تغلغل العشق في أعماق قلبه، فصار الحب طيفاً يراوده ليلاً ونهاراً، يتسرب إلى كل خلايا روحه، رغم أن الواقع كان يحاول إبعاده، وأحس بتجاهلها الذي زاده إصراراً على إيصال مشاعره. فكان كلما اشتد الشوق، هرع إلى قلمه ليكتب إليها: "يا جميلتي، أأنتِ حقاً ساحرة بوجدانكِ الرفيع، أم قد حِزت منتهى الإحسان؟ أم أن براءتكِ هي التي أسرتني؟ خطواتكِ الواثقة، التي تبدو لي وكأنها جزء من سحر يجذبني نحوكِ بلا مفر. حتى عنجهيتكِ التي لا أرى فيها تكبراً، باتت تزيدني ارتباطاً بكِ. كيف لا، وأنتِ صاحبة الوجه النضر والإطلالة العذبة، المنتمية لأسرة محافظة، ما يزيد من قناعتي يوماً بعد يوم بتميزك عن أقرانكِ، عازفاً عن التفكير بأيّ أحد سواكِ".

لم تكن كلماته لتصل إلى قلبها، وظل شعوره عالقاً في سطور أوراقه. هذه الكلمات التي كانت تعبر عن فيض من المشاعر لم تجد طريقها نحو روحها، فتراكمت في داخله خيبة أمل كبيرة، ولكن مع ذلك لم يتوقف عن محاولة البوح بما يعتري قلبه. ورغم صمتها، كان يجدُ في نفسه شجاعة ليقترب أكثر، في تجربة لم تكن سهلة على قلبه، لكنه لم يكن يملك حيلة أخرى غير الاستمرار في المحاولة.

في إحدى المرات، قرر أن يكون أكثر صراحة؛ دخل غرفتها وحياها تحية مليئة بالحنين والأمل، فردت عليه بتلقائية، إلا أنها خرجت من الغرفة دون اكتراث. تركه هذا التصرف في حالة إحباط، فحاول أن يقنع نفسه بأن الأمر ربما جاء صدفةً، وأنّ إظهار مشاعره بهذه الطريقة قد أدهشها. ورغم ما اختلج في قلبه من ألمٍ، بقي الحب الوردي متيقظاً في أعماقه، منتظراً لحظة الاستجابة. ظل يتابع خطواتها برغبة قوية في الاقتراب أكثر، عله يجد في سحر عينيها إجابة تريح قلبه.

كان يقف مندهشاً أمام صفاتها، مأخوذاً برونقها وأناقة هندامها، وكأنها لوحة فنية تثير إعجابه. كان يرى فيها زهوة الأنوثة وجاذبية لم يستطع مقاومتها، فما زادته هذه الصفات إلا تعلقاً. انتظر كثيراً أن يثمر هذا العشق، بيد أن كل محاولاته لم تجدِ نفعاً، وواجه مع حبه هذا حصناً منيعاً، لم يستطع اختراقه. ومع مرور الوقت، لم يتغير الحال، لكنه وجد في داخله قدرة على المثابرة، رافضاً أن يُطفئ الشمعة التي تضىء قلبه أملاً بأن يتفتح حبّها له يوماً ما.

ولكن، وفي لحظة غير متوقعة، حدث ما لم يكن يتوقعه، تحول حديثهما إلى حوارٍ مشحون بالتحدّي. فجأة، واجهته بحدة لم يعهدها فيها، ووجد نفسه أمام موقف يختلف عن كل ما رآه فيها من رقة. لم يكن هذا التصرّف المبتذل متوقعاً من جانبها، ذلك الرد القاسي الذي أظهر عدم إدراكها لطبيعة علاقتهما أو فهمها للعلاقات الإنسانية الحضارية. كانت هذه الصدمة مؤلمة له، إذ كان يظنها قادرة على التعامل برقي وإنسانية، إلا أن ردها كشف له عن جانب آخر لم يكن يعرفه.

كانت النهاية بمثابة صفعة مفاجئة، حيث ظهرت له ملامح وجهها الحقيقية، تلك التي كانت مخفية وراء قناع من الرقة والخجل. لم تكن النهاية التي تصورها، فقد كان ينتظر من العلاقة أن تحمل معاني الإخلاص والود من الطرفين، بيد أن هذه النهاية كشفت له عن جانب من شخصيتها لم يكن يتخيله. ووجد في ردها ذلك الإهمال الفظ، الذي لا يصدر إلا عن شخص يخلو قلبه من التفهم والإحساس العميق بالآخر.

تأمل الموقف وبدأ يسأل نفسه: لماذا تصرفت بهذا الأسلوب؟ لماذا بدت كأنها تتجنب الحب وتواجهه بتلك البرودة؟ هل كان هذا تصرفاً يعبر عن إرث شخصي، أم هي قيود مجتمعية؟ لماذا لم تستجب لمحاولاته رغم صدقه؟ تساؤلات كثيرة بقيت تطرق ذهنه، وكأنما كان يتساءل عما إذا كان هذا هو ردها الحقيقي، أم أنه نتيجة ضغوط أو ظروف لا يعلمها.

على الرغم من هذا الألم، لم يستطع إلا أن يشعر بأن لديه عذراً لها. فقد كان يرى فيها ما هو أبعد من هذه اللحظة؛ كان يؤمن بأنها تحمل في داخلها بذوراً من الخير، حتى وإن ظهر تصرفها عكس ذلك. ومع أنه كان يتمنى أن يتعامل الموقف معها بغير هذا الأسلوب، إلا أنه بقي محتفظاً لها بمكانة خاصة في قلبه، غير قادر على طي صفحة حبها بسهولة، إذ كانت تشكل بالنسبة له جزءاً من أحلامه وتوقعاته للمستقبل.

كان يعاني من مشاعر متضاربة، وبدأت تتداخل لديه الأفكار حول طبيعة هذه العلاقة. هل كان حبّه لها حباً من طرف واحد؟ أم أنه كان يواجه شيئاً لا يستطيع تغييره؟ كان الحب يزهر في قلبه، رغم كل الألم الذي واجهه، لكنه أدرك في النهاية أن العشق لا يُفرض، وأن ما حدث كان خارجاً عن إرادتهما. فبقيت مشاعره لها كزهرة جميلة في قلبه، لن تذبل حتى وإن لم تلقَ الرد الذي كان يتمناه.

عاد إلى نفسه، وتذكر أنها ليست المرة الأولى التي يشعر فيها بهذا القدر من الخذلان، ولكنه عاهد نفسه أن يبقي هذه المشاعر في مكانها، وأن لا يسمح لها بأن تسيطر عليه. حتى وإن كانت النهاية لم تأتِ وفقاً لتوقعاته، فإنه سيظل يتذكر هذه العلاقة كذكرى جميلة، ذكرى تحمل في طياتها حباً صادقاً لم يجد ضالته.