحة وذخيرة. ثم أخذت كلًا من الشيوخ على انفراد وسألتهم عن الهدية التي قد تكون أكثر قبولاً لهم.
في منتصف النهار، خاطبت الحشد المجتمع بأكمله مرة أخرى. أخبرت الجميع أنَّ حكومتي تعهدت رسميًا بعدم السماح لبلادهم بالوقوع مرة أخرى تحت الحكم الإيطالي بعد انتهاء الحرب بالنصر. وقد صدقوا ووثقوا بكلمتي وأعربوا عن امتنانهم اللائق المهذب.
كان هناك مطلب آخر أرادوا مني أن أحسمه: يجب منع الصقليين (المستوطنين الإيطاليين) من العودة إلى مزارعهم بعد الحرب. لقد ناقشت الأمر على انفراد وحاولت تجنب إثارة المسألة، ولكن بما أن عبد القادر بو بريدان كان عازمًا على إثارة الأمر علنًا إذا لم أفعل، قلت:
"أما بالنسبة الى"الصقليين"، فعندما تحتل جيوشنا الجبل الأخضر، فإن أولئك الذين تركهم الجيش الإيطالي وراءهم سيتم ترحيلهم إلى طرابلس. وستتولى حكومتي المزارع وتتصرف فيها على أفضل وجه للمصلحة العامة".
لقد سَرَّ كثيرًا الحضور تأكيدي أن الصقليين المكروهين لن يظهروا مرة أخرى؛ وكانوا يحبوا أيضاً أن أتلقى وعدًا بالسماح للعرب برعي قطعانهم فوق الأرض التي حُرثت، ولكنهم لم يضغطوا عليّ من أجل ذلك.
شرعت في شكرهم، وتمنيت لهم حظًا سعيدًا، واختتمت حديثي بوعد بالقيام بأعمال مثيرة.
سلمني عبد القادر خطابين مكتوبين، أحدهما للقائد العام البريطاني، والآخر للسيد إدريس. وقد ناقشنا الصياغة إلى ما لا نهاية، وأخيراً دونها الشيخ عبدالجليل بوالطيب بقلم رصاص على أوراق انتزعها من محفظتي.
نفذت مخزوناتنا
انسل علي بو حامد العبيدي، وهو النحيف والغامض، مسرعاً خشية أن تشك القيادة الإيطالية بغيابه الطويل (هو وبعض من شيوخ العبيدات كانوا محل شك من الإيطاليين)، وغادر عبد القادر على مهل إلى مراعيه الجنوبية.
انطلقت إلى الرّتيّم مع سعد علي ومتولي الله. وبعد أن إستضَافتنا للكثير، نفذت مخزوناتنا، ولم يعد لدينا أي سجائر، وتأثر مزاج سعدعلي على هذا النحو. وأصبح سريع الانفعال إلى الحد الذي اضطررنا معه إلى التوقف عن مداعبته، فركب في صمت عابس.
عند حلول المساء، توقفنا عند بئر لسقاية الخيول، بالرغم من احتجاجاته المسيئة، لأنه كان يرغب بشدة في العودة إلى مخزننا ومخزن التبغ الخاص به. وكان مشتت الذهن إلى الحد الذي جعله عندما انطلقنا من جديد أن يركب من الجانب الأيمن، فوجد نفسه في السرج مواجهًا لذيل حصانه. فانفجرنا في الضحك، ورمقنا بنظرة غاضبة وكاد يفقد أعصابه: ثم أدرك محنته وانضم إلينا في مرح.
اتخذت موقفًا حازماً مع شيوخ قبيلة الدّرْسه عندما وصلوا في اليوم المحدد. وقلت لهم إن عملهم كان في وقت غير مناسب ومخطط له بشكل سيئ، ولن يسبب سوى الإحراج والفشل. وفي المستقبل، يجب عليهم أن يحرصوا على عدم القيام بمثل هذه العمليات دون أمري.
