يبدو أن الانتخابات الإسرائيلية قد أنهت أسطورة اليسار الإسرائيلي، فقد خسر زعيمه أيهود بارك، كما خسرت أحزاب يمين الوسط المتحالفة معه، لتبرز على السطح أحزاب عنصرية متطرفة. مما أدى مساءلة اليهود: هل هذا هو الحلم الصهيوني الذي ناضلنا من أجله للتخلص من ظلم المحرقة، أم تحول هذا الحلم كابوسَ دولة استعمارية عنصرية، قياداتها تنادي بالتطهير العرقي، وحكومتها تحتل الأراضي، وجيشها يقتل الشيوخ والأطفال، ويدمر المدن والقرى، ويحرق المدارس والمستشفيات؟
لقد أدى تفكك الإتحاد السوفيتي إلى هجرة مجموعات كبيرة من اليهود السوفييت لإسرائيل، والذي سبب تغيرات اجتماعية وسياسية كبيرة،عكستها نتائج الانتخابات الأخيرة. وقد كان رد الفعل الطبيعي لهذه التغيرات، بروز حركة مضادة لصهيونية اليمين المتطرف. وقد عبرت عن أفكار هذه الحركة مجموعة جريئة من الصحفيين اليهود الإسرائيليين والأمريكيين. والسؤال: من هي هذه المجموعة المتمردة؟ وكيف يمكن التعامل معها للوقاية من حرب نووية مدمرة في الشرق الأوسط؟
يعتبر تورن سيجي من أحد الصحفيين الإسرائيليين البارزين في هذه المجموعة، ولنحاول التعرف على أفكاره من خلال تعليقه على حرب غزة في صحيفة هآرتز في الثلاثين من ديسمبر الماضي بالقول: quot;أذاع التلفزيون الإسرائيلي خبرا لمراسليه في مدينتي صيدروت واشكيلون، والغرابة أن الصور التي عرضت على الشاشة كانت لأطفال من قطاع غزة، فكأنما أرسل التلفزيون رسالة غير مقصوده، بأن أطفال صيدروت هم نفس أطفال غزة، ومن يحاول أن يؤذي أيا منهم فهو شيطان ملعون.quot; ثم انتقد مبررات إسرائيل المتكررة لحروبها، بأنها تضرب الفلسطينيين لكي تعطيهم درسا، وهي النظرية التي لازمت المؤسسة الصهيونية منذ ولادتها، والتي تؤمن بأن الإسرائيليين مثل للتطور والتنوير، ومتقدمون بالمنطق والأخلاقيات، بينما العرب فهم بدائيون رعاع عنيفون، وأطفال جهلة، يجب تعليمهم وتدريسهم الحكمة بالعصاية والجزرة، كما يعامل الحمار. وتهكم على هذا الفكر العنصري الصهيوني المتطرف بالقول: quot;فمن المفروض أن يؤدب الفلسطينيين بإلقاء القنابل على غزة، وذلك كجزء من النظرية الصهيونية التي تفترض بأنه من الممكن فرض قيادة معتدلة لكي يتنازلوا عن طموحاتهم. واعتقدنا دائما بأننا حينما نزيد من معاناتهم، سيثورون على قياداتهم الوطنية، وطبعا ثبت خطأ تلك الفرضية المرة تلو الأخرى.quot; ويؤكد الكاتب بأن الحروب الإسرائيلية افترضت بأنها تدافع عن شعبها، ولا تعتدي على أحد، وكأنما لم يكن السبب في المجابهة الحالية هو quot;تعرض قطاع غزة لحصار طويل، قضى على فرص جيل كامل للحياة، حياة تستحق العيش.quot;
والصحفي الإسرائيلي الآخر هو جيدون لفيني، والذي عبر عن أفكاره في مقال بصحيفة هاارتز في الثالث عشر من فبراير الماضي وبعنوان، هل تشرع الصهيونية أي فعل عنف؟ يقول فيه: quot;لقد توفي اليسار الإسرائيلي في عام 2000، ومنذ ذلك الوقت بقيت جثته ملقية بدون دفن، وأخيرا صدقت على شهادة وفاته الانتخابات الإسرائيلية. وقد كان جلاد عام 2000 هو نفسه حفار قبور عام 2009، وزير الدفاع الإسرائيلي أهود باراك، الذي نجح في إشاعة أكاذيبه، بأنه لا يوجد رفيق للسلام. وقد جنا ثمرة كذبه في هذه الانتخابات، فانتهت بجنازته.quot; فيعتقد الكاتب بأن اليسار الإسرائيلي قد دفن معسكر السلام قبل تسعة أعوام، وادعى كذبا حزب العمل وميريتس وكديما بأنهم يمثلونه، وقاموا بإشعال حربين، واستمروا في بناء المستوطنات، ليصبح السلام يتيما. ويسترسل الكاتب في القول: quot;لقد أدلى الإسرائيليون ضد الذين ضللوا تفكيرهم، بأنه لا يوجد رفيق لمكالمته، وبأن الجواب الوحيد هو قوة القتل والاستيطان، لتنتهي حقبة حزب العمل والميرتس. فبعد سنوات طويلة من غياب معارضة اليسار، وبعد مذابح صبرا وشتيلا، وحرب غزة ولبنان، وقتل الأطفال، والقنابل العنقودية والفوسفورية، وجميع ماسي الاحتلال، لم يدفع كل ذلك اليسار للشارع. كما استغل الوسط واليمين، وكل من شارون واولمرت، أفكار اليسار ليتكلموا بلغة اعتبرت في الماضي متطرفة، ليصبح الصوت صوت اليسار، بينما كانت اليد يد اليمين.quot;
ويتساءل جيدون لفيني: quot;وما هي الصهيونية اليوم؟ مفهوم مهجور انتهى عهده. مفهوم مبهم ووهمي، حدد الحلال والحرام. فهل الصهيونية تعني الاستيطان في أراضي الغير والاحتلال، وشرعنة أفعال العنف والظلم؟ فقد احتكر اليمين الصهيونية، ودولة اليهود والديمقراطية، ووافق اليسار الصهيوني على ذلك وبدون تردد، ورفض حل مشكلة اللاجئين وحق العودة والاعتراف بأخطاء 1948. فيجوز أن لا تكون صهيونيا كما هو معروف اليوم، بأن تؤمن بأن من حق اليهود دولتهم ولكن تعارض الصهيونية على احتلالها، ويجوز أن تؤمن بأن ما حدث في عام 1948 يجب أن يوضع على جدول الأعمال، لكي نعتذر عن الظلم ونعمل على تأهيل ضحايانا. ويجوز أن نعارض الحرب الغير ضرورية في يومها الأول، ويجوز أن نؤمن بأن العرب يستحقون نفس الحقوق الثقافية والاجتماعية والوطنية كاليهود. كما يجوز التساؤل عن الصورة المشوهة لجيش إسرائيل كجيش للاحتلال، بل ويجوز أن ترغب التحدث مع حماس. كما علينا أن نقرر إن كانت تلك هي الصهيونية، أم تضادها. فهذا القرار شرعي وأساسي للذين يرفضون أن يكونوا ضحايا جنون اليمين المتطرف لسنوات إضافية قادمة. ومن يريد أن يكون يسار إسرائيل، عليه أن يقول لا للصهيونية التي سيطر عليها كاملة اليمين المتطرف.quot;
ومن الصحفيين الإسرائيليين البارزين في هذه الحركة هو برادلي برستون، والذي علق على نتائج الانتخابات الإسرائيلية بصحيفة هاارتز فقال: quot;وصدمة الانتخابات الإسرائيلية هي أن الشعب الإسرائيلي قد صوت لليمين المتطرف، ليس لأنه يرفض فكرة صفقة السلام والتقسيم وحل الدولتين، ولكن لأنه يؤمن بأن اليمين أكثر كفاءة لإيجاد طريقة لتحقيق هذه الصفقة المؤلمة، والتي يعتبرها صفقة طلاق بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فكما ورطتهم في المجابهة القوى الدولية ستقوم بفصلهم. وليس هناك إلا حزبان يناقشون نظرية إسرائيل الكبرى، ولم يفوزا إلا بسبعة نواب في البرلمان. وبعبارة أخرى معظم الأكثرية صوتت لليمين والتي تعتقد بأنه سينهي هذه العلاقة بمعظم الأصول لإسرائيل، وبدون نفقة للفلسطينيين.quot;
وقد بدأت تزداد أصوات هذه الحركة الجديدة بشكل منظم في الولايات المتحدة، وتعارض مجموعات اللوبي الإسرائيلي اليميني المتطرف، ودعمت أوباما في الانتخابات الرئاسية بثلاثة أرباع أصوات الشارع اليهودي الأمريكي. وقد صرح الين سولومنت، أحد زعماء الجي ستريت، الحركة اليهودية ألأمريكية الجديدة المعارضة لصهيونية اليمين المتطرف، بالقول: quot;لقد استمعنا لصوت المحافظين الجدد ويمين الوسط من القيادات اليهودية والانجاليك المسيحيين، ولكن لم يستمع أحد لصوت الشارع اليهودي الأمريكي.quot; وعلق جيرمي بن أميه أحد قيادات هذه الحركة بقوله: quot;أسست الجيه ستريت بسبب غياب أصوات كافية تعبر عن رأي الشارع اليهودي الأمريكي، والمؤمن بأن مصالح إسرائيل ستحقق حينما تكون السياسة الأمريكية موجهة لتحقيق سلام عادل ودائم لإسرائيل، وليس فقط مع الفلسطينيين بل أيضا مع جيرانها.quot; ويعتقد الكاتب جريشوم جورتبرج بأن الجيه ستريت لن تغير الخارطة السياسية في واشنطن فقط، بل أيضا الخارطة السياسية للشرق الأوسط.
فقد أدت نشاط هذه الحركة لظهور مجموعتين متضادتين من اليهود مختلفتين على مفهوم الصهيونية في واقع العولمة الجديد. وترجع أفكار المجموعة الأولى لعقلية القرن التاسع عشر والتي تؤمن بالتطرف الديني والفكر العنصري والاحتلال الاستعماري القديم، وتنادي لحل خلافاتها بقوة حكومات تسيطر عليها نخبة تاريخية، وبدعم جبروتها العسكري. بينما ملت المجموعة الأخرى من مآسي الحروب، وآمنت بأن التكنولوجية قد حولت العالم لقرية صغيرة، وأضعفت دكتاتورية حكومات النخبة وجبروت آلياتها العسكرية، وتحتاج خلافاتها لحلول دائمة وبالقوة الذكية، وبحوار المنطق والقانون. وتقدر هذه المجموعة جرأة أوباما بمعارضته لحرب العراق، ورفضه الدعم الأعمى لليمين الإسرائيلي المتطرف، حينما قال: quot;هناك رأي سائد في أوساط المجموعات المؤيدة لإسرائيل، وهو أنك إذا لم تكن مؤيدا تأييدا لا يتزعزع لمواقف حزب الليكود في الصراع العربي الإسرائيلي فمعنى ذلك أنك تتبنى خطا مضادا لإسرائيل... وليست هذه في نظري الطريقة التي يمكن بها قياس مدى متانة صداقتنا لإسرائيل. وإذا لم تكن هناك إمكانية لوجود حوار أمين وجاد بيننا حول الطريقة المثلى لتحقيق أهدافنا، فلن نحقق أي نوع من التقدم.quot; ويبدو بأن هذه المجموعة ستدعم أوباما لتحقيق طموحات خطاب فوزه حينما قال: quot;لقد سرنا أشواطا طويلة، وعانينا الكثير، وباقي هناك الكثير لتحقيقه. ولنسأل أنفسنا: ما الذي سيشاهدونه أطفالنا لو عاشوا للقرن القادم؟ وما التطور الذي سنحققه؟ وهذه فرصتنا، بل لحظتنا التاريخية للإجابة.quot; والسؤال: ما هو جواب العرب والإسرائيليين لأطفالهم على هذه الأسئلة؟ وكيف سيتعامل العرب مع هذه التطورات الجديدة لإيجاد حل عادل وشامل للصراع العربي الإسرائيلي؟
سفير مملكة البحرين في اليابان