من مفكرة سفير عربي في اليابان


هاجمت مجموعة من معارضي الرئيس الأمريكي باراك أوباما، في الأشهر الماضية، تصريحاته حول تجنبه التدخل في الخلافات الداخلية الإيرانية، للوقاية من تحولها لمجابهة جديدة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والولايات المتحدة الأمريكية. كما انتقدوه، وبشدة، على رغبته الجامحة للحوار معها، بل اتهموه بسوء الحكمة لتصوره بأن هناك حل بالحوار للتهديد النووي الإيراني يرضي الطرفيين. وأكدوا بأن إصراره على ذلك سيعرض امن أمريكا وحلفائها الأوربيين وإسرائيل والعالم العربي للخطر، بل أصروا على أن من واجب الولايات المتحدة القيام بحرب ضد إيران والتخلص من نظامه. والغريب بأن معظم الأبحاث الدبلوماسية والدفاعية الغربية تؤكد بأن أي حل عسكري للمعضلة النووية الإيرانية سيكون حل مدمر، يعرض منطقة الشرق الأوسط لدمار مرعب، وسيشل الاقتصاد العالمي، وسيعرض جنود الغرب وشعوب المنطقة لخراب مخيف، وسيشعل نار ثورات متسلسلة في المنطقة لتبلع أطفالها. كما سينشط الهجمات الإرهابية، وسيجشع سباق نووي مدمر، وسيقوي المتطرفين على حساب المعتدلين. والسؤال لعزيزي القارئ: هل يريد معارضو الرئيس أوباما حربا جديدة للتخلص من أسلحة الدمار الشامل الإيرانية كالحرب التي شنت على العراق؟ وما النظام الشرق أوسطي القادم الذي يخططون للتخلص منه بعد النظام الإيراني؟ ألم تثبت تجارب القرن الماضي فشل التدخل الغربي العسكري في شؤون العالم الثالث؟ أليس من الأفضل إخلاء منطقة الشرق الأوسط من السلاح النووي بغلق المحطة النووية الإسرائيلية المنتهية صلاحيتها في ديمونه والتي يتسرب منها الأشعة النووية؟ وما هي مصلحة معارضي أوباما من تغير الأنظمة في quot;العالم الثالثquot;؟ وما علاقة كل ذلك بالأزمة الاقتصادية العالمية الجديدة؟
تناقش الصحفية الأمريكية الأصل والكندية الجنسية نعومي كلين، هذه التساؤلات في كتابها الأخير، مذهب الصدمة والرأسمالية الكارثية. فتذكرنا الكاتبة بالنظريات المشتركة بين أستاذ العلوم الاقتصادية بجامعة شيكاغو، البروفيسور ملتون فريدمان، والطبيب النفسي أيون كميرون، رئيس الجمعية الأمريكية للأمراض النفسية. فقد تصور البروفيسور كاميرون بأن خير وسيلة للعلاجات النفسية، هو الدخول لذهن مرضاه، ومحو ما في عقولهم من خبرات ماضية، وذلك quot;بالحرب على العقل بالصدمة والرهبة.quot; فقد أعتقد الدكتور كميرون بأن علاج مرضاه بالصدمة الكهربائية والمخدرات والعزل في غرفة مظلمة صغيرة لمدة أشهر طويلة، سيشلهم عقليا، وسيمسح كل ما في ذاكرتهم من أفكار وخبرات وذكريات، محاولا بذلك إرجاعهم لمرحلة الطفولة، ليتحولوا كرضع يمصون أصابعهم ويرضعون، وليفقدوا السيطرة على التبول، وينسوا كيفية المشي أو الكلام، ليجبرهم بعدها لسماع أشرطة نصائحه ليلا ونهارا ولأشهر طويلة، ليشكل شخصيتهم من جديد. ويبرر كاميرون نظريته بعاملين مهمين لمعرفة الوقت والمكان، وهما إحساسنا بما حولنا وذاكرتنا، فالصدمة الكهربائية تمحي الذاكرة، وصناديق العزل تقضي على الإحساسات الخارجية، ليفقد المرضى إحساسهم بالوقت والمكان. وقدا عارض الأطباء الأمريكيون أبحاث كاميرون، التي دعمتها المخابرات ماليا، وأثبتوا علميا بأنها دمرت حياة المرضى بغسل عقولهم ومحو شخصيتهم، بل اعتبروا علاجاته نوع من التعذيب المخزي، ولم تحقق ما كان يصبو لتحقيقه.