لقد كان هؤلاء المساكين في حالة من الضيق الشديد، بعد أن مروا بأوقات عصيبة، وفوق ذلك كانت هناك رحلة محفوفة بالمخاطر عبر المستوطنات الإيطالية لمقابلتي، وكانوا مثل الأطفال الذين خرجوا عن السيطرة، ووقعوا في مشاكل، ويرحبون بتوبيخ الكبار المريح. أخبرتهم أنني سأقدم لهم ما أستطيع من مساعدة في شكل أسلحة، لكن الأمر سيستغرق بعض الوقت، ونصحتهم في غضون ذلك بوقف العمليات على الفور والسكون.
تعليمات جديدة
أرسلت بالفعل في اليوم الأول من وصولي رسالة إلى جميع مساعدي العرب أطلب منهم أن يجدوا لي مستودعات بنزين أو وقود كبيرة (إن أمكن بدون حراسة) وقد أعطيت نفس التعليمات لكل مخبر عندما دخل إلى معسكري يحمل أخباراً؛ لقد أرسلت من رجالي ما استطعت إلى أجزاء مختلفة من الجبل في مهمة مماثلة. ولمنع اكتشاف النوايا، والذي قد تكشفه وتسببه أي تحقيقات وأعمال انتقامية، جعلت الجميع يعتقدون أنه عندما يتم العثور على مستودعات البنزين، فسوف يتم قصفها من الجو. وبمجرد أن تمكنت من تحرير نفسي من الواجبات الإدارية، ذهبت واستدعيت عبدالجليل بوالطيب، مستشاري الروحي، وأقنعته بضرورة مهمتي. لقد تذكر أنه ربما يعرف رجلاً سيكون قادرًا على مساعدتي، ووعد بإرساله بمجرد العثور عليه.
بعد يومين، في مقري الرئيسي، أحضروا لي عربياً رث الثياب قصيراً نحيفاً إلى حد ما. لقد تجاوز عن كل المقدمات ما عدا المجاملات البسيطة، وبصوت خفيض ومتعمد بشكل غريب قال إن اسمه محمد العبيدي، أرسله الشيخ عبد الجليل بو طيب، وإنه يعرف مستودعاً للوقود الإيطالي في جوار مكان يُدعى القُبة (أو كما يسميه الإيطاليون: جيوفاني بيرتا)، وإن خيمته ليست بعيدة عن المستودع، وإنه يعرف المنطقة جيداً. وبعد أن قال كل هذا، وقف صامتًا منتظرًا.
كان وجهه متأملًا، وبدا وكأنه يتبع نمطًا معقدًا من التفكير الداخلي. رجل جاد، قاتم، قليل الكلام، عندما يكون راضياً أو سعيداً، وهو ما يحدث نادرًا، لا يضيء ملامحه سوى طيف ابتسامة.
كان جنديًا عجوزًا، أمضى حياته في قتال الإيطاليين، وكان يعرف فضائل الصبر الطويل والعمل السريع على حد سواء. لقد أحببته منذ اللحظة الأولى.
أخذ الاستجواب مجراه:
- هل تعرف مستودع الوقود؟
- نعم.
- هل رأيته بنفسك؟
- كنت فيه.
- كيف تعرف أنه يحتوي على البنزين؟
- لقد رأيت البراميل السوداء.
كم عدد البراميل الموجودة؟
- لا أعرف.
- هل يوجد ألف برميل مثلاً؟
أجرى عملية حسابية ذهنية وقال: "أكثر".
- ألفان؟
- لا أعرف.
- متى تم إنشاء مستودع الوقود هذا؟
- في الشتاء، بعد وقت قصير من عودة الإيطاليين بعد رحيل القوات البريطانية.
- هل تم استخدامه منذ ذلك الحين؟
- لا.
- أين يقع مستودع الوقود؟
- قرب منازل القبة إلى الشرق. جنوب الطريق.
- كم يبعد عن المنازل؟
- لا أعرف. قريب!
- هل تستطيع رؤية المنازل من مستودع الوقود؟
- يمكنك رؤية الحصن.
- هل يوجد حارس؟
- لا، يوجد سياج سلكي شائك على الأعمدة.
- هل يوجد أي قوات في الحي؟
- هناك معسكر الخيام شمال الطريق. في القرية توجد الورش حيث يصلح الإيطاليون الشاحنات، والمتاجر حيث يوزعون الحصص الغذائية. في الليل، تدخل الشاحنات التي تسير على الطريق إلى موقف السيارات (كانت القبة في ذلك الوقت نقطة انطلاق على خط الاتصال الألماني الرئيسي).
- هل يمكن رؤية مستودع الوقود من الجو؟
- لا أعرف.
- هل براميل البنزين مغطاة؟
- لا. ولكن هناك أشجار والمكان كله مغطى بالشوك.
- هل يمكنك أن تأخذني إلى مستودع الوقود؟
- يمكنني أن آخذك داخل السلك ليلاً. لا توجد صعوبة.
- حتى لو كنت أرتدي الزي العسكري؟
- حتى لو كنت بالزي العسكري.
أحببت محمدالعبيدي أكثر فأكثر. كانت معلوماته دقيقة ومباشرة. كُنت متأكدًا من أنه لا يمزح. وإذا كان هناك حقًا أكثر من ألف برميل من البنزين سعة أربعين جالونًا في ذلك المخزن ونجحت في تفجيره في اللحظة المناسبة، فقد يكون هناك قدر ضئيل من "الذعر واليأس" في معسكر العدو بعد كل شيء.
لقد أخبرت تشاپمان أنني سأغادر إلى القبة. بعد ظهر اليوم التالي، اصطحبت شيڤالييه معي وأحد العرب، وطلبت منه أن يرسل فرقة تفجير وتدمير مكونة من ثلاثة عرب تحت قيادة شورتن تكون على اهبة الاستعداد حتى أرسل التعليمات. كان شورتن في مخزن المؤنة في وادي القرنه، ولكن من المقرر أن يعود بعد يومين.
"أنشروا الذعر واليأس"
في تلك الليلة، وصلتني رسالة على اللاسلكي، مفادها: "أنشروا الذعر واليأس". لذا فقد حان الوقت، كما اعتقدت، حيث بدأ الجيش الثامن الهجوم. كان التاريخ، على ما أعتقد، 18 أيار (مايو) 1942. في اليوم التاسع عشر، في وقت متأخر من بعد الظهر، انطلقت مع شوڤالييه ومحمدالعبيدي وأحد العرب من الرّتيّم.
تم توقيت الرحلة لتأخذنا عبر طريق مرتوبة حوالى الساعة الثانية صباحًا والوصول إلى سيدي بوحلفايا قبل شروق الشمس. عندما وصلنا هناك، أخذنا محمدالعبيدي إلى خزان مياه روماني ضخم جاف محفور في الصخر يقع أعلى نتوء صخري. تم ترك الخيول للرعي، استرخينا وشربنا الشاي في الخزان المكون من ثلاث غرف، والذي كان من المقرر أن يكون منزلنا للأسبوع التالي.
عند الفجر، شققت طريقي بحذر إلى الحافة الغربية للنتوء.
على بعد بضعة أمتار من فتحة الخزان، كان ينحدر جرف عمودي على ارتفاع ثلاثمئة قدم إلى الوادي أدناه. على يساري، على بعد نصف ميل على الجانب الآخر من الوادي، كان بإمكاني أن أرى مستودع ذخيرة إيطالياً مع شاحنات محملة، وإلى اليسار، امتدادًا من طريق مرتوبة الالتفافي حيث بدأت القوافل اليومية تثير الغبار. إلى اليمين، انفتحت بانوراما واسعة على الأفق على بعد ستة أميال.
أمامنا النصب التذكاري الإيطالي الطموح الذي يقف على التلال خلف القُبه. كنا نتناوب أثناء النهار، أنا وشيڤالييه، على النوم ومراقبة مستودع الذخيرة الإيطالي من خلال نظاراتنا.
استطلاع الهدف
قد يوفر هذا المستودع هدفًا بديلًا مفيدًا، إذا لم يكن من الممكن، لسبب ما، محاولة الوصول إلى مستودع البنزين في القبه، وطلبت من شيڤالييه استطلاعه عن قرب في ساعات الظلام من الليلة التالية، آخذًا معه جندينا الليبي، بينما ذهبت إلى القبة مع محمد العبيدي.
بدأت فور حلول الظلام - مبكرًا جدًا حقًا - لأننا كنا منزعجين جدًا من نباح الكلاب واضطررنا إلى استعمال طرق ملتوية متكررة لتجنب الخيام العربية حيث لم يكن السكان نائمين بعد. لم أكن أرغب في أن يراني أي شخص على مقربة من مركز مهم للعدو. ومع ذلك، بالكاد كان من الممكن تجنبه وعندما ظهر فارس قادمًا نحونا مباشرة، كان علينا التوقف والترحيب به، لأن أي مسار آخر كان سيجعلنا مشبوهين. وبينما كان محمدالعبيدي، الذي تغير سلوكه الصامت المعتاد، ينخرط في حديث طويل مع الفارس (عربي عائد إلى خيامه بعد يوم قضاه في القبة)، أطلقت بعض العبارات غير مفهومة وانجرفت بعيدًا عن الأنظار في الظلام: سمعت محمدالعبيدي يشرح سلوكي الفظ قائلاً إنني تاجر ثري من واحة جالو أسافر إلى درنة وأنني غاضب جدًا وجائع لأن محمد، مرشدي، قد أخطأ وضل طريقه.اعتقدت أن القصة لن تصدق، لكن الرجل الآخر تقبلها بلباقة وتعاطف مع محمدالعبيدي بشأن المتاعب التي يواجهها المرشد.
عرض أن يأخذنا إلى خيمته ويقدم لنا وجبة، لكن مرشدي تمكن من التحرر بأدب وانضم إلي، بضحكة مكتومة. يجب أن ندرك أن محمد العبيدي هو الرجل الذي خاطر بحياته في هذه المغامرة، وليس أنا: إذا حدث الأسوأ، أصبح شخصياً أسير حرب محترمًا، ولكن صديقي الذي يصحبني كان هناك احتمال قوي أن ينتهي مُعَلقًا بخُطاف حديدي في الفك (تعليق من يتعاون من البدو الليبيين بخطاف من الفك وهم أحياء كانت هي الطريقة المفضلة لدى المستعمر الإيطالي لردع تعاونهم مع الإنجليز والحلفاء. لقد كانت تلك هي الطريقة الإيطالية اللطيفة في التعامل مع العرب الساخطين او العاصين).
بعد ذلك بقليل، نزلنا إلى خيمة شقيق محمد العبيدي، حيث تركنا خيولنا ومشينا لمدة عشر دقائق إلى مستودع الوقود.
كانت الخيمة محاطة بسياج ريفي من ثلاثة أسلاك تغطي حوالي عشرة أفدنة من الأرض الشائكة، المرصعة بالأشجار والمغطاة بأشواك جافة طويلة.
كان البنزين موضوعًا في مجموعات من 25 إلى 30 برميلاً ملقاة بالقرب من بعضها البعض على الأرض. كانت المجموعات متناثرة بشكل غير منتظم بين الشجيرات، ولكن لم يكن من الصعب تمييزها، حتى في هذه الليلة التي لا يشرق فيها القمر. لمدة ساعتين مشيت ذهابًا وإيابًا داخل السلك، أحصي المجموعات وأدون ملاحظات ذهنية عن المعالم. وجدت 96 مجموعة: بمعدل 27 برميلاً لكل مجموعة، تحتوي كل منها على أكثر من مئة ألف جالون من البنزين. بدا الأمر جيداً - تساءلت عن أي عقبة قد تواجهنا؛ باستثناء واحدة أو اثنين، كانت جميع البراميل التي رفعتها ثقيلة وممتلئة على ما يبدو. باستخدام أداة أحضرتها معي، قمت بفك بعض السدادات وتأكدت من أن المحتويات كانت بنزيناً بالفعل. لقد افادني وخدمني محمد العبيدي في هذا جيداً.
لعبة الغميضة
جاء الشيخ علي بو حامد العبيدي راكباً جواده في وادينا، وأوقف فرسه أمام الشجرة التي كنت أجلس تحتها، وترجّل و عانقني. لم أره منذ مؤتمر الشيوخ في كاف القصور منذ زمن بعيد كما يبدو. ونظراً لحذره، كان آخر رجل أتوقع أن يزورني (في وضح النهار أيضاً) في وقت تلاشت فيه كل الآمال في التحرير السريع لبرقة.
دخل في الموضوع ومباشرة إلى النقطة المهمة: لقد تناهى إلى علم الجنرال پياتي، الحاكم العسكري، إشاعة أن ضباطًا بريطانيين بأجهزة اتصال لاسلكي يعملون في جنوب الجبل الأخضر في وادي الرملة.
كان الجنرال مطلعًا جيدًا على ما كان يحدث داخل قيادته: لقد عاد الإنجليز جميعًا إلى مصر - في الواقع سيتم طردهم من مصر قريبًا جدًا - ولم يكن يوافق على إضاعة وقته بقصص وإشاعات.
قال علي بو حامد آلعبيدي: "ثم استدعاني أنا والشيخ عبدالجليل بوالطيب، قريبي، وشيوخ آخرين من قبيلة العبيدات، وأخبرنا أن معلوماته تفيذ بوجود ضباط إنجليز في وادي الرملة. أقسمنا جميعًا أنه لم يكن هناك ضابط بريطاني واحد طليق في الجبل بأكمله. في الماضي ربما كان هناك ضابط أو اثنين، دخلو وخرجوا مرة أخرى، عندما كانت خطوط الجيش الإنجليزي في غزالة (المترجم: يقصد عين الغزالة) ولكن منذ فترة طويلة، لم نسمع حتى شائعات عن حدوث أي شيء من هذا القبيل. قال پياتي إن من واجبنا أن نعرف، وليس أن نروج الشائعات، وكان عازمًا على حسم الأمر مرة واحدة وإلى الأبد.
- لذلك فهو سيرسل دورية عسكرية آلية لتمشيط منطقتك، بحثًا عنك.
- سأسافر أنا وعبد الجليل معها، وسنغادر جميعًا من المخيلي ظهر غد. إذا تم العثور عليك، فسوف نشنق أنا وعبدالجليل.
- "باركك وحفظك الله"، قلت. "إلى أين ننتقل الآن؟
قررنا أن ننتقل إلى المخبأ التالي. وعدني علي بو حامد بإرسال مرسال أو عدّاء كل ليلة يحمل أخبار الدورية الإيطالية، ثم استأذنته منصرفاً. حملنا أمتعتنا القليلة، ومحونا آثارنا وانطلقنا. كان لدينا حراسة من عربيين متمركزين في Zumlet en Nawamis (المترجم: الأقرب أنه يقصد حقفة النواميس، القريبة من المخيلي) وهي تلة بارزة كانت ملتقانا مع Long Range Desert Group أو اختصاراً .L.R.D.G. أرسلنا إليهم رسالة لإبلاغ دورية أو L.R.D.G إذا ظهرت، أن تبقى بعيدة حتى يزول الخطر.
