من مفكرة سفير عربي في اليابان

عانى العلماء الأوروبيون، في بدايات عصر النهضة الغربية، من خلافات شديدة مع مؤسساتهم الدينية. فقد حورب وسجن في القرن السابع عشر عالم الفلك الايطالي جاليليو، حينما خالف المؤسسة الدينية باكتشافه بأن الأرض ليست مركز الكون، بل أنها تدور حول الشمس. كما كفرت المؤسسات الدينية البريطانية في القرن التاسع عشر، العالم البيولوجي المتدين، شارلز دارون، لاكتشافه علاقة ترابط عجيبة في تطور الكائنات الحية، وبأن العوامل البيئية والحياتية تؤدي لتغيرات في مورثاتها وشكلها وسلوكها. والجدير بالذكر بأن الكائنات الحية مكونة من وحدات صغيرة تسمى بالخلايا، تحتوي في أطرافها على مصانع بيولوجية تقوم بتصنيع مواد كيماوية معقدة، وفي مركزها على مورثات مكونة من أقراص جينات بروتينية مسئولة عن تشغيل مصانع الخلية، وانقسامها وتكاثرها.
وقد تضاربت نظريات دارون مع مصالح الطبقة الحاكمة في القرن التاسع عشر، لكونها خالفت أرائهم التي أصرت على أن العبد الأسود خلق لكي يبقى عبدا يخدم سيده الأبيض، ولا يمكن تطويره بالحرية والتعليم، وبأن الفقير خلق لكي يبقى فقيرا، لكونه مولود بمورثات لا يمكن تغيرها، وبأن المستعمرات خلقت بأرضها وشعوبها لخدمة ملوك أوروبا، الممثلين للخالق جل شأنه، وقد أيدت المؤسسات الدينية في ذلك الوقت هذه الأفكار ودعمتها. والسؤال: هل تؤثر البيئة والظروف الحياتية على الصفات الوراثية والشكلية والسلوكية للكائنات الحية؟ وهل تتم هذه التطورات ببطئ شديد وتحتاج لقرون طويلة لملاحظتها؟ وهل تبرز ظاهرة التطور الطبيعي عظمة الخالق جل شأنه في سر خلقة، لحماية الكائنات الحية من قسوة التغيرات الحياتية والبيئية؟
لقد حاولت جائزة كيوتو اليابانية، في شهر نوفمبر الماضي، وبعد مرور مائتي عام على مولد العالم البريطاني شارلز داروين، أن تجاوب على هذه الأسئلة من خلال أبحاث البروفيسور البريطاني بيتر غرانت، الأستاذ بجامعة برنستون الأمريكية، وخريج جامعة كامبريدج البريطانية. فقد حصل البروفيسور جرانت، وزوجته بارابار، على جائزة كيوتو لعام 2009 في العلوم الأساسية، بعد أن قضيا خمسة وثلاثين عاما على جزر غير مأهولة بالبشر، تسمى بجزر الجالا باجوس، الواقعة في جنوب شرق المحيط الهادي. وقد درسا على هذه الجزيرة، التي زارها داروين في عام 1835 وأكمل فيها أبحثه، علاقة المناخ بالتطورات الطبيعية البيولوجية، باختيارهم طيور البرقش لدراسة علاقة التغيرات المناخية بتطور 13 نوعا من هذه الطيور خلال الثلاثة ملاين سنة الماضية. وقد ركزت أبحاثهم على إجابة الأسئلة الثلاثة التالية: كيف تتشكل الأنواع الجديدة من طيور البرقش؟ وما علاقة منافسة البقاء في تشكل أنواعها المختلفة؟ ولماذا تختلف في صفاتها كشكل المنقار وحجم الجسم؟
لقد كانت أهم نتيجة لدراسة البروفيسور جرانت هو اكتشافه، بأن ظاهرة التطور بالاختيار الطبيعي، متعلقة بالتغيرات المناخية، ويمكن مشاهدتها وقياسها وتفسيرها في فترة زمنية قصيرة، مخالفة بذلك نظرية داروين بأن هذه التغيرات تحتاج لقرون طويلة لملاحظتها. وقد كانت من أهم اكتشافات البروفيسور جرانت، هو علاقة التطورات في شكل منقار وحجم هذه الطيور بالتغيرات المناخية. فلاحظ البروفيسور بأنه في فترات الجفاف، تقل كمية الماء في نباتات الجزيرة، فتجف بدورها، ويصعب على طيور البرقش تفتيتها، فيكبر حجم منقارها، لكي تستطيع التغذية على هذه الحبوب الجافة الخشنة. بينما في فترات زيادة الأمطار، تلين البذور النباتية، لزيادة كمية المياه فيها، مما يؤدي لضمور حجم المنقار. كما اكتشفت زوجة البروفيسور، باربارا، ترافق التغيرات البيئية بتغيرات في مورثات وجينات هذه الطيور أدت لتغيرات في حجم المنقار وقوة عضلاته.