وبينما كان الدكتور ايون كامرون يحلم بغسل عقول البشر، كان هناك باحث آخر بجامعة شيكاغو يسمى ببروفيسور ملتون فريدمان، يحلم بغسل عقول المجتمعات من عيوب أنظمة الدولة والقيود التجارية والمصالح المحصنة، لإرجاعها للرأسمالية النقية. فحاول من خلال أبحاثه الرياضية النظرية أن يثبت بأنه حينما يكون اقتصاد البلاد منحرفا، يحتاج لصدمة سياسية واقتصادية مؤلمة، تحرر السوق من قيود الأنظمة، وتبيع أملاك الدولة للشركات الخاصة، وتسمح للشركات الأجنبية لشراء ما تريده من ممتلكات، وتحول الخدمات الرعاية من صحة وتعليم والأمن وتأمين تقاعد وتعطل للقطاع الخاص. وتحتاج أيضا لقوانين تسمح للشركات الخاصة بتسريح العمال، وتلغي أنظمة الحد الأدنى للأجور، وتتجنب فرض الضرائب قدر الإمكان. وقد أنتظر فريدمان عشرين عاما لتنفيذ نظرياته على الواقع، والتي اعتبرت الاقتصاد علم مطلق، وبأن الرأسمالية النقية تخلق سوق حرة، وتحتاج لترك يدها الخفية لكي تنظم انحرافاتها، بدون تدخل الدولة بقوانينها المعطلة أو quot;بقطاعها العام الفاسدquot;. وبعد أن توفى فريدمان في عام 2006، لخص احد أتباعه نظريته بالقول: quot;رأسمالية فريدمان، بأسعارها الحرة، وخيارات المستهلك، والحرية الاقتصادية، مسئولة عن ازدهار العولمة التي نتمتع به اليوم.quot; فهل فعلا حققت نظريات فريدمان الازدهار؟ وكيف تزاوجت نظريات البروفيسور فريدمان والبروفيسور كيميرون؟
لقد ربى البروفيسور ملتون فريدمان، خلال العقود السبعة الماضية، جيوش من أتباعه في جميع أنحاء العالم، وبتوجيهات ومساعدة الشركات الخاصة العملاقة، كما دعمهم لاستلام مراكز قيادية في بلادهم وفي البنك الدولي ومؤسسة النقد الدولية والأمم المتحدة. وقد عاش فريدمان طفولة معقدة، فقد كان والده مهاجر مجري، نقل مصنع للثياب من بلاده لولاية نيوجرسي الأمريكية في نهايات القرن التاسع عشر. وكانت تلك الفترة فترة حرجة في التاريخ الأمريكي، حيث كان العمال المهاجرين نشيطين في الاتحادات العمالية، ويطالبون بأنظمة للسلامة في المصانع وعطل نهاية الأسبوع، وقد أدى صدور هذه الأنظمة لإفلاس والده وإغلاق المصنع. فعاش فريمان في طفولته صراعات المالكين مع العمال، ليدرس في شبابه الاقتصاد، وليستمر في المطالبة لتحرير السوق من الأنظمة المقيدة، ولحرية التجارة، للوصول لرأسمالية نقية تحقق أحلامه بحرية العالم وازدهاره.
لقد عانى الشعب الأمريكي من مأساة أزمة عام 1929، التي أدت لاختفاء مدخراته بين ليلة وضحاها، وانتشار الفقر، وارتفاع نسب الانتحار، وعاش الكثيرون في الملاجئ، واعتمدوا على مراكز الشوربة لتغذيتهم. وقد أدى ذلك لانتشار نظريات الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينس، التي توقعت بنهاية نظرية السوق المحررة التي تنظمها يدها الخفية. وقد انتشرت النازية في ألمانيا بعد التراجع الاقتصادي في العشرينيات، والتي تفاقمت بفرض تعويضات ما بعد الحرب العالمية الأولى، وعمقتها أزمة انهيار الاقتصاد العالمي في عام 1929. وقد حذر البروفيسور كينس من خطورة حرية السوق في التعامل مع الفقر الألماني بمقولته المشهورة: quot; أتوقع ألا يعرج الثأر.quot; وبعد أن بنت أوروبا دولها بعد الحرب العالمية الثانية، دعمت اقتصاديات سوق توفر الكرامة لمواطنيها، لتقي شعوبها من الأيدولوجيات الفاشية والشيوعية. فتوجت دولها لبناء رأسمالية ديمقراطية، وفرت التأمينات الاجتماعية في الولايات المتحدة، والرعاية الصحية الحكومية في كندا، والرعاية الاجتماعية في بريطانيا، وأنظمة حماية العمال في فرنسا وألمانيا.
كما برزت في هذه الفترة حركة التنمية والقومية في دول العالم الثالث، لتدعم الصناعة المحلية ولتنادي بتأميم شركات النفط والمعادن وتوفير الأراضي الزراعية للفلاحين، لكي تحقق التنمية الاجتماعية والاقتصادية لبلادها. وتمكنت هذه الحركة، في الخمسينيات، تحقيق نجاحات بارزة في أمريكا الجنوبية، وخاصة في شيلي والأرجنتين وأرغواي والبرازيل، بفضل قيادة الاقتصادي راول بريبش، الذي درب فريق من الاقتصاديين في النظرية التنموية، وأرسلهم كمستشاريين في مختلف دول العالم الثالث. وقد طبقت نظرياته بنجاح في بعض دول أمريكا اللاتينية، فمثلا قام الرئيس جوان بيرون في الأرجنتين، بصرف أموال طائلة لتطوير البنية التحتية ودعم الصناعة الوطنية الخاصة بصناعة السيارات والأجهزة المنزلية، ورفع نسب الضرائب على المنتجات الأجنبية. كما تطورت اتحادات العمال لتطالب بأجور مرتفعة للطبقة الوسطى، لتقل الفجوة بين الطبقة العاملة والثرية. ففي الخمسينيات ارتفعت نسبة الطبقة الوسطى في الأرجنتين لأعلى النسب في العالم، وزادت نسبة التعليم في الارغواي إلي 95%، كما وفرت الرعاية الصحية المجانية لجميع مواطنيها. فقد نجح التنمويون في تنفيذ إستراتيجياتهم، لتصبح دولهم نموذج لدول العالم الثالث، وذلك بتنفيذ جاد لسياسات عملية فاعلة وذكية. وقد أدت هذه النجاحات الاقتصادية في العالم الثالث لسوداوية مظلمة بين الشركات الغربية الخاصة العملاقة، وفي مقر علماء اقتصادهم بقسم الاقتصاد بجامعة شيكاغو، وبرئاسة البروفيسور ملتون فريدمان. فتحركت هذه الشركات العملاقة لمحاربة التوجه التنموي الجديد في العالم، وحاولت الاستفادة من نظريات فريدمان وكميرون لضمان مصالحها، فعملت بجدية مستميتة لتغير الرأسمالية الديمقراطية للولايات المتحدة لرأسمالية متوحشة فائقة. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان