من مفكرة سفير عربي في اليابان
يعتبر ادم سميث فيلسوف الرأسمالية المعاصرة. وقد ولد في مدينة كركالدي الاسكتلندية في عام 1723، وقد توفى والده قبل ولادته فتفرغت والدته لرعايته. وعانى طوال حياته من مرض بطن مزمن قلل من نشاطاته الاجتماعية والرياضية، وعرف منذ صغره، بجديته وذكائه الخارق وكثرة خجله في التعامل مع أقرانه. وقد التحق بجامعة جلاسكو وهو في الرابعة عشر من عمره، وكان يجمع بين حب الدراسة وعشق التعامل بسوق الأسهم. وتبلورت شخصيته حينما انتقل في عام 1740 لجامعة أكسفورد لتكملة دراساته العليا. وانتقل بعدها لجامعة جلاسكو، ليصبح أستاذا في الفلسفة الأخلاقية، وبعدها عميدا للكلية. وصدر كتابه الأول، نظرية الوجدان الأخلاقي، في عام 1759، الذي يناقش الأخلاقيات الإنسانية من خلال التعاطف الوجداني. وفي عام 1764، ترك جامعة جلاسكو، وانتقال للعمل كمحاضر في المؤسسات التعليمية الأوربية، ليستقر أخيرا في باريس، ويتعرف على مجموعة من رجال الفكر والاقتصاد في ذلك الوقت كفولتير وفرنسوا كوسني. وقد رجع في عام 1766 إلى لندن، ليتفرغ لكتابة كتابه المشهور، ثروة الأمم، والذي يناقش النظرية الاقتصادية، وهو من أهم مراجع علم الاقتصاد الرأسمالي الأمريكي الحديث.
ويعتبر سميث من عظماء منظري الاقتصاد المعاصر، حيث اعتقد بان السلوك الاقتصادي موجه بقوة المصالح الشخصية، واعتبر الاقتصاد نظام مرتبط بظهور نماذج ناتجة من التفاعل بين الأشخاص في السوق الحرة. وبأن السوق يمكن أن تنظم ذاتها بدون فوضى وبعدم التدخل الحكومي، وبأن العلوم الاجتماعية والاقتصادية، كالعلوم الفيزيائية والكيماوية، يمكن دراستها بتحليل السلوك الإنساني لعدة قوى أساسية، ومعرفة تفاعل الإفراد والمؤسسات مع بيئة السوق. وأكد على أهمية المنافسة في اقتصاد السوق للحث على الإبداع، لصنع اختراعات تغذي منتجاتها السوق، لتحسن المنافسة التجارية نوعية البضاعة، وتقلل مصاريف إنتاجها، لتوفرها للمواطنين بأسعار منافسة. كما تخلق تجارة السوق التوازن بين سعر المنتجات والخدمات وبين الراتب من خلال دورات اقتصادية متكررة، فحينما تزداد الحاجة للبضاعة ترتفع نسب الإنتاج وتزداد الحاجة للعمالة، وحينما تتشبع السوق بالبضاعة، تبدءا المصانع بخفض إنتاجها لترفع السعر، فتقل الحاجة للعمالة وتنخفض الرواتب.
وأكد ادم سميث على أهمية التخصص لزيادة الإنتاجية وتنمية الاقتصاد، وتخوف من تدخل قوى السلطة، الممثلة في الحكومة والشركات الكبيرة والمؤسسات الدينية في حرية الحركة الاقتصادية، مع انه كان مؤيدا لتدخل الحكومة لحماية القوى العاملة. كما نبهه لخطورة المحاولة الدائمة للشركات لخفض رواتب القوى العاملة، وأكد على أهمية عدالة توزيع الثروة في المجتمع، حيث علق في كتابه، ثورة الأمم، بالقول: quot;لن يزدهر مجتمع، ويبقى سعيدا، إذا كان العدد الأكبر من إفراده تعيش في البؤس والفقر، فمن المهم المساواة والمشاركة العادلة في توزيع إنتاجية القوى العاملة بحيث أن يتوفر لجميع إفراد المجتمع الغذاء والملبس والمسكن.quot; وقد عارضه بعض أكاديمي الاقتصاد الرأسمالي بالتساؤل عن نسبة الكفاءة الاقتصادية المفقودة بالتضحية لتوفير الغذاء واللباس والسكن للمتقاعسين من أفراد المجتمع، وتعتقد هذه المجموعة المعارضة بأن نجاح النظام الرأسمالي يعتمد على فلسفة المنافسة الحرة، وعلى أن يعمل جميع أفراد المجتمع بجد وإتقان، ليزدهر الاقتصاد، بينما يضع المتقاعس العصاة في عجلة التنمية الاقتصادية، لذلك عليه دفع ثمن تقاعسه بعقاب الفقر، وليس من واجب الدولة مساعدته بأموال ضرائب المنتجين، كما يتخوف هؤلاء من أن هذه المساعدة ستشجع البعض على الكسل المستمر وقلة الإنتاجية. وقد كان هناك خلاف حاد بين صمويل وايتبرد الذي طالب بحد ادني للأجور، لضمان حماية أفراد المجتمع من الفقر، ووليام بيت الذي أصر بضرورة ترك الأجور لمنافسة قوى السوق وبدون التدخل الحكومي. بينما طالب ادم سميث بفرض الضرائب التصاعدية حسب نسبة الدخل، وذلك لتغطية مصاريف الحكومة والخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة، التي أعتبرها حق للمواطن للمحافظة على إنتاجية المجتمع. فباختصار شديد، أكد ادم سميث على ضرورة تحرير السوق من براثن قوى السلطة، لقناعته بأن المنافسة quot;الأخلاقيةquot; البعيدة عن الجشع والاحتكار، والمنضبطة بقوة الأنطمة القوانين، والمهتمة بتوفير المنتجات والخدمات للمجتمع بكفاءة عالية وأسعار مناسبة، هي خير وسيلة للإبداع وزيادة الإنتاجية وتطوير الاقتصاد. وطالب بفرض ضرائب تصاعدية لكي يشارك الجميع في المحافظة على الخدمات الاجتماعية، ودعا لتحديد حد أدنى للأجور، وأكد على أهمية حماية الدولة للمواطنين من برثن الفقر والعوز، بتهيئتهم للعمل المنتج بالتعليم والتدريب وبتوفير الرعاية الصحية. فتلاحظ عزيزي القارئ بأن فوضى حرية السوق الاحتكارية والتي تترافق بعدم المسئولية الاجتماعية والسماح لانتشار الفقر والعوز ليس لها صلة بالفلسفة الرأسمالية التي نادى بها ادم سميث.
وقد نشر روبرت كوتنر في مجلة الشؤون الخارجية في عددها الصادر في شهر مارس من عام 2008 مقال بعنوان، أجماع كوبنهاجن قراءة ادم سميث في الدنمارك، تجربة أوروبية آمنت بفلسفة ادم سميث، وطبقته بطريقة ناجحة، فخلقت التوازن بين حرية منافسة السوق لتطوير الاقتصاد، وبين المسئولية الاجتماعية بتوفير الخدمات التعليمية والرعاية الصحية اللازمة والوقاية من البطالة والفقر. وقد كتب يقول: quot;لاحظ ادم سميث، في عام 1776، بان الاقتصاد يزدهر حينما تبعد الحكومة إبهامها الأخرق عن اليد اللامرئية للسوق الحرة. وبعد جيلين، وفي عام 1817 ناقش الاقتصادي البريطاني ديفيد ريكاردو عولمة السوق الحرة، وأكد بأن قوى السوق تؤدي لتحديد السعر المناسب وكمية الإنتاج