وقد شجعت هذه الأبحاث الفاتيكان مؤخرا لتعين فريق من الباحثين المستقلين، لدراسة نظرية النشوء والارتقاء، كما أنشأت الدول المتقدمة مركزا تحت الأرض في سويسرا لدراسة اللحظات الأولى من بدأ الخليقة، باستخدام جهاز تصادم البروتونات. ويفترض بعض العلماء بأن نشأة الكون بدأت بانفجار بيضة كونية قبل 13.7 مليار سنة، وتطايرت جزئياتها في الفضاء، لتشكل كتل النجوم الملتهبة، بينما تشكلت من كتلها الصغيرة الخامدة الكواكب، ومنها كوكبة الأرض. وبأن هذا الانفجار أدى لتبعثر جزيئات صغيرة جدا، سميت بالبوزون والكواك، والتي اندمجت مع بعضها لتكون البروتونات والالكترونات، والتي تحولت بعدها لذرات المواد الصلبة والسائلة والغازية. كما تشكلت من بعض هذه الذرات الفيروسات، لتمثل مرحلة بين المواد الصلبة والكائنات الحية، ولتتطور مع الوقت لكائنات حية ذو خلية واحدة. وحينما اندمجت بعض هذه الخلايا مع بعضها شكلت quot;جنينquot; نباتي أو حيواني، لتتكاثر وتتميز لأعضائها المختلفة، ونتجت منها كائنات حية بمختلف أنواعها. كما يفترض العلماء بأن النجوم الملتهبة ستنتهي غازاتها الهيدروجينية بعد مليارات من السنين، لتخفت شعلتها، ولتبرد وتتحول لكواكب كبيرة صلبة. فسيختفي ضوءها الشمسي من الوجود، وستختفي معها النباتات التي تعتمد عليها، ولتختفي بعدها الحيوانات التي تحتاج للتغذية، وبذلك تنتهي الحياة في هذا الكون. وطبعا كل هذه فرضيات تحتاج إثباتها للدراسة والبحث، وقد تسهل هذه الأبحاث فهمنا لبدء خلق الإنسان من طين ذرات الكون، وانتهاءه بيوم القيامة. وقد قام الفاتيكان، كما ذكرنا سابقا، بتشكيل لجنة علمية محايدة، من خيرة العلماء، لدراسة هذه النظريات، ومعرفة حقائق سر بدء الكون، وبذلك تجنب الأساليب القديمة في تكفير العلماء حينما اختلفت أبحاثهم مع أراء رجال الدين.
كما حاول العلماء استقراء التطورات المستقبلية التي ستصيب الجنس البشري في الجسم والعقل والإحساس مع التغيرات البيئية والتكنولوجية التي يعيشها بالرجوع لنظرية النشوء والارتقاء. وقد تساءلت صحيفة الأساهي شامبون اليابانية، الصادرة في 24 نوفمبر، في افتتاحيتها عن تطور الجنس البشري مستقبلا، بالقول: quot;خلقت أبحاث داروين في أصل الأنواع، والتي صدرت في 24 نوفمبر 1859، أي قبل حوالي 150 عام، ثورة ليس فقط في العلوم البيولوجية، بل أيضا في أدراك شعوب العالم للعرق البشري. فما سماه داروين، بالتنوع العجيب للحياة، هي نتيجة التطور والتغيرات البيئية، وبتدمير البشر الآن لهذا التنوع البيئي والطبيعي، أصبح من الضروري فهم موقع الإنسان في حلقة التطور هذه مستقبلا.quot;
وقد شاركت اليابان بشكل كبير في تطوير نظرية النشوء والارتقاء، ففي عام 1968 قام العالم الياباني، موتو كيميورا، بطرح نظرية الحياد والتطور النووي، حيث أكتشف بأن مادة quot;الدي إن إيهquot; البروتينية، المكونة لجينات المورثات، لا تبقى في شكل ثابت، بل هي في تغير وتطور مستمر، وبأن 80% من طفرة هذه التغيرات الفجائية في جينات المورثات ليست ضارة ولا نافعة، ولكن تبقى بعضها مهمة للتخلص من الصفات الوراثية السلبية، كما أن القليل منها تلعب دورا إيجابيا في تحسين هذه الصفات وارتقائها. وقد أصبحت هذه الفرضية أحد الأعمدة الداعمة لنظرية دارون في الارتقاء مع الانتقاء الطبيعي. كما أثبتت أبحاث البروفيسور الياباني، ماريكو هاسيجاوا، بأن هذه الطفرات في جينات المورثات تنشط مع التغيرات البيئية. وقد أنهت الصحيفة مقالها بالقول: quot;سبب البشر تغيرات بيئة هائلة خلال العشرة الآلاف سنة الماضية، وتبقى حاسة البصر بين الخمس حواس مغمورة بالمعلومات اليوم، بينما تبقى الحواس الأخرى أقل تطورا. فكيف سيتغير شكل الإنسان في الألفيات القادمة، في بيئة غيرتها التلوث التكنولوجي والبيئي والصناعي؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان