من مفكرة سفير عربي في اليابان
تؤكد نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في العالم الإسلامي، بأن شعوبها قد ملت من صراعات الايديولوجيات السياسية، التي فشلت في تحقيق أمنهم واستقرارهم وتنميتهم الاقتصادية والاجتماعية. ولو رجعنا التاريخ نجد بأن الحضارة الإسلامية، لم تنتشر لشرق آسيا، إلا من خلال جهود برغماتية ناجحة، وخاصة من المبدعين والمهنيين والتجار. ويعتقد الكاتب الأمريكي، روبرت كابلين، بأن الإسلام انتشر في شرق آسيا من خلال حركة التجارة البحرية. فقد جاهد التجار المسلمون بين أخطار البحر وأهواله، لينقلوا منتجات واختراعات بلدانهم لدول شرق آسيا، فيتاجروا ببضائعهم، ويعرفوا شعوبها على قيم ثقافتهم وحضاراتهم، ويرجعوا لبلدانهم بمنتجات واختراعات وثقافات متنوعة. وقد أثبت مؤرخو الغرب مدى ترابط التجارة الشرق أوسطية والشرق آسيوية في الألفية الأولى، بعد أن اكتشف رجال الآثار سفينة غارقة في المحيط الهندي، يعود تاريخها لما يزيد عن الألف عام، مليئة بخيرة التحف القيمة من الحضارة الإسلامية والحضارات الشرق آسيوية. وقد يعكس حديث الرسول الأعظم، طلب العلم ولو في الصين، مدى قدم هذا الترابط، وأحاديثه عن العمل الحر، على مدى احترام الإسلام للتجارة، بل اعتبرها من خيرة الأعمال البشرية. والسؤال لعزيزي القارئ: هل حان الوقت للتخلص من صراعات الأيديوجيات السياسية، والتفرغ للعمل ببرغماتية واقعية، لربط العالم الإسلامي بسوق التجارة العالمية؟ أليست التجارة آلية لإلغاء الحدود وتبادل الثقافات والحضارات، لتتناغم المجتمعات البشرية وتزدهر؟ أليست السبب في تشجيع التعليم والإبداع، وتحويل الاختراعات لمنتجات وخدمات منافسة؟ ألم تؤدي لتطوير وتوظيف العمالة المبدعة، وتوفير فرص الاستثمار في الاختراعات التكنولوجية؟ ألن تطور التجارة، الصناعة والتكنولوجية المستقبلية، وتخلق طبقة مهنية وتجارية مؤهلة لتطوير الاقتصاد، لضمان أمن المجتمع واستقراره وازدهاره؟ وهل ستساعد دول الغرب هذا الجزء من العالم في تطوير تجارته العالمية كما ساعدت دول شرق آسيا من اليابان وكوريا وسنغافورة والفيتنام وحتى الصين؟
لقد بدأ العالم الإسلامي التوجه لسوق التجارة العالمية، فنشطت بلدانه لتحرير اقتصادها من الاعتماد فقط على مواردها الطبيعية، فطورت أنظمة تسهل التجارة والاستثمار مع دول العالم. كما اهتمت الدول النفطية فيها بتهيئة شعوبها لمرحلة العولمة القادمة، فطورت دساتيرها وحققت إصلاحات سياسية واقتصادية جادة، لتحرر اقتصادها من تحديات اقتصاد النفط واختلاطاته. وقد تكون مملكة البحرين بصغر حجمها، وعرق تاريخها، وتقدم ثقافة شعبها، وتطور بنيتها التحتية، وقلة نفطها، خير مثل لهذه التغيرات، وخاصة بعد أن اتفق شعبها على ميثاق وطني في عام 2001، انبثق منه دستور حول البحرين لمملكة دستورية، وبعد أن دشن جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، الرؤية الاقتصادية 2030 للمملكة، في عام 2008، والتي تهدف: quot;لانتقال مملكة البحرين من اقتصاد قائم على ثروة النفط، إلى اقتصاد منتج قادر على المنافسة عالميا، ترسم الحكومة معالمه، ويتولى القطاع الخاص الرائد عجلة تنميته، بشكل يوسع الطبقة الوسطى، لينعموا المواطنين بمستويات معيشية عالية، من جراء زيادة معدلات الإنتاجية، والوظائف ذات الأجور العالية. وستعتمد هذه الرؤية على مبادئ الاستدامة، والتنافسية، والعدالة، لكي تهيأ للفرد السبل التي تمكنه تجسيد قدراته الكاملة، ليعيش حياة كريمة وآمنة، كما تطمح لزيادة الناتج المحلي الإجمالي للمواطن البحريني للضعف مع إطلالة عام 2030.quot;
لقد ناقش البروفيسور الأمريكي، والي نسر، الأستاذ بجامعة تفت، التطورات الجديدة في منطقة الشرق الأوسط، في كتابه، قوى الثورة، صعود طبقة وسطى إسلامية في الشرق الأوسط، وما الذي ستعنيه للعالم. فيعلق الكاتب بقوله: quot; أدت بيئة التطرف والعنف والغضب ضد الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط لصعوبة التفاؤل بمستقبل أفضل. ومهما تكون هذه الصعوبة يجب إلا نخفق في ملاحظة تيار قد يشكل مستقبل هذه المنطقة، فقد نضر أنفسنا لو فكرنا بمستقبلنا الأمريكي مع العالم الإسلامي من خلال منظار صراعات اليوم، فهناك قوى أخرى تحتاج انتباهنا ... ومع أن غزو العراق قوى الحكم الإيراني، وزاد تأثيره في المنطقة، ولكن النظرة الضيقة لأبعاد هذا التأثير، سيحولها لقوة حتمية ومشئومة. فالشرق الأوسط ليس فقط منطقة للتطرف والعنف، بل أيضا موقع لاقتصاديات مكافحة ومزدهرة، منطقة تتصاعد فيها قوة طبقات جديدة، ومثقفي الإعمال الحرة، لتغير الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية. وتؤكد ذكرياتنا عن القوى الصاعدة، الصين والهند والبرازيل، بأن الصعود في عالم العولمة الجديد لا يعتمد على القوة العسكرية، بل يحتاج لنجوم اقتصادية تقود التنمية في الدول التي من حولها. وليست إيران مثلا ساطعا لهذه النجوم حتى الآن، فاقتصادها المعزول ترتيبه 151 بين 160 دولة في العالم، لذلك ينقصها القوة الاقتصادية لتكون فاعلة على المستوى العالمي. فلم تعد قوتها العسكرية كافية للتأثير في عالم العولمة، ولو أن قوتها بارزة في المناطق التي تتمتع بتجارة نشيطة. فمع أنها حليفة لسوريا ولبنان حزب الله، ولكن تأثيراتها الحقيقية واضحة قرب حدودها، حيث أن تجارتها قوية في قوس يمتد من آسيا الوسطى وشرق أفغانستان وحتى الخليج وجنوب العراق، والتي تقوم فيها بمعظم تجارتها الإقليمية، من بيع منتجاتها الزراعية والغاز الطبيعي وبضائعها الصناعية.quot;
ويعتقد الكاتب بأن إيران لن تكون قوة إقليمية، إلا حينما تتحول لقوة اقتصادية، والذي لن يتحقق إلا بتناغم عملها مع جيرانها، ومع باقي دول العالم، وخاصة الولايات المتحدة، وعليها الاستفادة من تجربة دبي التي تحولت لأرض الأحلام في العالم الإسلامي، والتي يحب المسلمون أن يعيشوا فيها، بعد بلادهم، لجمعها بين الحرية الاجتماعية واحترام اللباقة الإسلامية. وعرض الكاتب حديث لتاجر مسلم زار دبي مؤخرا يقول فيه: quot;لو أردت أن تكون مسلما جيدا، أدعو الله أن تعيش في دبي، فالمساجد فاخرة، نظيفة جدا، ومكيفة، والصلاة هنا متعة، فتستطيع أن تعيش في فندق خمس نجوم وتصلي في مسجد خمس نجوم. فأحب هذا المكان لأنني أستطيع أن أتبضع، وأكل، وأتمتع بالفخامة، وأبقى مسلما جيدا أيضا.quot; فبقدر ما دبي مهمة كنقطة تقاطع للعالم، فهي مثل لشراكة رأسمالية بين القطاع العام والخاص، والذي يميزها ليس المنهجية الاستهلاكية، أو طفرة البناء، بل فكرة أنها دولة صديقة للرأسمالية، بينما تجمدت بعض دول المنطقة في حماية بلدانها من الرأسمالية، وحولت قطاعاتها الاقتصادية للقطاع العام، وكبلت حرية تجارتها بقوانين بيروقراطية بالية. ولم تنطلق الهند والصين وأوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية، إلا حينما تعاونت حكوماتها مع القطاع الخاص، وحررت أسواقها من قيودها البيروقراطية، وسمحت لتطوراتها التكنولوجية والتجارية.
وقد بدأت دول المنطقة الاستفادة من تجربة دبي، بالمشاركة في اقتصاد العولمة الجديد، وستفشل جميع المحاولات التي تشكك باستدامة هذه التجربة، وبكونها مثلا للتنمية في العالم الإسلامي. فقد بدأ المسلمون محاولاتهم في المشاركة في الاقتصاد العالمي، وسيصبحون رأسماليين مجدين وطموحين، يهدفون للإبداع والازدهار. وتؤكد تجربة دبي بأن التحمس للإسلام لا يعني معارضة التنمية التجارية والاقتصادية، كما يجب ألا يسرق إنجازاتها انتقال أزمة الوول ستريت إليها، بل يجب أن يؤكد ذلك بأنها أصبحت جزءا حقيقيا من اقتصاد العولمة، بعد أن احتضنت الرأسمالية، وتأثرت بالعولمة.
لقد احتضنت دبي رأسمال منطقة الشرق الأوسط، وزاد استثمار الرأسمال الإيراني فيها، والذي يعتقد الكاتب بأنه سيؤدي لتحرر التجار الإيرانيين من لهجة نظام حكمهم ضد الرأسمالية، بل قد يدفعوا بحكومتهم للمشاركة في هذه الرأسمالية، وربط الاقتصاد الإيراني بها، والذي سيتفاعل مع مصالح التجار الإيرانيين، ويؤدي تأثير هؤلاء التجار على قرارات حكومتهم. فقد آمن الشعب الإيراني، والشعب العراقي أيضا، بعد الانتخابات الأخيرة، بان تنمية بلادهم الاجتماعية والاقتصادية، وأمنهم واستقرارهم، تعتمد على رأسمالية مسئولة، تطور التجارة وتحمي الاستثمارات التجارية، وتحسن التصنيع والخدمات، لتوفر الأعمال للمواطنين، فتطور اقتصادهم وتضمن رعايتهم الصحية والتعليمية، وتؤمن تقاعدهم وتعطلهم. ويعتقد الكاتب بأن المنطقة قد يئست من ثوريات الإيديولوجية السياسية، والتي لعبت دورا في تخلف مجتمعاتهم، وأدت بانشغالها في محاربة التطرف والعنف والإرهاب. ويوجد في دبي، ما يقارب، النصف مليون تاجر وسائح إيراني، وأثنى عشر ألف طالب جامعي، وتسعة آلاف شركة مسجلة بغرفة التجارة والصناعة، بالإضافة للكثير من الشركات الغير مسجلة. وقد بدأت تبرز إبداعات الشباب الإيراني في دبي، وخير مثل لذلك، السيد مهدي امجد، الذي بنا نفسه من خلال العمل الحر، ليحول شركة quot;المساهquot; التكنولوجية، لشركة مبيعاتها السنوية يقارب 450 مليون دولار، ولتصبح شركته، quot;اومنياتquot; العقارية، مؤسسة تقدر مشاريعها بثلاثة مليارات من الدولارات.
وعرض الكاتب تاريخ فشل العلمانية في منطقة الشرق الأوسط، بعد تجربة كمال أتاتورك في تركيا، ورضا شاه بهلوي في إيران، والتي تبعتها تجربة الانقلابات القومية والاشتراكية العربية، والتي انتهت بهزيمة حرب حزيران، والذي يعتقد الكاتب سببها القرارات الفوقية والاعتماد على القطاع الحكومي، وسوء الإدارة والفساد، وفشل الطبقة البرجوازية في تنمية طبقة متوسطة من التجار والمهنيين، وبقاعدة اقتصادية مستقلة عن الدولة، التي هي أساسية لتطور الرأسمالية والديمقراطية. ويعتقد الكاتب، بأن إصرار البعض على أهمية العلمانية في الحداثة، أدت لمجابهة خطيرة مع قوى الإسلام السياسي، فقد تناسى العلمانيون بأن الإسلام تحول خلال مائة سنة من ظهوره لدين عالمي، انتشر في إمبراطورية امتدت من جبال أطلس وحتى سهول الأندس، وبعد 250 سنة أخرى امتدت الحضارة الإسلامية من اسبانيا وشمال أفريقيا حتى الهند وجنوب شرق آسيا، ليزدهر الفن والهندسة المعمارية والرياضيات والعلوم والفلسفة والآداب. وقد استمرت الحضارة الإسلامية حتى عام 1876، حيث حسنت الإمبراطورية العثمانية فن الإدارة واللبرالية في المنطقة، كما طورت التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية. ومع الأسف، أدى تحالف تركيا مع ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، لتقسيم العالم العربي بعد الهزيمة، لتستمر مرحلة الاستعمار وحتى السبعينيات من القرن الماضي، ولتنام الحضارة الإسلامية قرنين من الزمن، كما نام التنين الصيني وأستيقظ في السبعينيات، ليصبح الاقتصاد العالمي الأول في عام 2015، ويعتقد الكاتب بأن النهضة الإسلامية الحديثة، ستبدأ نشاط حيويتها من تركيا، ولتنتشر في العالم الإسلامي من جديد.
وقد علق مراد مركان، النائب التركي بحزب العدالة، في مؤتمر الحركة العالمية للديمقراطية، في عام 2006، على نقاش تناغم الشريعة مع الديمقراطية، بقوله: quot;هنا في تركيا، نحن محظوظون لعدم وجود نقاش كهذا، فقد تجاوزنا الحوار حول ما سنعمله بالشريعة والدولة الإسلامية، فلدينا ديمقراطية ونحن في الحكومة، والناخبون يقيموننا بما ننجزه اقتصاديا.quot; ليؤكد هذا النائب بأن الشعب التركي تجاوز الأيديولوجيات السياسية، ويقيم حركاته السياسية بما تحققه عمليا للمواطن من حاجياته اليومية، وما تخلقه من فرص اقتصادية، ودورها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للوطن، لا بالتزمت لصراعات إيديولوجية سياسية، ولا بنزاعات طائفية، ولا باستغلال الدين في السياسة. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان
التعليقات