المحلي، بينما تؤدي التجارة الحرة الخارجية لتزايد حصيلة الاقتصاد الدولي. وقد يكون الاقتصاد الدنماركي حلم ادم سميث في تحقيق الرأسمالية.quot; فالشعب الدينماركي موهوب في التجارة الحرة، وتعتبر دولته الثالثة بعد الولايات المتحدة وسويسرا. وسوقها المالية نظيفة من الفساد وذا شفافية عالية، وقيودها على الواردات قليلة، وقوتها العاملة مرنة التحرك، وديناميكية مؤسساتها العالمية لم تضعف بحرية العمل ضمن القوانين الصناعية، وقد انخفضت نسبة البطالة من 12.8% في عام 1993 إلى 1.6% في هذا العام. وتصرف الدنمارك 50% من إنتاجها الإجمالي المحلي على خدماتها الاجتماعية، ونسبة الضريبة عالية والثانية عالميا بعد السويد، وبها اتحادات عمالية قوية، وهي من أكثر دول العالم عدالة في توزيع ثروتها. وتصرف نصف الناتج المحلي الإجمالي على الضمان الصحي الشامل لجميع المواطنين، ورعاية الطفولة والأمومة، والإجازات العائلية المرتبطة برعاية الأطفال، وتامين البطالة والتي تقدر بحوالي 95% من الراتب، ومجانية التعليم في جميع مراحله المدرسية والجامعية، وتامين التقاعد، ونظام تدريب إبداعي لتسهيل تحرك المواطن من عمل لأخر. وقد تساءل كونتر: هل تملك الدنمارك وصفة سحرية لرأسمالية ادم سميث المسئولة اجتماعيا؟ وهل ستستطيع مقاومة تحديات سوق العولمة؟
تتميز السوق الدنماركية بمرونة تحرك القوة العاملة فيها، وذلك لأن نظامها الاجتماعي يحمي المواطن بتوفير الرعاية الصحية والتعليم والتدريب وضمان التقاعد والبطالة، فمن السهل أن تتحرك القوى العاملة من عمل لآخر بسهولة رتيبة حسب حاجيات السوق. ومع أن اتحاداتها العمالية قوية، ولكن من السهل تسريح العامل من وظيفته، وتهيئته لوظيفة أخرى، وبضمان 95% من راتبه بتأمين البطالة. ويستطيع العمال تغير أعمالهم بسهولة، بل تبين الإحصائيات بأن العامل الدنماركي يغير عملة بمعدل ست مرات في حياته العملية، وبأن 30% من القوى العاملة تغير عملها سنويا، كما تعتقد 70% من القوى العاملة بضرورة تغير العمل لمنع الملل وزيادة الإبداع لموجهة التحديات الجديدة. ولا تتعدى عادة فترة البطالة عن الستة شهور حتى يحصل المواطن على وظيفة جديدة. ويعتبر هذا النظام مغري للقوى العاملة الدنماركية بسبب قلة البطالة، ولتساوي الرواتب بين القطاعات الصناعية والخدمية، كما أن هناك برامج لتهيئة العمالة للسوق والتي تصرف 4.5% من الإنتاج المحلي الإجمالي على البطالة الانتقالية بالتعويض عن الراتب والتدريب لإعمال جديدة. وقد ساعد ذلك على ازدهار الصناعة المتخصصة والتصدير في الدنمارك، والتخلص من الصناعات الملوثة بتحويلها لخارج البلاد، كما أصبحت مركزا هاما لصناعات وشركات عالمية متطورة. وتعتبر رواتب القوى العاملة مرتفعة بنسبة تزيد عن 70% عن الدول الغربية الأخرى، وذلك بسبب الإنتاجية المرتفعة للمواطنين. وترجع سر نجاح التجربة الدنماركية لبيئة الثقافة المجتمعية المتميزة بالتناغم والتعاون بين الشركات والمنظمات العمالية والقوى العاملة، وبالاهتمام بالتعليم والتدريب المجاني، فحتى التعليم الخاص تغطي الدولة 85% من مصاريفه وفي جميع مراحله. والسؤال لعزيزي القارئ: هل ستستفيد دول الشرق الأوسط من هذه التجربة للعمل لتهيئة قوى عاملة منتجة ومدربة تكنولوجيا، ومتحركة حسب حاجة السوق، وتعمل بتناغم مع أرباب العمل والاتحادات العمالية لتطوير الصناعة التكنولوجية المتقدمة؟
سفير مملكة البحرين في اليابان