من مفكرة سفير عربي في اليابان

يبدو بأن هناك إستراتيجية أمريكية جديدة لمعالجة التحديات العالمية المعقدة، ودبلوماسية متزنة للتعامل مع معضلات منطقة الشرق الأوسط. فيعتقد الرئيس أوباما بأن على بلاده أن تلعب دورا قياديا جديدا في العالم، تعتمد على سياسات تدريجية متزنة وهادئة، لتقود سفينتها بمشاركة عالمية متعاونة، تحترم فيها الدول الكبيرة الدول الأصغر، ويستمع فيها القوي للضعيف، بدل أن يعرض عليه عضلات قوته ويفرض علية قراراته. وقد تحتاج دول الشرق الأوسط التعرف على هذه التوجهات الأمريكية السياسية والدبلوماسية الجديدة. والسؤال لعزيزي القارئ: ما هي أساسيات الدبلوماسية الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط؟ وكيف ستستفيد شعوب وحكومات المنطقة منها؟
كتب الاقتصادي البريطاني ديفيد هوول، عضو مجلس اللوردات والوزير السابق، في صحيفة اليابان تايمز الصادرة في الثالث والعشرين من شهر أبريل الماضي، وبعنوان، تغير السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، يقول فيه: من الممكن أن نسمع طحن الطبقات الزلزالية، بعد أن نشط المجتمع الدولي من جديد ليستعيد توازنه، ويراجع فرضياته القديمة. والمحفز الجديد هو وصول الرئيس أوباما للمشهد الدولي، والتغير الكبير في السياسة الخارجية الأمريكية، والمواقف التي ستعكسها. فقد بدأت الهيمنة الأمريكية في الهبوط منذ عقد من الزمن، وانتقل توازن القوة والثراء لآسيا، وزادت سرعة هذا الانتقال بالفوضى المالية العالمية الحالية. وتبدو في الأفق خارطة شرق أوسطية جديدة، بتنافس تركيا والسعودية ومصر مجتمعة كقوة إقليمية كبرى مع إيران، وستلعب سوريا والعراق دورا هاما متصاعدا، كما حان الوقت لكي تستخدم الولايات المتحدة باقي قوتها لتنسحب إسرائيل من الأراضي التي ستكون فلسطين الجديدة. ويرجع الفضل للرئيس أوباما لتعرفه على هذه التغيرات بسرعة ملفته للنظر.
فالرئيس أوباما مستوعب لانتهاء زمن الهيمنة الأمريكية، وبأن على الولايات المتحدة احترام الأمم الأخرى الكبيرة والصغيرة منها، باختلاف بنية حكوماتها وقيمها، وبأن عليها تجنب قيادة العالم بدون مسائلة، وبأن تحديات منطقة الشرق الأوسط متشابكة ومهوله. كما يعتقد البعض بأن الصراع العربي الإسرائيلي هو quot;السم الذي يتلف كل شيء،quot; فعلى الرئيس الأمريكي البدء بالتعامل معه. والمشكلة أن الدعم الأمريكي الغير مشروط لإسرائيل، أدى لاستياء شعبي متصاعد لتواجدها في المنطقة. كما أن الصراع العربي الإسرائيلي مرتبط أيضا بإيران ودعمها لحماس في غزة وحزب الله في لبنان، وبالتخوف الإسرائيلي من قنبلتها النووية، بالإضافة لتحديات الصراع السني الشيعي في العراق، وانتشار إرهاب القاعدة من أفغانستان وباكستان. وتحتاج جميع هذه التحديات تغير جذري في إستراتيجية السياسة الأمريكية.
ويعتقد الكاتب بأن تركيا قد تكون دولة محورية في الشرق الأوسط في المرحلة الجديدة، كجسر بين إيران والغرب، وكوسيط بين فلسطين وإسرائيل، وكمنبع فكر للمنطقة كدولة مسلمة وعلمانية وذات قوة عسكرية هائلة. وستؤدي تغير السياسة الأمريكية لإعطاء سوريا قوة إستراتيجية مركزية هامة، لكي تتحول الدول المنبوذة تدريجيا للاعبين أساسيين في المنطقة، وليتغير quot;محور الشر لقوس للتعاون.quot; وعلينا الانتظار لمعرفة نتائج هذا التغير، فهل سيهدأ غضب شعوب المنطقة، ويقل من عدائها للغرب، ويزيد من مسئوليات شعوبها وحكوماتها لتستطيع التعامل مع تحدياتها المعقدة. كما أن النظرية التي تفترض بأن مشكلة الشرق الأوسط مشكلة خلقها الغرب وعليه مسئولية حلها، قد أصبحت نظرية بالية مع تغيرات العولمة الجديدة، حيث انخفض اعتماد الغرب على نفط الشرق الأوسط، بالإضافة لتدهور تأثير قوته على أحداث المنطقة. وما عدا معضلة الدعم الأمريكي لإسرائيل، يبدو بأن القوى الإقليمية الجديدة، العرب والإسلاميين، العلمانيين والدينيين، ومع دول الخليج وبتعاونها مع العراق، ستكون في وضع أفضل لكي تتعامل مع تحديات المنطقة الكثيرة والمعقدة. وعلى الرئيس اوباما قيادة السفينة من بعيد، وستكون لحظة تاريخية حينما تنجح مهمته فتتغير المنطقة وتغير العالم بأسره.
تلاحظ عزيزي القارئ كيف أقتنع الغرب بأن الاحتلال والتدخل في شؤون دول الشرق الأوسط لم تؤدي إلا لانتشار التطرف والعنف، ليفقد الغرب أمنه وحريته وينشغل بحرب تنهك ثرواته البشرية والمالية. ويبدو بأن الغرب سيفرض على إسرائيل قرار الدولتين، وسيعطي شعوب وحكومات المنطقة فرصة لتتحمل مسئولياتها وتتعامل مع التحديات المتشابكة بحكمة واتزان. وقد تحتاج دول المنطقة المتصارعة لتجمع إقليمي، تناقش فيه قواعد التحاور مع بعضها، وتحدد أولوياتها وتجد الصيغ المتزنة للتعامل مع تحدياتها المقبلة. ويبدو بأن المرحلة القادمة ستترافق بخارطة جديدة للشرق الأوسط، والتي سيحدد ملامحها الرئيس أوباما مع الاتحاد الأوربي ودول الشرق ألأوسط. ومن الضروري تقسيم المرحلة القادمة لمرحلتين، مرحلة ما قبل السلام الورقي والتي تنتهي بتوقيع الاتفاقيات المكتوبة بين إسرائيل والفلسطينيين والدول العربية والإسلامية، ومرحلة ما قبل السلام الذهني، والتي تبدأ بتغير مفاهيم التفرقة الخاطئة، وغرس أخلاقيات احترام الاختلاف. لتستطيع شعوب المنطقة احترام اختلافاتها الدينية والمذهبية والأيديولوجية والثقافية والسياسية، لكي تتحول فلسفة أيديولوجياتها المتصارعة، لفلسفة براجماتية متناغمة ومنتجة، تهيئ لسلام حقيقي دائم وشامل. ولتبدأْ بعدها مرحلة ما بعد السلام والتي ستكون تحدياتها مهولة وتحتاج لإصلاحات اقتصادية واجتماعية بدون ضغوط غربية، لترافقها إصلاحات سياسية تدريجية متأنية ومدروسة ومرتبطة بقيمها وثقافتها وتاريخها. وقد تكون هناك حاجة لاستفادة شعوب المنطقة من إصلاحات التجربة الآسيوية في اليابان وكوريا الجنوبية وتيوان وسنغافورة وماليزيا والصين والهند.
فتجربة دول شرق آسيا في تطوير عقول ومهارات مواردها البشرية، وتنمية بنيتها التحتية ومؤسساتها الاجتماعية والاقتصادية والصناعية نموذج قد تسرع من الإصلاحات في دول الشرق الأوسط. وستكون من أولويات هذه الدول تهيئة عقول شبابها للتخلص من quot;الاستعمار الذهني،quot; الذي خلق عقدة النقص وأضعف الشعور بكفاءة قيمنا وحضاراتنا وشعوبنا أمام بهرجة الحضارة الغربية. وسنحتاج استبدال فلسفة التصنيع الغربية التقليدية التي ضرت بالبيئة ومواردها الطبيعية والبشرية، بفلسفة quot;البستاني الأيكولوجيةquot; بحرث التنمية، لتوفير بيئة مجتمعية مشابهة لتهيئة البستاني الأرض لنبتته. فبرؤية العالم كمركب معقد متشابك ومتواصل، سنحتاج لثورة تغير دورنا من بنائيين لنظام نستطيع السيطرة عليه ونديره، لبستاني يعيش في نظام بيئي ايكولوجي عليه التعامل معه بحكمة روحانية. كما سنحتاج لتغير تفكيرنا الحالم للعالم لرؤية واقعية بعقده المتشابكة ومتغيراته السريعة، لنحول تفكيرنا من quot;تفكير عصاة جامدة تحركه تيارات النهر،quot; لتفكير كائن متغير يتعامل مع تحديات تيارات النهر بفاعلية، لكي تؤثر أفعالنا وسياساتنا وأحلامنا على كل ما يجري من حولنا. كما سنحتاج لنشر ثقافة احترام الوقت والعمل المبدع والمنتج، ولأنظمة تحترم الحرية الفردية، وتقدر صعودها في السلم الاجتماعي بكفاءة جهودها وأخلاقياتها، ولتطوير عقول شبابها لتتجاوز مرحلة التفكير في توفير حاجياتها الغريزية من مأكل ومشرب ومسكن، لمرحلة التفكير في حاجياتها النفسية والذهنية. كما ستحتاج مجتمعاتنا لاتقان أساسيات علم الاقتصاد الحديث، وتطبيق قوانينه، وتحرير أسواقه بانضباط، وتشجيع الاستثمار الأجنبي، وممارسة سياسات مالية مدروسة وحذرة، وزيادة المدخرات المحلية. كما علينا تحويل خطورة الأزمة الاقتصادية الجديدة لفرصة لبناء نظام اقتصادي ومالي وإداري متطور ومتنوع لخفض الاعتماد على النفط، وخلق مجتمعات ترفض الرشوة والفساد والوساطة، وتلتزم بالكفاءة والجودة. كما أن هناك حاجة لتطوير خلطة من القيم وقوة التقاليد والأخلاقيات، ودمجها بالتواصل العائلي والتناغم المجتمعي واحترام المؤسسات والقوانين والدفاع عن المصالح المجتمعية، والتأكيد على الانجاز والنجاح الفردي والحرية الاقتصادية والسياسية. كما سنحتاج لتهيئة قيادات مستقبلية مرنة تستطيع التعامل مع تحديات مجتمعاتها بشكل واقعي، ولتطوير قيادات برلمانية تتفرغ لبراغماتية تنمية مجتمعاتها وتتجنب الصراعات الأيديولوجية النظرية، ولمؤسسات دينية متفرغة لنشر أخلاقيات وقيم دينها، لتحمي مجتمعاتها من التفرقة والطائفية، وتعمل على زرع بذرة التالف والتراحم والتناغم وحب العمل والإبداع في إنتاجيته. والسؤال المحير: هل مستعدة شعوب منطقة الشرق الأوسط لهذا التحدي الجديد؟ ولنا لقاء

سفير مملكة البحرين في اليابان