في مشهد يجسد التضامن والوفاء، خاطب القائد البريطاني زعماء السنوسيين في الجبل الأخضر، مشددًا على أهمية دورهم في مواجهة الاحتلال. كان حديث القائد بمثابة وعد بالحرية وبناء الأمل، حيث دعاهم للانتظار بصبر، منتظرين لحظة الهجوم الحاسمة التي ستأتي مع النسور القادمة عبر البحر والسماء.

د. حامد عبدالعاطي آلعبيدي: واصل ڤلاديمير پينياكوف حديثه، فقال: "لقد عرض زعيمكم الروحي، وأميركم، الشيخ الجليل سيدي إدريس السنوسي، حفظه الله، مساعدته ومساعدة شعبه لملكي، الذي هو ملك إنجلترا (إقرأ الحلقة الأولى هنا). وفي الوقت الحاضر، تقاتل الكتائب العربية في المنفى جنبًا إلى جنب مع إخوانهم في السلاح الإنجليز، وأيضًا مع المؤمنين من الهند، ومع الرجال من أستراليا ونيوزيلندا وجنوب إفريقيا، بل في الواقع مع جنود من جميع أنحاء العالم. إنَّ العلم الأسود والأبيض للسيد إدريس، والهلال والنجمة للسنوسيين، يرفرفان إلى جانب علم ملك إنجلترا. ولكن هذا لا يكفي، فالحكومة البريطانية تعلم أنها لا تملك أصدقاء أكثر إخلاصًا، ولا حلفاء أكثر حرصاً على الانضمام إلى المعركة منكم، أيها العرب السنوسيون في الجبل، منكم المجتمعون هنا اليوم، أيها العرب من قبيلة العبيدات، المضطهدون، والمغزوون، والمذبوحون، ولكنهم لم ييأسوا، والمطرودون من مراعي آبائهم على أيدي المستوطنين الصقليين الأشرار. إنَّ رجالكم الفقراء، الجائعين، ما زالوا رجالاً ومقاتلين إلى الأبد، إنَّ حكومتي تعرفكم وتريد مساعدتكم".

عيون وآذان الجيش البريطاني
ردد عبد القادر بو بريدان: "مضطهدون، ومغزوون، ومذبوحون، ولكنهم لم ييأسوا، والمطرودون من مراعي آبائهم على أيدي الصقليين الأشرار". وترددت همهمة تقدير مرة أخرى من الحشد. بحلول ذلك الوقت، كانت الكلمات الكبيرة قد نفذت مني، وكان علي أن أكمل خطابي باللهجة العامية، بلهجات مختلطة، فقلت: "إن حكومتي تريد مساعدتكم، ولتحقيق هذه الرغبة، فأنا هنا معكم وسأبقى معكم، أنا قائد القوات المتحالفة في الجبل الأخضر. أريد من شيوخكم، أريد منكم جميعًا أن تخبروني بما تحتاجون إليه، وإذا كان ذلك ممكنًا، سأوفره لكم. أريدكم أن تعلموا أنه بإمكانكم اللجوء إلي عندما تكونون في مشكلة. أريد منكم جميعًا أن تساعدوا أولئك الذين هم من قومي ممن سأحضرهم إلى هنا، بتوجيههم وإيوائهم. وفوق كل شيء أريد منكم أن تزودوني بكل المعلومات التي يمكنكم الحصول عليها عن العدو. أريد منكم أن تكونوا عيون وآذان الجيش البريطاني".

نحتاج إلى كل بندقية
كنت مرهقًا نوعًا ما، ولكنني سعيد جدًا لبلاغتي، وكنت على وشك الجلوس، عندما لفتت انتباهي نظرة قلق من علي بو حامد العبيدي، وتذكرت أن الأمر الأساسي لم يُقل بعد، لذا بدأت مرة أخرى: "نحن أقوياء وواثقون من النجاح ولكن الله وحده يعلم ساعة النصر، وفي الوقت نفسه، نحتاج إلى كل رجل قادر على إطلاق البندقية، وسوف يتم استدعاؤكم أيضًا. أنتم جميعًا محاربون، يتمتع العديد منكم بخبرة أكبر بكثير في الحرب مني، لذلك ليس من شأني أن أُذكركم بأنه في الحرب يجب أن تضربوا في اللحظة المناسبة. إذا ضربتَ في اللحظة الخطأ، فلن تنجو، لا أنت ولا إخوانك، كي تندم على الخطأ، وسيفرح العدو. ما لم أخبركم به، يمكنكم تخمينه، ما سأخبركم به الآن، هو أن اليوم ليس هو الوقت المناسب لكم للضرب وللحرب، أقول لكم أيضًا إنَّ اللحظة ستأتي، وسأكون هناك لأعطيكم الأوامر وأزودكم بالأسلحة لمحاربة عدوكم".

طيور... نسور!
صمتت وتوقفت، كأنني غير واثق من وقع حديثي، ورحت أراجع نفسي حول مدى صواب قول المزيد، ثم ملت برأسي وخاطبت عبد القادر بو بريدان العبيدي بصوت منخفض: "سأخبرك بشيء سيجعلك تفهم لماذا أريدك أن تنتظر. نحن نعد مفاجأة للعدو، مفاجأة قادمة عبر البحر، ومن السماء. عبر البحر، ومن السماء. هل تفهم؟". حدق عبد القادر بتركيز حتى جحظت عيناه نوعًا ما، وقال غير مصدق: "بكل تأكيد أفهم". والتفت إلي علي بو حامد العبيدي فقال بهدوء ووضوح: "أفهم تمامًا، معالي الرائد، طيور، نسور".

أعشاش وبيض
ثم التفت إلى سعد علي، وكأنني أسأله أيضاً ما إذا كان قد فهم، لكني سألته بصوت منخفض جداً هل الرجل العجوز المقابل لي ذو اللحية الرمادية وعصا الجمل هو رجل مهم! نعم ايها الرائد، أجاب سعد علي بصوت عالٍ جداً، أعرف ما تقصده، وهمس بإسم ذلك الرجل، إنه طيب بوجبرين أو جبريل (Tayeb bu Jibrin). مشيت نحو الشيخ العجوز، وسألته: هل تفهم طيب؟ أومأ برأسه بجدية انه فهم. ثم جُلْتُ حول حلقة مستمعي الى عبد الجليل بوالطيب: وأنت؟ ثم متول الله: وأنت؟ وأنت؟ وفجأة أجاب الحشد في المكان: لقد فهمنا.

عدت إلى مكاني واستأنفت: "عندما تكون المفاجأة جاهزة، ستكون ساعتكم قريبة جداً. لقد سمعتم الشيخ علي بو حامد، حيث قال: النسور! ستحتاج نسورنا إلى أعشاش لوضع بيضها فيها. أنتم جميعاً، ستبحثون عن أعشاش لبيض نسورنا. هذا سيكون عملكم الآن. وستتفاجأ الأعشاش". صدرت ضحكة مكتومة لائقة من الصفوف.

بلاغة رنانة
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته". بدأ الشيخ عبدالقادر بو بريدان الحديث. كان مستهل خطابه يتخطى فهمي واستيعابي: لم ألتقط سوى كلمة أو اثنتين بين الحين والآخر من خلال التدفق الرنان لبلاغته. كان فنانا بليغًا يعبر باللغة العربية الفصحى، التي لم يكن لدي كثير إلمام بها. انتظرت حتى أسمع اسمي مذكوراً وأجبت على المجاملة غير المفهومة بانحناءات مهذبة، ثم تركت عقلي يسرح بعيدًا، معتمدًا على سعد علي لتذكيري عند الضرورة. نظرت إلى الحشد من حولي، تساءلت: من أقل الشيوخ حتى أعظمهم من طبرق في الشرق، إلى لملودة في الغرب، وحتى الجنوب منطقة المخيلي كلهم تركوا خيامهم والآن يجلسون القرفصاء في وادي القصور يستمعون إلى الخطب الحماسية بعيد عن الأعين فوق الجبال، ولكن على مسافة سبعة أو ثمانية أميال فقط، كانت القوافل الألمانية تتبع بعضها بعضاً على طول الطريق المغُبّر الترابي إلى مرتوبة والشرق: وبدا من غير المحتمل أن يجهل العدو ألعابي ويفوت فرصة وضع حد للأنشطة التخريبية البريطانية. لقد احتفظ الإيطاليون بساحل برقة لأكثر من ربع قرن، ومنذ عام 1929 سيطروا على الداخل بالكامل؛ وكان لديهم مستوطنات كبيرة منتشرة على الأجزاء الخصبة من الجبل، في جيوڤاني بيرتا ولويجي دي ساڤويا وبيدا ليتّوريا ومادّالينا ودانّونزيو وبارسي وغيرها. كان من المفترض أن يعرفوا ما كان يحدث في هذه البلاد، التي كانت في المفترض بلدهم. من المؤكد أنه في أي لحظة الان، ستظهر سيارات مدرعة فوق التلال وتمحو تجمعنا. ولكن لم يحدث شيء، تكريماً لولاء ودهاء العرب السنوسيون،ورضا أسيادِهم الإيطاليين عن أنفسهم.

خطاب ناري
تابع الشيخ العجوز بالعامية قائلاً: "في أيام حربنا عندما جاءت الدعوة للغارة على العدو، تتذكرون كيف كان الأمر: فقط أولئك منا الذين لديهم أقل من ثلاث طلقات من الذخيرة كانوا معفيين من القتال. ومن أين جاءت الطلقات، والأسلحة نفسها: تم الاستيلاء عليها من العدو. لقد قاتلنا معزولين عن العالم الخارجي، وحيدين، مفلسين، لمدة عشرين عامًا. الآن، يمكننا الحصول على مساعدة الانجليز، أمة غنية في العالم - ليس ثلاث طلقات لكل رأس ولكن ربما مئة. هل نجلس ونراقب أصدقاءنا الإنجليز من وراء البحر يطاردون عدونا ويخرجونه من بلدنا؟ سألَنَا الرائد عما يُمكِنُه فعله لمساعدتنا: نريد أسلحة وذخيرة - ولا شيء آخر".

حالما انهى عبدالقادر بوبريدان كلمته في الجولة الاولى من الحوار، دعوته لحمل السلاح اتخذها وساندها كل متحدث بعده، وكوفئ كل خطاب بليغ بهمهمةِ استحسان من الحضور، كان اليوم يمر ببطء ثقيل، وبدأت أشعر بالقلق، وعندما نهض (صبي الجمال)، أصغرهم الذي يعتني بإبلهم، وهو مجرد شاب في السابعة عشرة من عمره، في الصف الخلفي وبدأ في إلقاء خطاب ناري ولكن متقطع، قلت لعبد القادر: "ألا نضيع الوقت؟" أجاب الرجل العجوز: "دعه يقول كلمته". إنه رجل حر وله الحق في التحدث، إنه شاب وكلامه غر وصبياني ولكنه سيتعلم.

الدرسه بحاجة إلى مساعدة
أومأ الشيوخ ذوي المهابة من القبيلة بالموافقة، وسُمح للشاب بإنهاء خطابه البِكر المرتجل بنهاية متكررة وعرجاء. وفي فترة ما بعد الظهر وقف علي بو حامد العبيدي فجأة وبصورة دراماتيكية ليتحدث باسم المعارضة:

"الدّرْسه، إخوتنا الدّرْسه، يقاتلون الإيطاليين الآن".

واستطرد: "الدّرْسه في وضع صعب، فقد تم جلب الطائرات لمهاجمتهم، ويتم تجميع القوات الإيطالية، قوات الألبيني (نسبة الى جبال الآلب هي قوات المشاة الجبلية المتخصصة في الجيش الإيطالي)، الآن لمهاجمتهم في وديانهم. يجب مساعدة الدّرْسه، احتياجاتهم أعظم من احتياجاتنا، لقد طلبوا المساعدة أولاً. اخوتي، يجب أن نطلب من الرائد پينياكوف إحضار الأسلحة والذخيرة وسننقلها إلى الدّرْسه. أقول: تجاهلوا ضيق حالنا وكربنا وساعدوا الدّرْسه وإلا فإنهم سيُقتلون.

لقد قاد الثعلب الماكر الحشد. أُلقيت الخطب لدعم المساعدة الفورية لقبيلة الدّرْسه وبدا أن خطر انتفاضة العبيدات المبكرة قد تم تجنبه. لقد كنت راضياً جداً، وفي الخطاب الأخير لذلك اليوم تعهدت بإحضار الأسلحة والذخيرة إلى الجبل في رحلتي التالية لقبيلة الدّرْسه.

لاحقًا قلت سنبني مستودعات أسلحة للعبيدات. لم يكن هناك عجلة فورية وسأحرص على تسليمها في الوقت المناسب. ظلت أشكال أخرى من المساعدة المادية بحاجة إلى مناقشتها: اقترحت أن نتعامل مع الأمر غدًا وانهينا اجتماعنا لتناول العشاء.

اجتماع فوري
ولكن هناك مشكلة واحدة لم تتأخر مناقشتها: فبينما كان يتم إحضار الطعام ذهبت إلى اجتماع خاص مع علي بوحامد العبيدي واتفقت معه على أن يرسل على الفور رُسلاً إلى شيوخ الدّرْسه الأربعة الرئيسيين ليطلب منهم مقابلتي بعد ستة أيام عند سيدي حمد بو رويق.

كان العشاء سعيداً للغاية، وكنا راضين عن عمل اليوم.

شعر عبدالقادر بوبريدان وعلي بو حامد العبيدي، المنافسان، أنهما قد أحرزا مكاسب كل من الآخر، وكانت القبيلة موحدة، وابتهج الجميع بالتخطيط للأعمال العظيمة، وكنا جميعاً نعلم أننا أحرزنا مكاسب من الإيطاليين.

*ملاحظة من المؤلف: الدّرْسه قبيلة سنوسية مقاتلة، تعيش على شريط من الأرض بين الطريق الشمالي وساحل البحر من أبولونيا (سوسة حالياً) إلى طلميثة. طُردوا من المرتفعات الغنية التي استوطنها الإيطاليون، لكن الوديان المشجرة شديدة الانحدار شكلت لهم معاقل ومخابئ، وقد غزوا منها مادالينا، وهي مستوطنة إيطالية كبيرة، وقد وصفها علي بو حامد العبيدي بذكاء بأنها حملة عسكرية.

يتبع حلقة خامسة...

في الحلقة الأولى: دور قبائل شرق ليبيا في الحرب العالمية الثانية

في الحلقة الثانية: في ليل ليبيا الدامس: تحالفات سرية وجواسيس ضد الاحتلال الإيطالي

في الحلقة الثالثة: في حضرة شيوخ الجبل الأخضر: رحلة إلى تاريخ ليبيا