من مفكرة سفير عربي في اليابان
لعبت الصين دورا هاما في تطور الحضارة اليابانية، ففي القرن الخامس من الميلاد، انتقلت البوذية من الصين إلى اليابان، ورافقتها انتقال معالم الحضارة الصينية. وترجع حضارة الصين للألفية الثانية قبل الميلاد، وقد لعبت دورا هاما في تطور التجارة العالمية، وحينما نام التنين الصيني خلال القرنين الماضيين، تقدم الغرب، وطور تكنولوجية ليحول العالم لقرية عولمة تجارية صغيرة. وبعد أن استيقظت الصين خلال العقدين الماضيين، تحولت لمصنع العولمة الكبير، لتوفر للعالم منتجاته بأسعار رخيصة وبجودة مناسبة. والسؤال الذي يحير أكاديمي اليابان: كيف ستطور الصين نظامها السياسي والاقتصادي خلال هذا القرن؟
بدأت الحضارة الصينية في عصر الشانج بسهول النهر الأصفر في القرن السادس عشر قبل الميلاد، وقد تبعتها فترة بزوغ الفلسفة الصينية في عصر الزو، والتي استمرت لتسعة قرون واشتهرت فيها الفلسفة الكنفوشيسية. ومؤسس الكنفوشيسية هو فيلسوف الصين العظيم كونج فوزي، الذي ولد في عام 551 قبل الميلاد من عائلة نبيلة الأصل وفقيرة المعيشة، وتوفي والده وهو في الثالثة من العمر، فراعته أمه. وقد عمل في مهن كثيرة، كراعي للأغنام وكاتب وموظف مكتبة، وأهتم بالعلم والمعرفة حتى أصبح وزيرا للقضاء. وقد استاء من فساد حاكم ولايته، فقرر الهجرة في بلاد الصين للبحث عن فرص جديدة. فعمل بدواوين الولايات الصينية، ونشر أفكاره السياسية، ولكن خاب أمله حينما لم ينجح في تنفيذها. فرجع لولايته لينشر تعاليم فلسفته، والتي جمعها في خمس مجلدات، فاشتهر صيته حتى جاءته المنية في عام 479 قبل الميلاد.
وتؤكد تعاليم كونفوشيس على أهمية العلم والتفكير بحرية وعمق، واستنباط الدروس الأخلاقية من التاريخ لحل المعضلات الحياتية، وبالمعرفة المجردة للكون. واقترح نظرية لنظام سياسي يجمع بين الحياة والمجتمع، ويعتمد على حكم ملكي يوحد الولايات، ومرتبط بالإبداع والمهارات وأخلاقيات السلوك، وبحيث أن تكون قياداته مثلا للفضيلة والاستقامة. وأكد على أهمية الأخلاقيات في السلوك الشخصي والعمل الحكومي، والاستقامة والإخلاص في العلاقات الإنسانية، والعدالة المجتمعية، لبناء دولة عادلة موحدة ومستقرة، بعيدة عن التسلط والفساد. وشجع مختلف أنواع الفن للتعبير عن عواطف المجتمع وإحساساته المرهفة. ودعا لتجنب الحروب والعمل على نشر السلام والازدهار بين شعوب العالم.
وقد بدأ الشعب الصيني وقياداته ومفكريه بأحياء الثقافة الكنفوشيسية من جديد. وقد كان ذلك واضحا في افتتاحية اولمبياد العام الماضي، حيث كررت فيها مقولات كونفيشيوس: quot;شعوب العالم إخوةquot; و quot;أليس من أعظم المتع هي زيارة أصدقاء من بلاد بعيدة.quot; ليعبر ذلك عن حقيقة ثقافة الصين وحضارتها. ويؤكد البروفيسور دانيل بل في مقاله بصحيفة اليابان تايمز الصادرة في العاشر من جولاي الماضي، بأن الكنفوشيسية الرسمية تعني اليوم التناغم الاجتماعي وحل الخلافات بطرق سلمية، وبواجب انتقاد السياسات الخاطئة، وبتوفير الحكومة الرفاهية للشعب، وبالالتزام بسياسات دولية متفتحة، تعتمد على القوة الأخلاقية بدل الآلة العسكرية، لتحقيق الأهداف السياسية. وتحترم الحرية الدينية، وتؤكد على أهمية تساوي الفرص في التعليم وفي وظائف الدولة، وبقيادة البلاد من خيرة أبناء المجتمع وأكثرهم كفاءة، وضرورة الإصلاح التدريجي في المجتمع. كما يؤكد الكاتب بأن الكنفوسيشية ستبقى منفصلة عن السلطة، ومستعدة دائما لتبين الهوة بين المثالية والواقعية.
وإستفاد البروفيسور الصيني جيانج كنج من الفلسفة الكنفوشيسية لتقديم اقتراح عملي معاصر لإصلاحات دستورية تهيئ الصين لتحديات الألفية الثالثة. وتعتمد هذه الإصلاحات بإنشاء نظام تشريعي مكون من ثلاثة مجالس، مجلس نيابي منتخب ممثلا للمصلحة العامة للشعب. ومجلس سماه بمجلس الأشخاص النموذجين، مسئوليته الدفاع عن مصالح جميع من يتأثرون بالقرارات الحكومية، ومن ضمنهم الأجانب والأقليات. ومجلس ثالث مسئول عن استمرارية المحافظة على ثقافات الصين ودياناتها. وقد توقعت رنا فوروهر في مقالها بمجلة النيوزويك، الصادرة في التاسع عشر من يناير الجاري، بأنه بفضل الثقافة الكنفوشيسية: quot;ستكون الصين الاقتصاد الكبير الوحيد الذي سيسجل نمو اقتصادي مميز هذه السنة، بسبب أنها الدولة الوحيدة التي تخالف كل قوانين الاقتصادية المعروفة. فليس هناك اقتصاد سوق حقيقي، فمسئولي الدولة يحركون سوق الأسهم، ويحددون الأسعار في الصناعات الهامة. وتملك الدولة الصناعات الإستراتيجية كاملة، وتملئ الوظائف البنكية برجالها، وتحدد لمن تقدم القروض، وتعلمهم في ما يستثمرون.quot; وكما يبدو بأن الغرب بدأ يتوجه لتقليد الصين في سيطرة الدولة على السوق، وخاصة بعد الأزمة المالية. وتعتقد الكاتبة بأن الصين ستبحر طريقها بنجاح في محيط التراجع الاقتصادي العالمي، quot;لأن بيروقراطي الصين ابتعدوا عن ألأيديولوجية وتوجهوا للبرغماتية، فاستطاعوا أن يوازنوا بين آليات السوق التقليدية ومتطلبات الرأسمالية.quot; فكما قالها الرئيس دنج زيوبنج: quot;لا يهم إن كان القط أبيض أو أسود، ما دام يستطيع صيد الفئران.quot; ويعني بذلك ليس مهم أي نظام اقتصادي تختاره الصين، إن كان رأسماليا أو اشتراكيا، المهم أن يؤدي إلى تنمية اقتصادية واجتماعية. فمثلا حينما اشتدت أزمة القروض في العام الماضي، أمرت الحكومة الصينية البنوك بوقف القروض الإسكانية، وحينما انخفضت أسعار المساكن خفضت الضرائب، ووفرت ستة مائة مليار دولار للصرف الحكومي، وخفضت الضرائب، كما طالبت الشركات الصناعية الحكومية لشراء استثمارات جديدة في داخل البلاد وخارجها.
وقد غيرت الصين نظرة العالم للتدخل الحكومي في الاقتصاديات النامية، لتعتبر اليوم أسلوب هام لخلق الاستقرار المالي والاقتصادي. ويعلق الاقتصادي الأمريكي أندي روثمان بالقول: quot;سيطرة الحكومة على القطاعات الحيوية المالية تجعلني متفائل لمستقبل الصين، حيث تستطيع أن تأمر باستمرار الصرف على الخطط التنموية وبدون توقف.quot; ويبدو مع انخفاض التصدير ونزول أسعار الأسهم، سيستمر الاقتصاد الصيني في النمو بنسبة 7% في هذا العام، وهي من اكبر نسب النمو في العالم. كما أن هناك تزايد في توفير القروض للمؤسسات الكبيرة، فتستمر الحكومة بدعم الاستثمار لتحارب انخفاض النمو، وخاصة بأن استثمارات الدولة تقدر بحوالي 40% من الإنتاج المحلي الإجمال. ويؤكد ستيفن روش، الرئيس التنفيذي لفرع مورجن ستانلي في اسيا: quot;يبدو بأن في وقت الأزمات الاقتصادية يكون نظام السلطة الرقابية الصيني أكثر فعالية من نظام حرية السوق.quot;
ويرجع رجال الاقتصاد النجاح الصيني لفهم الرئيس دنج قبل ثلاثة عقود بحاجة البلاد لنظام سياسي مستقر، ليستطيع تحمل التغيرات الإصلاحية التي تحتاجها البلاد للتحول لاقتصاد السوق. وقد نجحت هذه التجربة لتركيزها على التغير التدريجي نحو السوق الحرة، وبخطوات براغماتية هادئة، والتي وصفها الرئيس دنج بأنها: quot;كاجتياز النهر وبتحسس حصيات قاعه.quot; ومع أن الدولة مسيطرة حتى الآن، ولكن أعطت الفرصة للقطاع الخاص لكي يملك نصف الاقتصاد الصيني، بل قد تصل لحوالي 70%، لو شملنا شركات الدولة التي سمحت لها بالعمل كشركات خاصة. ومن الجدير بالذكر بأن 60% من نمو الإنتاج المحلي الإجمالي، وثلثي الوظائف الجديدة يخلقها القطاع الخاص.
وقد قامت الصين بخطوات جريئة في عام 1995، فعملت على ثورة تفكيك الصناعات الحكومية، وسرحت خلال ثلاث سنوات حوالي 46 مليون عامل. وأعطت الفرصة لتطور القطاع الخاص جذريا، وبشكل تدريجي وعلى مدى زمن طويل، وساعدته ليلعب دورا متزايدا في تطوير الاقتصاد. وقد كان سكان الصين قبل ثلاثة عقود 963 مليون، وحوالي 30% منهم يعانون من الجوع، بينما زاد عددهم اليوم لحوالي 1.3 مليار و97% يستطيعون توفير غذائهم. ويبقى التحدي الصيني في نقل هذه الفئة لطبقة متوسطة، والتي تمثل اليوم فقط 6% من الشعب. وقد ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 500 دولار في السبعينيات إلى 3000 دولار اليوم. ويقول روثمان: quot;من الضروري التذكر بان الصين هي الاقتصاد الكبير الوحيد الذي لا يعاني من أزمة القروض، ولا من أزمة ثقة السوق. كما يمكن القول وبثقة، بالا يقلق المستثمرين، فالحكومة الصينية تستطيع تحقيق واجباتها بكفاءة. وقد عبر الرئيس ون جيابو عن ذلك بقوله، الثقة قيمتها أكثر من الذهب.quot; ويبدو بأن الشعب الصيني يعمل لتطوير نظامه السياسي والاقتصادي بشكل تدريجي ومتزن، وحسب ثقافته الكنفوشيسية، وبالاستفادة من حضارته العظيمة وتجاربه السابقة. والسؤال لعزيزي القارئ: هل ستستفيد دول المينا من هذه التجربة لخلق نظامها السياسي والاقتصادي، المرتبط بثقافتها وحضارتها لتستطيع التعامل مع تحديات العولمة الجديدة بنجاح؟
سفير مملكة البحرين في اليابان