ما أعجب الإنسان حين يُقيّد فكره وهو يحسب أنه حر، وما أجهله حين يغلق نوافذ عقله ويظن أنه يرى نور الحقيقة. لقد سُجنت عقول أجيالٍ بأكملها تحت وطأة منهج صُنع ليكون سياجًا من الوهم، لا يرى من خلفه صاحبه إلا ما يُراد له أن يرى، ولا يسمع إلا صدى ما قيل له، حتى ضاع منه الفرق بين الحق والوهم، وبين التراث الذي يُستلهم، والماضي الذي يُعبَد.

ألم يكن جديرًا بمن وضعوا المناهج الدراسية أن يسألوا أنفسهم: هل القيم ترِكةٌ تُحفظ كما هي، أم أنها كالشجرة لا تثمر إلا إذا سُقيت بماء الحياة المتجددة؟ لكن الإخوان المسلمين، وقد تملّكوا أقلام التأليف، لم يضعوا أمامهم إلا صورة واحدة، جامدة لا تقبل التحوير، ولا تتحمل أن تنعكس في مرآة العصر. جعلوا من القيم سجنًا، ومن التاريخ قيدًا، وألبسوا التراث أثوابًا لم تُفصَّل له، فكان ماضينا حاضِرًا قاسيًا يُفرض على أبنائنا كأنه لعنة أبدية.

لقد عرف الفكر المستنير، منذ أن خط الإنسان على ألواح الطين أول حرف، أن القيم ليست أوثانًا تُعبد، ولا نقوشًا لا يطالها الزمان، وإنما هي نبضٌ يسري في جسد الحياة، يكبر وينمو بتوسع العقل، ويضيء بازدياد المعرفة. لكنهم، وقد ضاقت عقولهم عن استيعاب هذا الفهم، أرادوا أن يختزلوا الإسلام في نصوصٍ لا تُفهم إلا كما أرادوا، ولا تُفسَّر إلا كما ارتأوا، وكأن الله قد استودعهم مفاتيح الفهم وحجبها عن سواهم.

أليس من العار أن يُقدَّم الدين، الذي كان في زمنه ثورة على الجمود، في صورة أكثر جمودًا؟ أن يُحكى التاريخ وكأنه صورة متحجرة، لا يُقرأ بعين الفاحص الناقد، وإنما يُلقَّن كما يُلقَّن الصغار أن النار تحرق، والماء يروي؟ أما آن لمن كبّلوا العقول بسلاسل النصوص، وحرّموا عليها التأويل، أن يدركوا أن الزمن لا ينتظر من لا يتحرك معه؟

لقد كان الأجدر بهم أن يفهموا أن القيم، كمياه النهر، لا تستقيم إلا إذا سارت في مجراه الطبيعي، فلا هي راكدة فتأسن، ولا هي مفرّقة فلا فتجف. لكنهم، وقد شُغفوا بصناعة القوالب، أغلقوا عليها كل سبيل للامتداد عبر العصور، فكانت كالشجرة التي تُمنع عنها الشمس، تموت وهي لا تدري أنها قد ماتت.

كانوا يخشون أن تُقرأ القيم بعيون غير عيونهم، فجعلوا منها نصوصًا لا تُناقش، بل تُقدَّس، وكأنها وحي لا يطاله التأويل.

أرادوا أن يسجنوا العقول في قلاعهم، فلم يُعلّموا الأجيال كيف يفكرون، وإنما كيف يحفظون ويكررون، حتى باتت الأسئلة خطرًا، والبحث زندقة.

حرّفوا التاريخ ليُناسب أهواءهم، فكان الماضي الذي اختاروه لنا ماضيهم، لا ماضينا، وكانت السيرة التي سردوها هي السيرة التي يريدون أن تكون، لا التي كانت بالفعل.

أفسدوا العلاقة بين الدين والوطن، فجعلوا الهوية الوطنية تابعة، لا متبوعة، وكأن الأرض لا تُعطى الولاء إلا بشرط أن تُسبغ عليها شرعية مستوردة.

لقد آن لهذا الليل أن ينجلي، وللقيم أن تعود سيرتها الأولى، كحياة تُعاش لا كنصوصٍ تُحفظ. آن لهذه الأجيال أن تتعلم أن الماضي جذورٌ تُستقى منها الدروس، وأن ما صلح في زمنٍ قد لا يصلح لزمنٍ آخر، لأن الزمان متغير، والفكر متجدد، والعقل الذي يُسجن في قالب قد مات وإن ظن صاحبه أنه حي.

لا قيمة للتراث إن لم يكن جسراً للمستقبل، ولا معنى للقيم إن لم تكن قابلة للتطور والتأويل، ولا بقاء لأمةٍ تجعل الماضي سوطًا تلهب به ظهور أبنائها بدلًا من أن تجعله نورًا يسترشدون به. فليبقَ التراث تراثًا، ولتبقَ القيم قيمًا، لكن ليُترك لنا حق أن نفكر، وأن نقرأ، وأن نُسقطها على عصرنا كما نشاء، لا كما يريد لنا أن نفعل من لا زالوا يعيشون في زمنٍ لم يعد لنا فيه مكان.