من مفكرة سفير عربي في اليابان

بدأ الرئيس الأمريكي باراك أوباما حياته العملية بمثالياته الحالمة. فبعد أن تخرج من جامعة هارفارد بتفوق، عمل كمحامي لحقوق الإنسان وشارك في تنظيم الرعاية الاجتماعية. ونشط في عمله السياسي حالما بالتغير، فأنتخب في عام 1997 عضوا لمجلس النواب بولاية الينوي، وعمل بلجنة الصحة والرعاية الاجتماعية محاولا إدخال تشريعات تطور هذه الخدمات في ولايته. وقد رشح في عام 2004 لانتخابات مجلس النواب الأمريكي، ليفوز بنسبة 70% من الأصوات، وليصطدم بواقع العمل السياسي في واشنطون، ولينتقده زملائه بمحاولاته الحالمة لتغير العالم. كما قرر الترشيح في عام 2007 للانتخابات الرئاسية الأمريكية حالما بتغير واقع الحكم في واشنطن، ونزع الديمقراطية من قبضة لوبيات شركات العولمة. فجمع ببراعة فائقة المال لحملته الانتخابية باستخدام تكنولوجية الإنترنت، وأدار حملة انتخابية مميزة أدت لفوزه بالرئاسة. فنصب رئيسا للولايات المتحدة في شهر يناير من عام 2009، ليبدأ مسيرته العملية في الصراع مع طوفان تقاليد السياسية في واشنطن بين رأسماليتها الفائقة وديمقراطيتها الشاحبة. والسؤال لعزيزي القارئ: ما هو طبيعة هذا الصراع بين الديمقراطية الأمريكية والرأسمالية الفائقة للشركات العولمة؟ وهل هناك حل واقعي لهذا الصراع؟ وهل على العرب الاستفادة من هذه التجربة للوقاية من سلبيات رأسمالية العولمة الفائقة وتبعاتها الخطيرة؟
لقد حاول البروفيسور روبرت ريش، أستاذ العلوم الاقتصادية بجامعة هارفارد ووزير العمل بحكومة الرئيس كلينتون السابقة، الإجابة على هذه الأسئلة في كتابه الأخير، الرأسمالية الفائقة. فيعلق في مقدمة كتابه بالقول: quot;في شهر مارس من عام 1975، قبل الاقتصادي الأمريكي البروفيسور ملتون فريدمن دعوة لزيارة شيلي ومقابلة الجنرال اوغسط بينوشيه، الذي قام بانقلاب دمويا قبل ثمانية عشر شهرا ضد حكومة السلفادور اللندي المنتخبة ديمقراطيا. وقد طالب فريدمان تبني الجنرال بنوشيه الرأسمالية الفائقة للسوق الحرة، وذلك بإلغاء الدعم الاجتماعي والأنظمة المقيدة، وبخصخصة جميع صناعات وخدمات الدولة، وبفتح الأبواب للاستثمارات الأجنبية، وترك أسعار المنتجات والأجور لمنافسة السوق. وقد نفذ بونشة النصيحة بدكتاتورية صدمة دموية، استمرت لمدة خمسة عشر عاما. وقد توفى الاثنين في نفس الأسبوع من عام 2006.quot;
لقد تصور العالم بأن الولايات المتحدة مثلا حي لتلازم الديمقراطية مع الرأسمالية، ولكن منذ أن زار فريدمان الجنرال بنوشه انتصرت الرأسمالية ولكن ضعفت الديمقراطية. فمنذ السبعينيات تصاعد الاقتصاد الأمريكي، فوفر للمستهلك منتجات عجيبة وبوفرة، ونجح في خفض أسعارها، كما أصبحت الشركات أكثر كفاءة في أدائها وربحيتها. وقد تكررت هذه النجاحات في دول أخرى، فقد انتصرت الرأسمالية الأمريكية المنافسة ضد الشيوعية، لتنتشر في جميع بقاع العالم. وقد رافق هذا الانتصار بتباعد في الدخل والثراء بين الأفراد وفقدان الأمن الوظيفي وانتشار التلوث البيئي. ولم تكن تلك هزيمة للرأسمالية والتي تتحدد مسئوليتها بالثراء الاقتصادي، أما التوزيع العادل للثراء والمحافظة على البيئة، فهي من مسئوليات الديمقراطية، والتي هي نظام لتحقيق ما يمكن تنفيذه بمشاركة الأفراد في وضع أنظمة اللعبة لتحقيق الازدهار والسعادة للجميع. وستؤثر هذه الأنظمة على مدى سرعة النمو الاقتصادي، فالأنظمة المتطرفة التي تقسم الثراء بالتساوي، تقتل روح المبادرة الفردية في الادخار والاستثمار والإبداع، بينما تنشط الأنظمة الرأسمالية التنمية الاقتصادية، ومن المفروض أن تساعدنا الديمقراطية لكي نحقق التنمية والعدالة والمساواة معا. ويبدو بأن الديمقراطية تعاني في محاولاتها لتحقيق هذه المسئولية، حيث زاد التباين في الدخل والثراء، وتآكل التصاعد الضريبي وأنخفض مستوى التعليم العام وضعفت الاتحادات العمالية، وزاد التخوف من فقدان الوظيفة، وقل الاعتماد على شبكة الحماية للخدمات الرعاية الاجتماعية في الصحة والتدريب والتقاعد والتعطل. فبينما ضعفت الديمقراطية في خلق العدالة والمساواة، استمرت الرأسمالية في توفير ما نحتاجه من منتجات بكفاءة عالية وأسعار منافسة وربحية كبيرة.
وتبين استطلاعات الرأي الأمريكية بتصاعد إحساس المواطن الأمريكي بعجز السياسيين في معالجة تحديات مجتمعه. فقد وافق 36% من الأمريكيين في عام 1964 على أن رجال السياسة والحكومة لا يكترثون بالمواطن العادي، بينما تصاعدت هذه النسبة في عام 2000 إلى 60%. وأتفق 66% من المواطنين في عام 1964 بأن الحكومة تعمل لخدمة جميع المواطنين، بينما عارض 29% منهم ذلك باعتقادهم بأنها تعمل لمصالحها الخاصة ومصالح الشركات الكبيرة. وانعكست هذه النسبة في عام 2000 ليعتقد ثلثي المواطنين بأن الحكومة والكونجرس يعملون لمصالحهم الشخصية ومصالح لوبيات الشركات الخاصة. ويتساءل الكاتب ما الذي أدى لانتصار الرأسمالية الفائقة وشل الديمقراطية؟ وما الذي يمكن عمله لتقوية الديمقراطية من جديد؟ وهل سبب كل ذلك انتقال القوة في العقود الماضية منا كمواطنين، نهتم بقضايانا الوطنية العامة، وإلينا كمستهلكين ومستثمرين نهتم بمصالحنا الشخصية الخاصة؟
لقد انتصرت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية في معالجة التراجع الاقتصادي للمحافظة على اقتصادها وديمقراطيتها، واستمتعت نسبيا بعدالة توزيع ثراءها وازدهارها، لتبرز طبقة وسطى تمثل عامة الشعب. كما أصبحت نظم إنتاج البضائع وتقديم الخدمات أكثر استقرارا، وتحددت في عدد قليل من الشركات المصنعة العملاقة، والتي تمتعت بسنوات طويلة من الاستقرار وقلة المنافسة، لتستطيع المشاركة في التنمية الاقتصادية لبلادها. وقد احتاجت هذه الشركات للدعم الشعبي والحكومي، فدعمت أنظمة الحكومة بمشاركتها الربحية مع العمال وساعدت على حماية البيئة. ولم تكن خيارات المستهلك والمستثمر كثيرة، كما كانت الإبداعات الجديدة محدودة. ومنذ التسعينات تغير كل ذلك جذريا، فأصبحت الشركات العملاقة أكثر تنافسا وعولمة وإبداعا، لتولد الرأسمالية الفائقة، والتي ترافقت بقوة المستهلك والمستثمر في مسئولياته الخاصة، وبضعفه كمواطن في مسؤولياته العامة. وقد حدث هذا التغير بعد إدخال التكنولوجية الحكومية للحرب الباردة في تطوير المنتجات الصناعية والخدمات، والتي وفرت الفرصة لمنافسين جدد، بانتشار تكنولوجية المواصلات والاتصالات، وبتطويرها للتصنيع والخدمات المالية. وأدى ذلك لتغير نظم الإنتاج التقليدي والمستقر منذ السبعينيات، وإرغام الشركات الدخول في منافسة شديدة لإرضاء المستهلكين بمنتجات جيدة ورخيصة، وتوفير الربحية العالية للمستثمرين، لتزداد قوة المشاركة بين المستهلكين وتزداد قوة بائعي التجزئة، وخير مثل لذلك شركة ول مارت، التي استفادت من قوة مشاركة المساومة من الملايين من مستهلكيها للحصول على أسعار منافسة. وزادت القوة المجتمعة للمستثمرين، لتفرض على مسئولي الشركات للعمل على جني أرباح خيالية.
لقد أدت كل تلك التطورات لتوفر خيارات كثيرة للمستهلكين والمستثمرين، وعلى حساب اختفاء المؤسسات الوطنية التي كانت تتفاوض على التوزيع العادل للثروة وحماية حقوق المواطنة. ومع زيادة منافسة العولمة، وزيادة أهمية المال والإعلام في الحملات الانتخابية، اختفت مواطنة الرؤساء التنفيذيين للشركات، وزادت المنافسة السياسة بين رجال البرلمان، ليزداد اهتمامهم بالتبرعات المالية للشركات الخاصة، وقل الاهتمام بقضايا الموطنين، ولتخلف الرأسمالية الفائقة الرأسمالية الديمقراطية. ويقترح الكاتب لفهم ما حدث، ولنتمكن من إرجاع مسئولية الديمقراطية من جديد، ولكي نمنع انهيار الرأسمالية كما انهارت الشيوعية، علينا محاولة الإجابة على الأسئلة التالية: ما الذي أدى لارتفاع رواتب الرؤساء التنفيذيين لأكثر من مائة ضعف؟ وما سبب زيادة عدد اللوبيات السياسية والمحامين في واشنطون لعشرات الأضعاف؟ ولماذا يطالب السياسيون من الشركات أن تكون أكثر وطنية مع أن دورها الرئيسي توفير السلع للمواطنين وجني الأرباح للمساهمين؟ وما سبب زيادة النقاشات حول الأعمال الخيرية للشركات الخاصة، مع أنها وجدت أصلا للربحية وتوفير المنتجات بأسعار منافسة؟ ولماذا يدعوا البعض لأجور اكبر للعمال، وهم يتنافسون للاستثمار في الهند والصين بأجورها المنخفضة؟ وما سبب صراخ البعض لحماية البقالات الصغيرة، بينما هم يشترون بضائعهم من خلال الانترنت من شركات عملاقة وبأسعار رخيصة؟ ولماذا يصرخ السياسيون ضد أرباح شركات النفط والتبغ والجنس، بينما هم لا يدافعون عن التشريعات التي تقي من ذلك؟ وهل ممكن الاعتماد على المسئوليات الاجتماعية للشركات؟ وهل نحتاج لإلغاء الضرائب عن الشركات وتحويل مسئولية دفعها على المساهمين؟ وهل سنحتاج لمنع الشركات من استخدام أموال المساهمين لأهداف سياسية بدون موافقتهم؟ ولماذا نحتاج للرأسمالية لتحقيق الديمقراطية؟ وهل تحتاج الديمقراطية لموقعها كقوة اقتصادية مستقلة عن السلطة المركزية لتحقق أهدافها؟ وهل الديمقراطية أساسية لتطوير رأسمالية ناجحة؟ ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان