من مفكرة سفير عربي في اليابان
عانت دول العالم خلال القرون الطويلة الماضية من دمار الحروب والثورات والانقلابات، وأرهقت شعوبها مختلف أنواع العبودية والتفرقة والاستعمار. وتبين الأبحاث العلمية بأن المعاناة الإنسانية تختفي في مراكز اللاوعي في العقل البشري، لتؤثر على تركيبة الجسم ووظائفه ومورثاته، وتسبب أعراضا عاطفية من القلق والغيرة والحقد، وتأثيرات ذهنية من عقد النقص وفقدان الثقة. وقد يؤدي كل ذلك لاضطراب التوازن الروحي، وخلق شخصية تعاني نفسيتها المصدومة من انفعالات الغضب وثوراته، وتتعامل عقلها المجروح مع تحديات مجتمعها بتطرف وعنف، بعيدا عن التعاون والتناغم. وقد درس علماء النفس والاجتماع مختلف هذه التأثيرات النفسية والجروح العقلية، لاكتشاف أفضل الصيغ العلمية للتعامل معها في مرحلة ما بعد الصراعات والخلافات.
لقد اكتشفت الشعوب الأوروبية بعد معاناتها الطويلة في الصراعات والحروب، بأن السلام والديمقراطية هي خير وسيلة لخلق مجتمعات متناغمة ومزدهرة. وقد زادت الحاجة لهذه المجتمعات اليوم في قريتنا الكونية الصغيرة، بعد أن ضعف دور جيوش الحكومات التقليدية بسبب تكنولوجية الميكروشبس، وقوت مقاومة الفئات المتطرفة الصغيرة والمتناثرة. كما أدى كل ذلك لضعف دور الضغوط الحكومية الاقتصادية والعسكرية في التعامل مع التحديات الدولية، فزاد الاهتمام بسبل الوقاية من الصراعات الأهلية والدولية، والتوجه لمعالجتها بطرق سلمية عادلة. وقد أكدت الأزمة الاقتصادية الحالية مدى تشابك مصالح دول العالم، وتكلفة الخلافات والحروب لاقتصادياتها، والحاجة للعمل المشترك لمعالجة تحديات العولمة الاقتصادية والبيئية والأمنية والاجتماعية. كما وعت هذه الدول لأهمية التعليم والقوة الناعمة، قوة الثقافة والحضارة، التي تقرب الشعوب بقيمها الإنسانية، وتشجع التعاون لتحقيق المصالح المشتركة. والسؤال لعزيزي القارئ: هل ستدرك دول الشرق الأوسط بعدم إمكانية حل خلافاتها بالياتها العسكرية؟ وهل ستستفيد من الثقافة والتعليم لأعداد شعوبها نفسيا وروحيا وذهنيا لتحديات مرحلة ما قبل السلام؟ وهل ستتعاون مع اليابان للاستفادة من تجربتها، التي اعتنقت السلم عقيدة للتعامل مع تحدياتها الوطنية والعالمية، بعد معاناتها من ماسي الحروب ودمارها النووي؟
لقد ناقش الأبعاد الثقافية لمرحلة ما قبل السلام البروفيسور كوزو أوجارا، أستاذ العلوم السياسية بجامعة اوياما جاكين ورئيس مؤسسة اليابان فاونديشين وسفير اليابان السابق بفرنسا، بصحيفة اليابان تايمز الصادرة في الحادي عشر من شهر أبريل الماضي. فبداء مقاله بمقدمة يقول فيها: quot;لكي تنجح مبادرات السلام، هناك حاجة لآلية تستطيع فيه أطراف الخلاف تعميق فهم بعضها البعض، لتصحح سوء الفهم والإدراك بينها. وتعتمد هذه الآلية على إصلاح البنية القانونية والمؤسساتية، بالإضافة لتطوير التعليم بأبعاده الثقافية والنفسية، لكي يلعب دورا في علاج العقول المجروحة من صدمات الصراعات المزمنة.quot; ويصنف الكاتب الأبعاد الثقافية لبناء السلام لثلاث مراحل. وتتعلق المرحلة الأولى منها بجهود الوقاية من سوء الإدراك والفهم بين الأطراف المتنازعة، بالتعاون خارج بيئة الصراع. فمن المعروف بأن تؤدي الصراعات السياسية والعسكرية بين الأمم لزيادة حدة الإجحاف وسوء الفهم بين شعوبها، ويساعد التبادل الثقافي، خارج بيئة العنف والصراع، على تلطيف الأجواء لتغير سوء الفهم وحدة الإجحاف. فمثلا قامت اليابان فاونيشين، بدعوة طلاب فلسطينيين وإسرائيليين لزيارة مدينة هوريشيما، والمشاركة معا في مباراة لكرة القدم. وترافقت تلك الزيارة بالمشاركة في نشاطات رياضية وثقافية، لعبت دورا في خلق علاقة رباط إنساني فلسطيني إسرائيلي. وقد كانت من إحدى هذه النشاطات، سباق جري بين فرق مزدوجة مكونة من طالبين أحدهما فلسطيني والآخر إسرائيلي، مربوطين معا بحبل في رجليهما. وتعبر هذه اللعبة عن مدى ترابط مصير الطرفين، وحاجتهم لجهود متناغمة وشراكة مخلصة للفوز في السباق. وقد أدرك الطلبة خلال هذه الرحلة، كيف تم التئام ذكرى المعاناة المدمرة لإلقاء القنبلة النووية على مدينة هوروشيما، لكي يستطيع الشعبين الأمريكي والياباني العمل بشراكة متناغمة منتجة لتحقيق التنمية والازدهار. وقد ساعدت هذه الرحلة لتفهم الطلبة شخصيات بعضهم البعض من زاويا جديدة وبمنظار مستقبلي متزن، بعيد عن التحيز والانفعال، وقد سهل تحقيق تلك البيئة الثقافية المسالمة والمتناغمة وجودهم في اليابان، والتي تختلف عن بيئة العنف والانتقام المحلية الإسرائيلية الفلسطينية. وتتميز المرحلة الثانية لهذا التعاون الثقافي بالعمل داخل بيئة الصراع وبتواجد طرف ثالث محايد، وذلك بالاستفادة من الفنون المسرحية والسينمائية في تصوير المعاناة الإنسانية لطرفي الصراع. أما في المرحلة الثالثة فتستخدم قوة الثقافة كآلية للالتئام الجراح العقلية وتهدئة الانفعالات النفسية، ولإرجاع الفخر والثقة للموطنين بحضارة وثقافة بلدانهم. ليؤكد كل ذلك أهمية الثقافة في بناء مستقبل السلام، كآلية لتعريف هوية الأمة لمواطنيها من جديد، بعد أن حطمت صورتها الصراعات الطويلة المزمنة.
كما يلعب التعليم دورا هاما في مرحلة ما قبل السلام، لتغير الصراع الداخلي الذهني والنفسي والروحي بين أطراف الصراع المختلفة. وقد ناقش الكاتب الإسرائيلي جرجيشون باسكن ذلك في مقال بصحيفة الجورسليم بوست، الصادرة في السابع والعشرين من شهر أبريل الماضي. فكتب يقول: quot;مع بدأ عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط تنتقل المنطقة من حالة الحرب بين الأعداء، إلى مرحلة السلام بين الشركاء. ولكي تنجح مبادرات السلام سنحتاج لتغير جذري في المفاهيم والمواقف في مختلف قطاعات المجتمع، بالاستفادة من نظام التعليم كأداة للتغير في المنطقة.quot; فيعتقد الكاتب بأن التعليم أداة مهمة في نشر قيم السلام في مجتمعات عانت طويلا من الصراعات والحروب. ومع الأسف كان التعليم في الماضي وسيلة لنقل الخلافات وأساطيره المرسخة لصراعاته، لذلك هناك حاجة لعملية تعليمية جادة تدرس قيم ومهارات حل الخلافات.quot; ويقترح الكاتب بأن تبدأ هذه المرحلة بجمع المدرسيين والطلبة الفلسطينيين والإسرائيليين لعملية حوار، يستخدم المدرسون فيها مهاراتهم لتشجيع الحوار في الفصول الدراسية، والتي سيستمر تأثيرها على مدى أجيال متعاقبة.
ويطالب الكاتب بأن تعكس الكتب والمناهج الدراسية، التي ستقررها الدولة، قيم السلام الرسمية الذي يريد المجتمع نشره بين مواطنيه. فبالإضافة للمسئولية الرئيسية لوزارات التعليم في توفير مستوى عالمي من التعليم الأكاديمي، سيواجه قيادات التعليم الفلسطينية والإسرائيلية مسئولية تطوير تعليم مرتبط بقوة القيم المعتمدة على بناء مجتمعاتهم ودولهم المستقبلية لسلام عادل ودائم، والتي تعتمد على بناء مواطنة بأوجه متعددة في عالم العولمة الجديد، والتي هي مسئولية معقدة وصعبة بعد عقود من الصراعات العنيفة. ومع الأسف لا يوجد في المناهج التعليمية التقليدية أية أفكار إيجابية تعلم الطلبة على التعامل مع تحديات أطرف الصراع، والذين يأملون العيش معا في سلام مستقبلي. وسيساعد التعليم على فهم تقارب الثقافات في المنطقة، ويفتح الأبواب لاكتشافات جديدة، ويوسع المدارك والأفق. فمثلا تعرف الطلبة على أنواع الطعام المختلفة في منطقة الشرق الأوسط وتنوع الموسيقى والتلون الفلكلوري وحتى معرفة التقارب بين اللغة العربية والعبرية، ستخلق فرص لا حدود لها لاكتشاف مفاهيم ومواقف أكثر ايجابية، وتشجع الطلبة على الرغبة في التعرف على الطرف الآخر. كما يجب ألا نخاف من أن يؤدي هذا التعليم لضعف المواطنة أو تفكك الوحدة الوطنية، بل بالعكس سيقويها ويزيد من احترامها.
ويعتقد الكاتب ضرورة تدريس ليس فقط التشابه بل أيضا الاختلافات، فثقافة السلام تخلق بيئة لاحترام الاختلاف، وتشجع على الرغبة والإمكانية للافتخار بأطياف التنوع. لذلك تحتاج السلطات الفلسطينية والإسرائيلية لمراجعة المناهج التعليمية، لكي تخلق بيئة مجتمعية تستطيع التهيئة للسلام المنشود، كما ستعكس القرارات المتعلقة بما يجب تدريسه للتهيئة للمستقبل الذي تنتظره الأجيال القادمة. ويؤكد الكاتب بأنه يجب أن يتحمل الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي هذا التحدي الجديد، وذلك بتعيين لجنة استشارية لمراجعة المناهج والكتب، بعد الاتفاق على قيم ومفاهيم لخطة تعليمية جديدة. ويجب أن تبدأ مرحلة ما قبل السلام بتنفيذ الحوارات في الصفوف الدراسية، وعلى الطرفيين التقدم في هذا المجال، وبدون النظر لما يفعله الطرف الآخر، ليعكس اهتمامه بالقيم الإنسانية التي تدعو للتعاون والترابط وقبول التنوع. وستعكس هذه المناهج التعليمية مدى استعداد الطرفيين لنشئ أجيال قادمة ترغب في العيش بسلام. وليهدف تعليم ثقافة السلام لترسيخ تغير اجتماعي في الوعي والتفكير، لخلق بيئة بين الطلبة والأساتذة والمسئولين، تجمع بين رؤية لمجتمع المساواة والعدالة، الذي يضم ويقبل الآخرين باختلاف أصولهم وديانتهم ومذاهبهم وثقافاتهم، ويعتبر السلام العادل حالة ذهنية أخلاقية لهذه القيم وطريقة الحياة من خلالها. وينهي الكاتب مقاله بالقول: quot;وقد يبدو السلام حلما ولكن هناك حاجة لاختراق عميق للمجتمعيين لكي تتأصل جذور السلام في النفوس والعقول وحتى لو لم يتحقق السلام المنشود.quot; والسؤال: هل حان الوقت في لتطوير تعليم في المنطقة لمرحلة ما قبل السلام، وإيجاد صيغ عملية لتعرف شعوبها على ثقافات بعضها وتفهم اختلافاتها، لتستطيع تحقيق السلام الشامل والدائم، لتتفرغ لتنميتها الاجتماعية والاقتصادية؟
سفير مملكة البحرين في اليابان