من مفكرة سفير عربي في اليابان
قضت منطقة الشرق الأوسط الكبير القرن الماضي في صراع عطل تنميتها الاجتماعية والاقتصادية، وأخر تقدم تكنولوجيتها المعرفية والصناعية. وقد أنتشر لهيب هذه الصراع لدول الغرب، ليقلق أمنها وينهك اقتصادياتها. وتبدو في الأفق محاولات جادة لإيجاد صيغ لتهدئة لهيب هذا الصراع بسلام عادل وشامل. فقد أكتشف الغرب بأن عالم العولمة قد غير دبلوماسية quot;العصاية والجزرةquot; لدبلوماسية الاحترام والتعاون، لذلك توجه لإيجاد صيغ تعاونية مع الدول العربية والإسلامية، لمعالجة هذا الصراع المدمر. وستشمل هذه الدبلوماسية صيغة للتعاون الأمريكي الإيراني، والتي ستدفع بالعرب لمراجعة حساباتهم، بعد أن بينت تجربة العراق بأنه ليس هناك في الدبلوماسية أصدقاء ولا أعداء دائمين، بل هناك مصالح دائمة. والسؤال لعزيزي القارئ: كيف ستكون إستراتيجية العرب الجديدة في التعاون مع إيران؟ وما هي طبيعة دبلوماسية التعاون العربية الإيرانية القادمة؟ وهل سيستبق العرب الغرب للتعامل مع تحديات هذه الدبلوماسية بحكمة؟ أم سينتظرون ليكتمل التحالف الغربي الإيراني وتضيع فرصتهم في المبادرة؟
سنحتاج لمناقشة هذه الأسئلة مراقبة التحول الفجائي في لهجة الإعلام الغربي نحو جمهورية إيران الإسلامية. فقد بدأ كتاب الغرب إبراز تاريخ وحضارة الشعب الإيراني، ومدى تفهمه للإسلام من خلال اجتهاد العقل، كما مدحوا برغماتية حكومته وإنجازاتها. ويعكس ذلك بوضوح مقالات مجلة النيوزيويك الأمريكية الصادرة في الأول من يونيو الجاري وعلى غلافها وبالخط العريض:quot; بأن كل ما تعرفه عن إيران خاطئ.quot; ففجأة استيقظ ضمير الإعلام الغربي ليصبح كل ما قيل سابقا عن إيران خاطئا. فقد يحتاج العرب لاستقراء التوجهات المستقبلية للدبلوماسية الغربية نحو جمهورية إيران الإسلامية، لكي يستطيعوا توجيه دبلوماسيتهم حسب التغيرات والتحديات المرافقة. وستساعد عملية الاستقراء هذه مراجعة كتاب جديد وبعنوان: الشيطان الذي نعرفه - التعامل مع القوة العظمى الإيرانية الجديدة، لخبير الاستخبارات المركزية الأمريكية، روبرت بير. فيعلق الكاتب في مقدمة كتابه: quot;خلال الثلاثين سنة الماضية، حينما كانت أمريكا عمياء أو متعامية، برزت إيران كأمة تستطيع أن تغير قدر الولايات المتحدة، كالقوى العظمى التقليدية روسيا والصين، بل تؤكد حوارات الكتاب بأن إيران تمسك بزمام المستقبل الأمريكي بدرجة أشد. فقد ناورت طريقها لكي تنضم للقوى العظمى، باستغلالها الفهم الأمريكي الخاطئ، بأنها بلد يديره رجال دين متعصبين ومشغولون باللاهوت والإرهاب، لكي تقوي إيران قواعدها السياسية والاقتصادية.quot;
وتختلف تصورات الكاتب عما يطرحه الإعلام الغربي، فمثلا يعتقد quot;بأن الرئيس أحمدي نجاد ليس الناطق الحقيقي للدبلوماسية الإيرانية، وأن أولويات إيران ليست كلاعبة نووية.quot; وبأن إيران: quot;تستخدم قواها الناعمة لتسيطر على الشرق الأوسط، وتوكل فئات فدائية متناثرة لتقوم بحروبها. وتؤثر على جزء كبير من العراق، ويزداد تأثيرها في الأردن ومصر، كما جرت دول خليجية لمواقعها، وبأنها ستسيطر قريبا على حنفية نفط العالم.quot; ويرفض الكاتب وصف دول الغرب لإيران بأنها دولة النصب، بل يعتقد بأنها تقوم بدورها بعقلانية ومهارة في لعبة الأمم، وبأن الخيارات المتوفرة لمخططي السياسية الأمريكية محدودة، فأما أن تترك البوابة العالمية للنفط في يد دولة تنافس قدرتها العسكرية بإمكانياتها الغير متماثلة، كاستخدام الفدائيين، أو أن تتعاون مع quot;الشيطانquot; الذي تعرفه، فتضمن الولايات المتحدة بتحالفها مع إيران أمنها وأمن منطقة الشرق الأوسط الكبير.
ويعقب الكاتب على حرب لبنان بالقول: quot;حدث شيء يفوق العادة في مايو عام 2000، فلأول مرة في التاريخ المعاصر للشرق الأوسط، تهزم قوة صغيرة من الفدائيين جيشا تقليديا مدربا ومؤججا بالأسلحة الغربية. فقبل هزيمة إسرائيل في لبنان، لم تخسر إسرائيل أية حرب، ولأول مرة في تاريخها تترك أراض محتلة بقوة السلاح. وبدلك فقدت مصداقية ردعها بقدرتها على تخويف أعدائها بأن الهجوم عليها مكلف جدا.quot; وقد أكد تقرير ونجراد الرسمي، الذي درس حرب 34 يوم بين المقاومة اللبنانية وإسرائيل في عام 2006، والذي أكد بأن إسرائيل لن تستطيع البقاء في المنطقة إلا إذا اعتقد شعبها والشعوب المجاورة بأنها تملك القدرات العسكرية والقوة الاجتماعية اللازمة لردع أي هجوم من جيرانها. لقد quot;زال الظل الأسود من الخيال العربي،quot; وأصبح في نظرهم هزيمة إسرائيل ممكنة، ولم تبقى القوة العظمى التي كانوا يتخيلونها. ويعقب الكاتب على التدخل الإيراني في لبنان فيقول: quot;لقد اكتشفت إيران بان الحرب الأهلية اللبنانية، تركت مليشيات يمكن تحويلها لأكفئ جيش فدائي في العالم، وفعلا حولتها لأفضل قوة فدائية عسكرية في العالم. كما تجني إيران ثمار أخرى في كردستان واسيا الوسطى وعلى شواطئ الخليج، وهي نفس المناطق التي تحتوي على احتياطي النفط العالمي. وإذا نجحوا تشكيل جيش فدائي في هذه المناطق، فمن يستطيع توقيفهم؟ فسيسيطرون على 55% من احتياطي النفط في العالم، لتكون إيران مثل لإمبراطورية هيدروكربون لم يشهده تاريخ العالم.quot; ويتساءل الكاتب: ما الذي ستفعله إيران بهذا الاحتياطي من النفط؟ فمع أنها كانت خلال العقود الثلاثة الماضية في حرب مع الولايات المتحدة، ولكنها لم تكن في مواجهة عسكرية مباشرة، لأنها تعلم جيدا بأنها لن تنتصر. ولكنها عرفت مشكلة إدمان الأمريكيين على النفط، فلو سيطرت على الخليج مع احتياطي النفط ستستطيع أن تحتكر سعر النفط، وترفعه إلى 250 دولار، ولما لا تعزل الدولار من عرشه أيضا؟ ويحاول الكاتب إقناع القارئ برأيه فيقول: quot;وقد يبدو ذلك حلم، ولكن استطاع حراس الثورة الإيرانيون أن يحولوا فوضى مليشيات الحرب الأهلية اللبنانية لقوة هزمت إسرائيل. ويجب أن نضع أسوء الاحتمالات مع صعود النجم الإيراني، وستزداد الرغبة للإمبراطورية حينما يمكن سيطرتها على احتياطي النفط.quot;
ويتساءل الكاتب: ما الذي يمكن عمله مع هذه التحديات الكبيرة؟ فيرد بقوله: quot;يجب علينا أولا أن نغير طريقة تفكيرنا عن إيران والشرق الأوسط، والتوقف عن الحديث عن حكمة إعلام البيت الأبيض، وصحيفة الوول ستريت جورنال، والفوكس نيوز، وإعلانات تلفزيون مثقفي مأجوري البنتاجون، وعلينا أن نعرف بدقة من هو العدو، وما هي وسائله، وماذا يريد؟ فلو إستمرينا نحارب كالعميان في الشرق الأوسط، محاولين إحتواء إيران وصرف التريليونات في حروب لا نهاية لها، سننهزم أو سندفع لحرب الثلاثين عام والمليون جندي، أمليين تغير حضنا، أو علينا اكتشاف طريقة أخرى لحل مشاكلنا معها.quot;
ويستقرئ الكاتب المستقبل فيقول: quot;لو تفحصنا الحرب الإيرانية في لبنان، والجيش الذي قاده الإيرانيين للنصر ضد إسرائيل، سنتفهم الحملات الإيرانية القادمة، وكيف تعلمت إيران من أخطاء ثورتها لتتحول لقوة مهيمنة في الشرق الأوسط، فهذه المعلومات ستساعدنا في اختياراتنا القادمة.quot; ويعرض تاريخ تطور حركة quot;الفدائيينquot; اللبنانية فيقول: quot;ففي السادس من يونيو عام 1982 وفي الساعة 11:05 صباحا عبرت أول دبابة إسرائيلية جسر الحمراء، لتسقط مدينة صيدا بعد يومين، وتتخلص لبنان من فدائيي حركة التحرير الفلسطينية، وليترك فراغا عسكريا. وقد توقع الرئيس ريجن بتحويل لبنان لسويسرا الشرق، وتناسى بأن الشباب اللبناني المحارب كان مرتاح لبندقيته أكثر من ارتياحه لصندوق الانتخابات. ولم يضيع حراس الثورة الإيرانيين الوقت، فقد انتقلوا من سوريا للبنان، وطلبوا بقليل من الوقت لكي ينتقلوا للمناطق الفقيرة والمضطهدة في الجنوب، ليحولوا الإسرائيليين الذين استقبلوهم اللبنانيين بالأحضان لعدوهم اللدود. وكان بين شباب الجنوب ثلاثة، احدهم مقطوعة رجليه بعد اعتداء إسرائيلي، وكانوا حاقدين من الفئات القوية سياسيا والثرية التي كانت تنتقل من المطار، ومن خلال قراهم بين بيروت وباريس للتبضع. فملأ حراس الثورة الإيرانيون الفراغ اللبناني، بتجنيد هؤلاء الشباب سرا، ودعموا ظاهريا حركة أمل، فحسب تقاليدهم يجب أن يخفى العمل الجاد.quot;
ويعتقد الكاتب بأنه: quot;كل ما قاله الأمريكيين عن إيران غير صحيح، فهي لا تحارب حرب صليبية، ولا تريد أن تحول الأمريكيين لمسلمين، بل هي تؤمن بأنها تحارب الاحتلال خلال الثلاثين سنة الماضية. كما أنها ليست دولة شمولية يقودها إسلاميون فاشست، يؤمنون بأنهم في حرب مع الغرب والحضارة الغربية، بل أن قاداتها الحقيقيين منطقيون وبرغماتيون، ويحاسبون على كل خطوة يخطونها بدقة. فنحن نعيش الماضي وإيران تعيش المستقبل، ونعتبرها دولة إرهابية، وحزب الله عصابة إرهابية، نعم فهي احتلت سفارتنا في عام 1979، واعتدت على سفراتنا في بيروت عام 1983، وفجرت ثكنتنا البحرية في نفس العام، ولكن حدث كل ذلك قبل ربع قرن مضى. وتغافلنا عن ما تحولت إليه قوة حزب الله بقيادة إيران، فهي قوة فدائية وليست فئة إرهابية، كما تحولت إيران من ثوار ودولة الإرهاب إلى قوة عسكرية تقليدية اليوم. ولن نستطيع مجابهة إيران أو التعامل معها، إلا حينما نتعرف على هذه الحقائق. وعلينا أن نتفهم بان الانتصار لن يتحقق بالقضاء على خلية صغيرة إرهابية، ولا بحرب محدودة ذات نهاية محدودة. فالحرب مع إيران حرب اتهامات ضد عدو، يملك عدد لا نهاية له من الثوار الفدائيين، وإذا لم يتفهم الغرب هذه الحقائق سيهزم أمامها.quot;
ويناقش الكاتب الأسباب التي خلقت المقاومة اللبنانية، بعدما دمرت إسرائيل بيروت في عام 1982 وظهر غضب عماد مغنية مثل غضب أسامة بن لادن من قبل، ففي أول مرة في التاريخ المعاصر تدمر قوى الغزو الأجنبية مدينة عربية. ليتحول مغنية لشخص آخر حينما التقى بالشيخ حسين والتحق بالحرس الثوري. لتقدم إسرائيل لبنان على صحن من ذهب لإيران، وتكمل جميلها بدفع عملائها التقرير الكاذب عن أسلحة الدمار الشامل العراقية، لتقضي الولايات المتحدة بحربها على صدام وتدمر الجيش العراقي وتخلق فراغ آخر لتملئه إيران، فتضيف quot;جوهرة ثمينة أخرى لتاج الإمبراطورية الإيرانية.quot; ويعتقد الكاتب بأن العراق ليست فيتنام أخرى، تستطيع الولايات المتحدة تركها بسهولة، وبدون عواقب وخيمة، كما لا تستطيع البقاء فيها للأبد. ويتساءل الكاتب: ما الذي سيمنع إيران أن تخلق فوضى في الكويت والسعودية بعد الرحيل الأمريكي، لتنشر تمردا على شواطئ الخليج، كما لن تستطيع الولايات المتحدة وقف صعود إيران بعد ثلاثين عاما من محاولة احتوائها أو محاربتها، ولم تنجح جميع محاولات الإنذار والمقاطعة في الماضي، ولن تنجح مستقبلا. كما لن تكون الحرب معها خيار واقعي، والتي ستتوسع في المنطقة، لتتوقف ملاحة النفط وتتعرض القواعد الأمريكية للخطر، كما ليس هناك عدد كافي من الجنود لغزو إيران والمحافظة عليها. بل ستؤدي هذه الحرب لإفلاس الولايات المتحدة، quot;وستحولها لعالم ثالث،quot; ومع ذلك لن تستطيع أن تنتصر. وقد تطورت إمكانيات إيران بعد الحرب العراقية الإيرانية، واستفادت من تجربتها في لبنان والعراق، ومع أن قوة الجيش الأمريكي كانت مفيدة لمواجهة جيش صدام التقليدي، ولكن لم تيد في مجابهة فئات فدائية متدربة ومنضبطة ومتناثرة، والتي هزمت إسرائيل. فقد حان الوقت أن تنسى الولايات المتحدة عدائها مع إيران، بل عليها أن تجلس للتباحث معها لحل المشاكل العالقة. وستطالب إيران بدور فعال في العراق، وبعدم التعرض لأمن حكمها، كما تريد أن تبدو كقوة مسئولة، ولكنها لن تطلب أمريكا بالتخلي عن إسرائيل أو تترك النفط يرتفع إلى 300 دولار أو يتحول شعبها لمسلمين. فنحن في حاجة للتحاور مع إيران باحترام ومساواة لتحقيق السلام في الشرق الأوسط.
والسؤال لعزيزي القارئ: هل سيعمل العرب بطموحات سمو ولي عهد مملكة البحرين الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، والتي نقلته صحيفة الراية القطرية في السادس عشر من مايو 2009 على هامش مشاركة سموه في أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي المنعقدة على الشاطئ الشرقي للبحر الميت بالأردن، بأن بلاده: quot;تطمح لعلاقات ممتازة مع إيران قائمة على المصلحة المشتركةquot;؟ فهل حان الوقت لحوار صريح بين العرب والإيرانيين لمناقشة الأمور العالقة، وتهيئة دبلوماسية مصالح مشتركة، للعمل لتحقيق سلام دائم وشامل في منطقة الشرق الأوسط الكبير، للوقاية من دمار الصراعات والحروب، وتفرغ الجميع لتنميتهم الاجتماعية والاقتصادية؟
سفير مملكة البحرين في اليابان