من مفكرة سفير عربي في اليابان
نشرت الصحافة البحرينية في الشهر الماضي بعض شهادات شباب سن المراهقة، المتهمون في حوادث العنف في المسيرات، وعن تصوراتهم بعد أن صدر عنهم عفو ملكي من جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليقة، ملك مملكة البحرين. فصرح شاب في السادسة عشرة، فقال: quot;أحمد الله وأشكر جلالة الملك، لأنه أنقد مستقبلي من الضياع. فلقد شعرت بعد توقيفي بأنني ضيعت نفسي، وأنه لم يذكرني ولم يهتم بي أحد بعد أن دخلت السجن.quot; وأعترف شاب آخر في السابعة عشر من عمره بالقول: quot;أعترف بأني تأثرت بخطب كنت سمعتها من شخصيات معروفة، كانت تحرضنا على هذه الأعمال، وتملأنا بإحساس أننا مظلومين، ويجب أن ندافع عن أنفسنا، ولقد سألت نفسي بعد توقيفي أين هؤلاء الذين كانوا يحرضوننا، وهل سيعوضوننا عن ضياع مستقبلنا، فلم يسأل عنا إلا أبونا وأمنا. ولو لا العفو من جلالة الملك، لا أعرف ما الذي كان سينتظرنا، لذلك أشكره من كل قلبي.quot; كما تأسف شاب جامعي في سن التاسعة عشر بالقول: quot;لقد أدركت غلطتي بأنني قبلت أن أستمع لمن يضرني، ولم يهتم أحد بما حاق بي من ضرر، وعرفت بأن لن يفيدني أحد إذا ضعت. ولذلك أشكر جلالة الملك لأنه أعطاني فرصة أخرى لأراجع نفسي، وأعود إلى الصواب. لقد شعرت لحظة توقيفي أن كل شيء ضاع، سنوات الدراسة والعام والنصف الذي قضيته في الجامعة، لقد شعرت بحزن أهلي لما حدث لي وخاصة أنني ابنهم الأكبر، واليوم أحمد الله أن الفرح عاد إلى قلوبهم وأعاهدهم بأنني لن أحزنهم مرة أخرى، وبأنني سأضع مستقبلي نصب عيني.quot; والسؤال لعزيزي القارئ: ما سبب تجاوب شباب المراهقة للخطابات المتطرفة، وما تأثير هذه الخطابات على شخصية الشباب وذكائهم وإنتاجيتهم؟
يحدد الطب المراهقة بالفترة ما بين الطفولة والبلوغ، وهي مرحلة انتقالية مضطربة، فترة الانفجار الهرموني والهياج العقلي وثورة الانفعالات العاطفية، فيتعرض المراهق لتغيرات جسمية وجنسية وذهنية ونفسية وعاطفية مضطربة. فيتغير التفكير الذهني من واقع الطفولة المحسوس، إلى واقع ما هو الممكن، وينمو تفكير الاحتمالات لتفكير تجريدي يعتمد على المنطق لتحليل الوقائع المجتمعية. وتتطور قدرات الاستبطان المسئولة عن مراقبة أسلوب التفكير الذهني والتعامل العاطفي معها، ويزداد الإنشغال بالنفس والإحساس بمراقبة وتقيم الآخرين. ويتغير تفكير البعد الواحد لتفكير متعدد الإبعاد والنظرة المطلقة للنظرة النسبية، ويزداد الثقة بالنفس والنقد الذاتي والإصرار على الانفراد باتخاذ القرارات، والتحرر من القيود والقيم المجتمعية.
ومن الضروري التنبيه بأن الأمراض النفسية والعصبية المتزايدة الانتشار في سن المراهقة، قد تبدأ أعراضها بالتمرد المجتمعي والعنف، وقد يندفع بعض هؤلاء المصابين بين الشباب المسالم في المسيرات. ومن المعروف بأن إمراض الانفصام والعصاب النفسي وجنون الاضطهاد، تترافق بتخلف شديد في الانفعالات العاطفية، وبإحساسات سمعية وبصرية كاذبة، وبتخيلات بالاضطهاد، وضمور في الخلايا العصبية. وقد أزداد في دول الغرب مرض الكآبة لعشرة أضعاف منذ الستينات، وترافق بزيادة الانتحار ليمثل اليوم 2% من أسباب الوفاة.
وتؤدي هذه الخطابات بزيادة شعور المراهق بالظلم وبشدة انفعالات قهر وحقد لتسبب تغيرات بيولوجية في الجسم والعقل. فتثار الغدة النخامية في المخ لتؤدي لزيادة إفراز هرمونات الاسترويد والادرنالين، والتي ترفع الضغط والسكر والكولسترول، لتسبب مع الوقت جلطة القلب والسكتة الدماغية. وتؤدي هذه الانفعالات لإفراز سموم تتلف خلايا الجسم وتؤثر على وظائف مورثاتها، ليضطرب التكاثر الخلوي وليؤدي لسرطانات خطيرة. كما تؤدي هذه السموم لاضطراب وظائف الخلايا العصبية، فتضعف مراكز الذكاء المختلفة. فيضعف الذكاء الاجتماعي والمسئول عن التواصل بين الإنسان وأخيه الإنسان، والذكاء العاطفي والمسئول عن السيطرة على الانفعالات وتوجيها بحكمة واتزان، والذكاء الروحي المسئول عن إيجاد التوازن بين الواقعية والمثالية، والذكاء الذهني المسئول عن جمع المعطيات وتحليلها، لإصدار قرارات متزنة وناجحة.
ولنتدارس عزيزي القارئ عن نتائج هذه الخطابات على التنمية في مجتمعاتنا المنطقة، فمن المفروض أن يترافق التكاثر السكاني بزيادة القوى العاملة وارتفاع نسب الإنتاجية، مما يؤدي عادة لزيادة الاستثمارات الصناعية وارتفاع الإنتاج المحلي الإجمالي، ولنساْل ما الذي حدث في المنطقة خلال العقود القليلة الماضية؟ لقد أرتفع سكان وطننا العربي، بانخفاض نسب الوفيات وارتفاع متوسط العمر بتحسن التغذية وتطور الرعاية الصحية، من 78 مليون في عام 1950، إلى 180 مليون في عام 1980، وليرتفع إلى 325 مليونا في هذا العام، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى 375 مليون في عام 2010. ويقدر نسبة التكاثر السكاني في المنطقة بحوالي 2.7% سنويا، وهي من أعلى النسب في العالم. وقد أدى ذلك التكاثر لزيادة القوى العاملة، فمن المتوقع أن يضاف أربعين مليون مواطن جديد للقوى العاملة خلال الفترة من عام 2000 وحتى عام 2010، بزيادة قدرها 40%، وبارتفاع سنوي يقدر 3.7%. ويتوقع البنك الدولي بزيادة إجمالي القوى العاملة في منطقة المينا من 120 مليون في عام 2005، إلى 174 مليون في عام 2020. ومن المفروض أن يرتفع الناتج المحلي الإجمالي للفرد 2%، مع كل 1% زيادة في نسبة التكاثر السكاني، للمحافظة على مستوى دخل الفرد، أي بزيادة 4.7% سنويا، ومع ألأسف لم يتغير الناتج الكلي للمنطقة، حسب إحصائيات البنك الدولي، خلال العقدين الماضيين. بل انخفضت نسب إنتاجية المنطقة خلال العقود الماضية لتصبح من أقل نسب الإنتاجية في العالم، فمثلا تقدر مجموع إنتاجية الدول العربية لأقل من نصف إنتاجية كوريا الجنوبية، كما زادت نسب الإنتاجية العالمية 26% خلال الفترة 1996 وحتى 2006، بينما لم ترتفع إنتاجية المنطقة عن نسبة 9%، أي بأقل من ثلاثة أضعاف نسب الإنتاجية العالمية. وقد أدى انخفاض نسب الإنتاجية لهروب الاستثمارات الصناعية التكنولوجية الغير نفطية من المنطقة، وزيادة نسب البطالة، فلم تتجاوز جميع الاستثمارات الأجنبية الغير نفطية في المنطقة عن استثمارات أصغر الدول الاسكندينافية، كما انخفضت الصادرات الغير النفطية بنسبة النصف خلال العقدين الماضيين، لتقل أجمالي هذه الصادرات لأقل من ما تصدره إسرائيل وحدها. وتختلف نسب البطالة في المنطقة حسب المصادر نشرها، وتتراوح بين 12% وحتى 30%، وهي من أعلى نسب البطالة في العالم. كما تقدر نسب البطالة العالمية بين الشباب لحوالي 7%، بينما يزيد نسب البطالة بين الشباب في المنطقة لحوالي 25%، حسب إحصائيات البنك الدولي، وقد زاد الطين بلة بارتفاع نسب عدم الرغبة في العمل أو المحاولة الجادة للحصول على العمل لتصل لحوالي 53%. فتلاحظ عزيزي القارئ كيف نشرت هذه الخطابات ثقافة الإتكالية وفقدان قدسية إتقان العمل والإبداع فيه، لتصبح من أحد أهم أسباب هبوط نسب الإنتاجية وتهرب الاستثمارات الصناعية التكنولوجية وانتشار البطالة وتعطل التنمية.
والتحدي الآخر الذي يواجهه شباب المراهقة هو فلسفة الكأس الملأى، والتي تؤكدها ثقافتنا المجتمعية في قول الشاعر: quot;نحن قوم لا توسط بيننا، لنا الصدر بين العالمين أو القبر.quot; فلا نقبل إلا بالكأٍس الملأى للتعامل مع التحديات، ونتناسى فلسفة القبول بالاختلاف، والرضا بحلول وسطية مجزية للطرفين، لنحافظ على التناغم والوقت، ونحمي المجتمع من الخلافات والصراعات المدمرة. ولنتذكر بأن معضلاتنا المجتمعية معضلات عالمية تتمثل بتحديات نقص الطاقة والغذاء والمياه وتلوث البيئة، وارتفاع الأسعار والكساد الاقتصادي وأزمة الإسكان، ومشاكل التعليم والصحة والبطالة والفقر، وهي مشكلات تحتاج لجهود عالمية مشتركة للتعامل معها. لذلك يحتاج أن يتذكر الشباب فلسفة تحديات دائرتي التأثير والقلق، فتحديات القلق هي تحديات عالمية معقدة لا يستطيع شباب سن المراهقة عادة الـتأثير فيها، بينما يمكنهم تحسين تحديات دائرة التأثير بالعمل والإبداع والإنتاجية، ليحققوا النجاح لأنفسهم، والعزة لدينهم، والفخر لقيادتهم، والثراء والازدهار لوطنهم.
سفير مملكة البحرين في اليابان