خلال الأيام الخمسة التالية، لعبنا لعبة الغميضة مع الدورية الإيطالية. كل ليلة، وفقًا للاتفاق، كان يصل عدّاء ويخبرنا بالطريق المقصود للغد، وكنا نتحرك وفقًا لذلك.
طبت هذه الأحداث في صالحنا بالتأكيد، ولكنها كانت حدثًا رياضيًا: فقد قاد الإيطاليون شاحناتهم، بينما سار حوالى 50 فرد منا، تاركين وراءنا أثرًا واضحًا، وقد قيدنا تجوالنا بسبب الحاجة إلى البقاء على مسافة ليلة واحدة من أحد الآبار الأربعة الوحيدة المتاحة، حيث لم يكن بوسعنا حمل أكثر من إمدادات يوم واحد من المياه. وقد افترض الإيطاليون بسذاجة أننا سنختبئ في أحد الأودية الرئيسية حيث يمكن للشجيرات والكهوف أن توفر لنا قدرًا معينًا من الغطاء، فتمسكوا بهذه المجاري المائية؛ لكننا لجأنا إلى الهضبة المفتوحة المرتفعة بين الأودية. ولم توفر لنا هذه الهضبة المتموجة بلطف من الحجارة والحصى، والتي تنتشر عليها الشجيرات بشكل متفرق، أي أماكن للاختباء، وكانت معسكراتنا مرئية على بعد أميال. ولأنَّ الهضبة كانت في متناول حركة المرور بالسيارات، فقد كان بوسع الإيطاليين أن يخرجوا من الأودية، إذا أرادوا ذلك: وفي هذه الحالة كانت لديهم فرصة جيدة للقبض علينا. ومن خلال المحصلة بين الإدارة الجيدة لأصدقائنا العرب، الذين عملوا في الواقع كمرشدين لدورية السيارات الأيطالية، وبسبب عدم كفاءة الإيطاليين، نجحنا في الهروب، ولكن في اليوم الثالث اقتربوا منا كثيرًا حتى سمعنا هدير محركاتهم في الوادي. وفي الليلة الخامسة أشار الشيخ علي بو حامد العبيدي إلى أن الإيطاليين، الذين كانوا يتحركون الآن نحو الغرب، أعلنوا أن وادي الرملة أصبح خاليًا من الأعداء، ونصحني بالانتقال إليه. وجدنا مساحة كثيفة من الوادي مغطاة بالأشجار، حيث استرحنا في الظل، وأرحنا أقدامنا البائسة، وطلبنا من المهندسين من جنوب أفريقيا استئناف عملهم في البطاريات اللاسلكية.
عادت الدورية الإيطالية إلى ديارها بدون العثور علينا.
ضجيج المركبات
في صباح اليوم الثالث من استراحتنا، وبينما كان الرقيب يبلغنا أنه على وشك اختبار جهاز اللاسلكي بالبطارية التي أعيد تنشيطها، جاء أحد العرب الذي كان يراقب من أعلى أحد التلال حاملاً نبأ أنه سمع ضجيجًا لمركبات في اتجاه الجنوب الشرقي؛ وبعد ذلك بقليل أبلغنا رجل آخر أنه رأى للتو شاحنات مجهولة الهوية تتجه نحو الوادي، على بعد ميلين تقريبًا. أرسلت رسالة على طول الخط للاختباء وسرت إلى كوخ تشاپمان، حيث كان يعيش داخل شجيرة كثيفة ومرتفعة بشكل خاص.
وجدته يحلق ذقنه وأخبرته بالخبر. نظر إلى البندقية غير المعتادة في يدي وقال، بلا تأثر على الإطلاق:
- هل هناك أي شيء يمكننا فعله؟
فكرت في الخمسين رجلاً غير مسلحين في رعايتنا.
- لاشيء على الإطلاق!
- "حسنًا"، قال تشاپمان. "سأستمر في الحلاقة"، ثم رمى برغوة الصابون.
ألقيت سلاحي وجلست عند مدخل كوخ تشاپمان. كان رجالنا جميعًا قد اختبأوا وبالكاد يتنفسون: لكن القمامة المنتشرة كانت كافية لفتح عيون الإيطاليين علينا. استطعت الآن سماع الشاحنات المقتربة وهي تسير بسرعة منخفضة عبر الرمال الثقيلة. عندما رأيت أول شاحنة تقترب ببطء من خلال الفروع حول المنحنى في الوادي - فجأة اقتربت كثيرًا - نهضت وتقدمت لمنعها: إذا كنا سنستسلم، فليكن استسلاماً لائقًا ومنظمًا، دون أي اهتزاز وخوف من اجساد مترددة وبدون إطلاق النار. ومع اقتراب الشاحنة، تعرفت عليها: شاحنة شيڤروليه تزن ثلاثة آلاف رطل تحمل خمسة رجال ملتحين، وجوه مألوفة ومبتسمة من L.R.D.G. توقفت وقفز هانتر؛ صافحته، متظاهرًا بأنني كنت أعرف طوال الوقت من سيأتي. خرج تشابمان من كوخه عندما انتهى من الحلاقة.
كان هانتر وشاحناته السبع قد وصلوا قبل يومين: فزعًا من صمتنا على اللاسلكي، ظن أننا قد نكون في ورطة، فأسرع إلى نقطة الالتقاء في حقفة النواميس، حيث وجد عربيين أرشداه إلى معسكرنا.
كانت الأخبار التي أحضرها هانتر جيدة: فقد توقف العدو، مُنهكًا، في العلمين، خفت صيحاتنا وانتشرت روح الهجوم بين قواتنا منذ وصول قائد جديد للجيش الثامن. كانت هناك العديد من الخطط قيد التنفيذ، والتي كان يُعرف عنها فقط أن L.R.D.G ستكون جزءاً من هذه الخطط، وأن أحدهم قال إنه إذا كان لا يزال پوپسكي (الاسم الحركي للرائد پينياكوف وجيشه الخاص) حياً وطليقاً، فسوف يكون مطلوباً منه القيام بإحدى العمليات.
وبسبب هذا الاحتمال، طردت من ذهني أي ميل للسماح لهانتر بالعودة إلى مصر بدوني، وتنازلت عن عرش الجبل بكل سرور. لم يكن رعيتي السنوسية، على حد اعتقادي، آسفين لرؤيتي أرحل، وكانوا يتطلعون إلى استراحة من القلق المستمر على سلامتنا مؤخراً. وأكدت لهم أن بلادهم سوف تتحرر، وأنني سأعود قبل الشتاء؛ والغريب أنهم صدقوني، والأغرب من ذلك أن الأمر حدث كما قلت ووعدت.
ولكن قبل أن أذهب، أردت أن أنهي الأمور العالقة وأن أترك كل شيء على ما يرام. لقد استدعينا أولئك الدائنين الذين يمكن الوصول إليهم في الوقت المناسب، وعينَّا ممثلين للآخرين، وباستخدام الأموال التي أحضرها هانتر، قمنا بسداد جميع ديوننا. أرسلت فرسي البيضاء، بيردي بيرد، إلى علي بو حامد العبيدي، أعز أصدقائي بين السنوسيون، والذي كنت مدينًا له حقًا بكل النجاح الذي حققته بفضل دعمه السري والقوي.
في الحلقة الأولى: دور قبائل شرق ليبيا في الحرب العالمية الثانية
في الحلقة الثانية: في ليل ليبيا الدامس: تحالفات سرية وجواسيس ضد الاحتلال الإيطالي
في الحلقة الثالثة: في حضرة شيوخ الجبل الأخضر: رحلة إلى تاريخ ليبيا
في الحلقة الرابعة: النسور تنتظر ساعة الصفر: دعوة للثوار السنوسيين في معركة الجبل الأخضر
التعليقات