من مفكرة سفير عربي في اليابان
دراسة التاريخ، وتفهم حلقاته المتكررة، يساعد على توقع المستقبل، للاستعداد للتعامل معه، وتخفيف عواقبه. وقد حاول الكاتب البريطاني جورج أورول، في روايته، ألف وتسعمائة وأربعة وثمانين، التي صدرت في عام 1949، استقراء عالم الثمانيات بتغيراته السياسية المعقدة بنجاح. كما حاول البروفيسور الأمريكي فرانسيس فوكوياما في كتابه، نهاية التاريخ وآخر البشر، الصادر في عام 1992، توقع التغيرات العالمية، بعد سقوط جدار برلين وانهيار الإتحاد السوفيتي، فوصف توقعاته بالقول: quot;ما نشاهده ليس فقط نهاية الحرب الباردة، بل هو نهاية التاريخ، أي، نهاية التطور الأيديولوجي للبشرية وعولمة ديمقراطية الغرب اللبرالية كشكل نهائي للحكومة.quot;
وتوقع المحلل الاستراتيجي الأمريكي، جورج فريدمان في كتابه الجديد، المائة سنة القادمة وتوقعات القرن الواحد والعشرين، استمرار القوة الأمريكية في القرن الواحد والعشرين، وانتقال قواعدها العسكرية لمراكز فضائية، والتي ستحتاج لطاقة تشغيل هائلة، وسيؤدي ذلك لتطور أبحاث الطاقة الشمسية وتقدم تكنولوجيتها. كما يستقري الكاتب انشغال أوروبا الغربية بخلافات اتحادها الأوربي، وتعاون أمريكي مع أوربا الشرقية، لتبرز بولندا كدولة عظمى. وستقود تركيا بتعاونها مع الولايات المتحدة، التغيرات في الشرق الأوسط، لتصبح دولة عولمة جديدة. بينما ستنشغل الصين بتنميتها، وستطور علاقاتها الاقتصادية مع الولايات المتحدة، وستتجنب مواجهتها. وسيستمر التقدم التكنولوجي والنمو الاقتصادي والتطور العسكري في اليابان، لتصبح دولة عظمى مؤثرة خلال المائة سنة القادمة. والسؤال: هل سيحتاج العرب لمثل هذه الآلية لاستقراء دبلوماسية المستقبل؟ وهل هناك جهود شرقية لاستقراء التحولات العالمية المتوقعة في المائة سنة القادمة؟
لقد حاول البروفيسور السنغافوري، كيشور مهبوباني، الدبلوماسي ووزير الخارجية السابق، أن يستقري تغيرات هذا القرن، في مقال بصحيفة أساهي شمبون، الصادرة في الثاني عشر من نوفمبر الماضي، وبعنوان، نهاية تاريخ من؟ فعلق يقول: quot;لقد أحتفل العالم بالذكرى العشرين لسقوط جدار برلين، وعبرت تلك الأحداث اللحظية للكثيرين عن ما يسمى بنهاية التاريخ، والنصر النهائي للغرب. وخلال نفس الأسبوع سيقوم باراك أوباما، الرئيس الأسود الأول للدولة التي كانت عظمى ومنتصرة في الحرب الباردة، للتوجه لبيجين للقاء مع داني الولايات المتحدة -حكومة الصين الشيوعية- وهو حلم لم يمكن تصوره من قبل. ويعبر ذلك عن مدى تغيرات مجرى التاريخ خلال العقدين الماضيين.quot;
ويتصور مهبوباني بأن البروفيسور فوكوياما قد سبب تشوه للذهن الغربي، بتركيزه على عبارتين في استقرائه، نهاية التاريخ يساوي انتصار الغرب، فأستطرد يقول: quot;لقد كان ذلك سبب شلل توقع الذهن الغربي، في التسعينيات، بنهاية الهيمنة الغربية، ورجوع الشرق الأسيوي من جديد. وليس هناك أي شك بأن الغرب شارك في هذا النجاح الأسيوي، بعد أن استوعبت شعوبه أعمدة الحكمة الغربية السبعة: اقتصاد السوق الحرة، العلوم والتكنولوجيا، أهمية الكفاءة والأداء، البرغماتية الواقعية، ثقافة السلم، ودور القانون والتعليم. ولنلاحظ غياب السياسة اللبرالية الغربية عن هذه القائمة.quot; فقد تصور الذهن الغربي، بأن العالم سيصبح غربيا، وفي الحقيقة حدث العكس، فالحداثة انتشرت في جميع أرجاء العالم، وترافقت بالابتعاد عن الغربنة.
وقد صحح البروفيسور فوكوياما استقراءاته بعد عقد ونصف من الزمن بقوله: quot;التصور الغربي للحداثة كان مفهوم أوربي ضيق يعكس فقط التطور الأوربي. والحقيقة بأن المكونات الثلاثة للحداثة السياسية، هي خلق دولة فاعلة أولا، تستطيع فرض القانون ثانيا، والذي يضمن السيادة والمسئولية ثالثا، وهي أساسيات الحداثة السياسية، التي ألهمت الكثير من الدول الأسيوية لتحقيقها.quot; وفعلا نجحت المجتمعات الأسيوية لفرض حكومات فاعلة لتطور دولها. وقد أثبتت الأزمة الاقتصادية الحالية مدى جدوى هذه الحكومات الفاعلة، بينما تورطت الولايات المتحدة، بإيديولوجية مسئوليها الناكرة لأهمية الحكومة الفاعلة، والتي كررها الرئيس ريغان في مقولته: ليست الحكومة الحل لمشاكلنا بل هي المشكلة بعينها. والمشكلة أن الكثيرين من المسئولين الأمريكيين، وعلى رأسهم غرين سبان، رئيس البنك الفدرالي الأمريكي السابق، أيدوا هذه المقولة، ومن حسن الحظ لم يستسلموا الأسيويون لهذه الفرضية الخاطئة.
ويتوقع البروفيسور مهبوباني بأن تكون أحداث القرن الواحد والعشرين مخالفة للاستقراءات الغربية. فسيترافق رجوع التاريخ بتراجع الغرب، ولن يعني ذلك تراجع جميع أفكاره، بل سيحتضن الشرق الأسيوي مفاهيم اقتصاد السوق الحرة وأهمية القانون، ولكن سيبقى القليل من مواطنيه مؤمنين بأن المجتمعات الغربية هي المجتمعات الأفضل لتنفيذها. كما ستستبدل فرضية كفاءة الغرب في الحكم والإدارة، بالوعي بأن الغرب ليس كوفئ في إدارة اقتصاده، بل ستبقى الفجوة بين أفكاره وممارساته، ومن المحزن بأن معظم الحوارات الغربية حول نهاية التاريخ لم تناقش هذه الفجوة في الممارسة.
ويعتقد البروفيسور مهبوباني بأن الفرضية الرئيسية في فكرة نهاية التاريخ قد تبخرت، والتي تؤكد بأن الغرب سيبقى الشعلة المضيئة للديمقراطية وحقوق الإنسان. فلو تجرأ أحد في عام 1989، وتوقع بأنه خلال خمسة عشرة عاما ستعيد دولة الشعلة المضيئة للحرية في الغرب التعذيب والسجن المؤبد بدون محاكمة، فسيصرخ الجميع بأنه مستحيل. وقد يتفهم القليل من الغربيين مدى الصدمة التي سببتها غواتينامو في الذهن الأسيوي، ويندهش الكثيرون حينما يكرر مفكرو الغرب بأن بلادهم نموذج للحرية وحقوق الإنسان.
وتحدى الكاتب استقراءات البروفيسور فوكوياما بسؤالين: هل معنى ذلك فقد الأمل؟ وهل فعلا سيصبح العالم مكانا محزنا للعيش فيه؟ فرد فوكوياكا بقوله:quot;نهاية التاريخ سيكون زمن حزين جدا. فسيستبدل الصراع للتقدير ورغبة البعض للتضحية بحياتهم لأهداف تجريدية والصراع العالمي للايدولوجيات والشجاعة والأحلام والمثالية، بالحسابات الاقتصادية والقلق البيئي وتغطية طلبات المستهلكين. ففي عصر ما بعد التاريخ، لن يكون هناك فلسفة أو فن، بل ستبقى فقط متاحف التاريخ البشري للرعاية.quot; فرد البروفيسور مهبوباني بالقول: quot;هنا في الشرق الأسيوي، ومع بدء تاريخ القرن الواحد والعشرين، سنرى نتائج عكسية لتوقعات فكوياما الغربية. فرجوع أسيا، سيترافق بنهضة أسيوية مدهشة، وستكتشف الثقافات الأسيوية المتعددة تراثها الضائع من الفن والفلسفة. فليس هناك خلاف بأن الشرق الأسيوي سيحتفل برجوع تاريخه، وسيبقى السؤال: هل سيشاركهم الغرب احتفالاتهم هذه أم سينتظر النهاية لتأتي؟quot;
والسؤال لعزيزي القارئ: متى سيستخدم العرب أعمدة الحكمة الغربية السبعة: ثقافة السلم، البرغماتية الواقعية، الكفاءة والأداء، القانون والتعليم، اقتصاد السوق الحرة، العلوم والتكنولوجيا، لكي يحققوا تنميتهم المرجوة؟ وهل سيبدؤوا باستقراء التاريخ، ليخططوا لكيفية التعامل معه، ليحتفلوا بالمشاركة في بناء حضارة الألفية الثالثة؟
سفير مملكة البحرين في اليابان