الحلقة الأولى

من مفكرة سفير عربي في اليابان

ناقش المحلل الاستراتيجي الأمريكي، جورج فريمان، التوازنات الإستراتيجية الأمريكية القادمة في المنطقة، بمجلة ستاتفورد الإلكترونية، في شهر مارس الماضي، وطرح الخلاف الأمريكي الإسرائيلي في مقال بعنوان، لقاء أوباما مع نتينياهو بتكويناته الإستراتيجية. يؤكد الكاتب بأهمية سلام الشرق الأوسط لأمن الولايات المتحدة، وخطورة التوسع الاستيطاني الإسرائيلي عليها، كما أثار سؤال عن مدى أهمية العلاقة الأمريكية-الإسرائيلية للولايات المتحدة، وعن نقاط التلاقي والتعارض بين مصالح البلدين. فيتصور الكاتب بأن هذه العلاقة غير متلاصقة بصداقة معينة، بل مرتبطة بمصالح وطنية، وقد يكون من الصعب مناقشة المصالح الأمريكية والإسرائيلية بسبب ضبابيتها، ولكن يمكن طرح سؤالين للمناقشة: هل يرجع جذور كراهية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لدعمها لإسرائيل؟ وهل، فعلا، هناك علاقة إستراتيجية أمريكية خاصة مع إسرائيل؟
يتصور الكاتب بأن الإجابة على هذه الأسئلة ليست بالسهولة المتوقعة، بل تحتاج لدراسة وتحليل دقيق، بعد فصل الخطابات المنمقة عن المصالح القومية. ولنبدأ أولا، بحقيقة، أن الدعم الأمريكي لإسرائيل، أدى لكراهية الولايات المتحدة في العالم العربي والإسلامي، فمع أن هذا الدعم شارك في هذه الظاهرة، ولكن من الصعب أن تفسرها. فالمشكلة هي أن العداوة العربية لأمريكا، سبقت الدعم الأمريكي لإسرائيل، والحقيقة بأنها لم تقدم دعم مهم قبل عام 1967، بالرغم من إنها كانت توفر ديون قليلة، لشراء المنتجات الزراعية الأمريكية، من خلال برنامج دعم تشارك فيه الكثير من الدول، بل كانت فرنسا الممونة الرئيسية للأسلحة لإسرائيل في ذلك الوقت. فقد قامت إسرائيل بغزو سيناء في عام 1956، بينما استولت بريطانيا وفرنسا على قناة السويس، بعد أن أممها الرئيس عبد الناصر، فتدخلت إدارة الرئيس الأمريكي، أيزنهاور، ضد إسرائيل في مساعدة مصر، وضغطت على القوات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية للانسحاب. وبالرغم من ذلك الموقف الأمريكي، قام الرئيس عبد الناصر بعقد اتفاقيات كبيرة مع الاتحاد السوفيتي، لتصبح مصر حليف أساسي لها، ولتحصل على دعم كبير منها، ولتتحول مصر مركزا هاما لعداوة أمريكا، ومهما تكن الأسباب، والتي قد تكون لها علاقة بعدم رغبة الولايات المتحدة تقديم أعانة مالية كبيرة لمصر، فالسلوك المصري المضاد للولايات المتحدة، لم يكن له علاقة بالإسرائيليين، إلا أن الولايات المتحدة لم تكن مستعدة لمشاركة مصر في تدمير إسرائيل.
ثم أستطرد الكاتب في تحليله بعرض الانقلاب السياسي اليساري بسوريا في عام 1963، والانقلاب الآخر في العراق، ليستلم حزب البعث السلطة، ويدعم السوفيت، ويعادي الولايات المتحدة. ولم يرتبط ذلك بالدعم الأمريكي لإسرائيل في ذلك الوقت، فردت الولايات المتحدة، في عام 1964، بدعم مصر بالصواريخ، كما دعمت دول عربية أخرى، بعد أن تخوفت من تواجد الطيارات المقاتلة السوفيتية في المنطقة، فنصبت شبكة صواريخ مضادة لهجوم جوي سوفيتي على المملكة العربية السعودية. وحينما اختلفت فرنسا مع إسرائيل حول الصراع العربي الإسرائيلي في عام 1967، بدأت الولايات المتحدة في تقديم دعم كبير لإسرائيل، وأستمر هذا الدعم بعد الهجوم السوري المصري على إسرائيل في عام 1973، وقد أرتفع هذا الدعم في عام 1974، لحوالي 25% من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي، واستمر بنفس المستوى حتى الآن. وبسبب نمو الاقتصاد الإسرائيلي، أصبح يمثل هذا الدعم quot;المباشرquot; اليوم 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي. فالنقطة المهمة، هي أن الولايات المتحدة لم تكن داعمة لإسرائيل قبل عام 1967، بينما كانت عداوة العرب للولايات المتحدة قوية، وقد يكون ذلك بسبب لوم الولايات المتحدة بدعم إسرائيل، ولكن لم يكن هناك حقائق لهذا الاتهام. نعم، بدأ الدعم الأمريكي في عام 1967، وتصاعد في عام 1974، ولكن الإدعاء بأن وقف دعم إسرائيل سيخفف الموجه المعادية للولايات المتحدة يحتاج لدراسة، بمعرفة سبب هذه الموجه، وفي الحقيقة، ليس واضحا إن زادت هذه الموجه بعد الدعم الأمريكي لإسرائيل. كما ليس هناك شك بأن مصر، وهي أهم دولة عربية، تحولت لدولة مساندة للولايات المتحدة، بعد حرب عام 1973، بالرغم من زيادة الدعم الأمريكي لإسرائيل.
ولنفترض أولا بأن إسرائيل مهمة للإستراتيجية الغربية الكبيرة بمنطقة الشرق الأوسط، وتعتمد هذه الإستراتيجية على توازن القوى في المنطقة، لمنع بروز قوة كبيرة تعرض مصالح الولايات المتحدة للخطر. وقد كانت الحرب الباردة تجربة مهمة في توازن القوى، بتحالف الولايات المتحدة مع قوى كثيرة ضد الاتحاد السوفيتي، ومنذ انتهاء الحرب الباردة، تحركت الولايات المتحدة ضد الهيمنة الإقليمية بالعراق في عام 1990، وسيبيريا، في عام 1999، وغيرهما. وتوجد في الشرق الأوسط ثلاث قوى داخلية إقليمية، التوازن العربي الإسرائيلي في غرب المنطقة، والتوازن العراقي الإيراني في وسطها، والتوازن الهندي الباكستاني في شرقها، وهدف الولايات المتحدة من هذه القوى، ليس الاستقرار، بقدر ما هو تعادل التوازن بين قوى محلية مع قوى محلية أخرى. وقد اختفت قوتان في هذا التوازن، فقد انهارت الحكومة العراقية القوية بعد الغزو، ولم تنجح الولايات المتحدة باستبدالها بحكومة قوية مضادة لإيران، مما أدى لانهيار التوازن في وسط المنطقة. كما أن توازن القوى بين باكستان والهند معرض للانهيار، فقد أدت حرب أفغانستان لضغوط كبيرة على باكستان، ومن الخوف أن تنهار باكستان، وتبقى الهند قوة وحيدة في شرق المنطقة. لذلك على الولايات المتحدة أن تقوي باكستان لتوازن قوة الهند، والمشكلة هي في كيفية إدارة الحرب الأفغانية، بدون الضرر للمصالح الإستراتيجية الأمريكية، وبتوازن القوى الهندية الباكستانية. ويبقى توازن القوة بين إسرائيل وجيرانها، نسبيا مستقر، والمهم للولايات المتحدة، أن لا يتعرض هذا التوازن للخلخلة.
وتحاول الولايات المتحدة أن تبقي توازن القوى في منطقة الشرق الأوسط، ويعني ذلك بأنها تحتاج لعلاقات مستقرة مع دولها بدون أن يصبح أحدها الأقوى بشدة ولا يمكنها التعامل مع خلافاته. وتعتبر إسرائيل قوة مسيطرة في المنطقة، وتستطيع سوريا والأردن ومصر كبح جماحها بدرجة محدودة، فقد بدأت إسرائيل التحول من قوة مهمة في توازن القوى، وحليفة للولايات المتحدة، لقوة مهيمنة، تعمل خارج شبكة المصالح الأمريكية. وبينما تفضل الولايات المتحدة أن يستمر الحكم في مصر، وأن يحافظ الحكم في الأردن على استقراره، تعمل بجهد لتحسين الوضع في العراق وأفغانستان، ومع الأسف هناك القليل الذي تستطيع إن تقوم به لتغير الوضع في العراق وأفغانستان. ولو انهارت قوى التوازن في غرب المنطقة، بخلخلة النظام المصري، أو بحرب بين إسرائيل وحزب الله، قد تجد الولايات المتحدة نفسها في ورطة معقدة، كما لن يساعدها انتفاضة فلسطينية جديدة. لذلك تحاول الولايات المتحدة، وبكل إمكانياتها، السيطرة على الوضع في غرب وشرق ووسط منطقة الشرق الأوسط، ولا تستطيع إسرائيل مساعدتها، بل يمكنها أن تسبب ضررا كبيرا لها، كبدء الهجوم على إيران بدون الترتيب معها، لذلك تصر الولايات المتحدة ألا تقوم إسرائيل بشيء يخلخل الأوضاع في المنطقة، فتتعقد تحديات بقائها فيه.
وتعتقد إسرائيل بأن وجود الاحتلال الأمريكي في المنطقة فرصة مناسبة، لتقوي سيطرتها، وتتوسع، لتفرض حقائق جديدة على الأرض، بتغير ديموغرافية وجغرافية المنطقة. فبينما تؤكد إسرائيل حقها في القدس الشرقية، ويجب ألا تتدخل الولايات المتحدة في طموحاتها، تصر الولايات المتحدة بوقف البناء في الأراضي المحتلة، لمنع تعرض مصالحها الكبيرة في المنطقة للخطر. فلن تتحمل الولايات المتحدة أي خطر من المغامرات الإسرائيلية، ومهما يكن هذا الخطر صغيرا، لذلك بدأت تتضارب المصالح الأمريكية والإسرائيلية. فبينما تجد إسرائيل أمامها فرصة ذهبية للاستيطان، تخاف الولايات المتحدة من خطورة المغامرات الإسرائيلية، ومشكلة إسرائيل هو أن استمرار علاقتها مع الولايات المتحدة هي بوليصة تأمين بقائها. وفي نفس الوقت، يتصور نتينياهو، بأن الولايات المتحدة ستتغاضى عن تصرفاته، بسبب حاجتها لبلاده في توازن القوى في غرب الشرق الأوسط، لذلك يحاول وبعنف، ولأسباب داخلية، أن يستمر في البناء في الأراضي المحتلة، ليحافظ على دعم اليمين المتطرف، بينما يحاول اوباما إقناعه بأن إسرائيل قوة إستراتيجية ضمن المصالح الأمريكية في المنطقة، وحينما تصبح إسرائيل جزءا من مشاكل الولايات المتحدة في المنطقة، لا جزءا من حلها، ستبحث الولايات المتحدة عن حلول أخرى، وقد يبدو ذلك مستحيل ولكنه محتمل. فهناك قوة أخرى مستعدة لأخذ الدور الإسرائيلي، وهي تركيا، وقد لا تبدو في الوقت الحاضر تهديد محتمل. ولا تستطيع إسرائيل أن تتحمل أي تهديد من الولايات المتحدة، كإنهاء العلاقة الأمريكية الإسرائيلية، وقد لا تبدو هذه العلاقة أساسية لإسرائيل في هذه اللحظة، ولكنها أحد القواعد الأساسية لإستراتيجية بقائها. ولن تستطيع الولايات المتحدة تحمل أي خلل في استقرار المنطقة، كما لن تستطيع إسرائيل تحمل أي تهديد، مهما كان بعيدا، لعلاقتها مع الولايات المتحدة، ليؤكد كل ذلك بأن هناك شراكة غير كاذبة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، ولكنها شراكة معقدة، أكثر من ما تبدو على السطح.
وينهي الكاتب مقاله بالقول: quot;يحاول نتينياهو أن يضغط على الإدارة الأمريكية، من خلال الكونجرس، لتوسيع الاستيطان في الأراضي المحتلة، ويتناسى بأن المصالح السياسية ليست كافية للضرر بالحاجيات الجيوبوليتيكية، وسيؤدي هذا الضغط لعواقب وخيمة، لانشغال الولايات المتحدة بأزمات خطيرة في المنطقة. فلن تتحمل الولايات المتحدة تحديات إضافية من نتينياهو، وقد تدفعها لتصرفات غير متوقعة، تعرض المصالح الإسرائيلية للخطر، ويخطئ نتينياهو بتوقعه بأن تحمي آلية السياسية الأمريكية إسرائيل من العواقب الوخيمة، بل تعبر عن جهله للانفعالات الأمريكية في هذه اللحظة. وقد تحاول إسرائيل أن تغامر وتستفيد من انشغال الولايات المتحدة بمصالحها في مناطق أخرى، ولكن سيؤدي ذلك لتهديد مستقبلي للمصالح الإسرائيلية، فالولايات المتحدة لا تحتاج لتحديات جديدة، وهي مشغولة بحربين مرهقتين.quot; والسؤال لعزيزي القارئ: هل ستستفيد دول المنطقة من هذه الظروف المعقدة لتطوير علاقتها مع الولايات المتحدة؟ وهل ستدعم أموال نفطهم اللوبي العربي في الولايات المتحدة للدفع بالإدارة الأمريكية لتحقيق سلام عادل وشامل في الشرق الأوسط؟

سفير مملكة البحرين في اليابان