من مفكرة سفير عربي في اليابان

تتميز اللغة الدبلوماسية، عادة، باصطلاحات مهذبة جميلة، واستغربت من استخدام تعبير الجزرة والعصا في خطاباتها السياسية وكتاباتها الأكاديمية. فقد أصبحت لغة العصا مرفوضة بعد ما حققته قوانين حقوق الإنسان من مساواة بين البشر في القرن العشرين، كما أن استعارة quot;جزرة الحمارquot; تعبير لا يعكس عن الاحترام في الأدب الغربي، مع أن الحمار استعارة للصبر والحكمة في الأدب العربي. وقد نجح أديبنا الكبير، توفيق الحكيم، بدبلوماسيته الرائعة، أن يستخدم لسان الحمار ليعبر عن تحديات مجتمعه في ثلاثة من مؤلفاته: مقالات كتبها في الثلاثينيات بعنوان، حماري قال لي، ورواية كتبها في الأربعينات، حمار الحكيم، ومسرحية ألفها في منتصف السبعينات، بأربعة مشاهد، الحمار يفكر، والحمار يؤلف، وسوق الحمير، وحصحص الحبوب. فقد كان الأستاذ توفيق الحكيم دبلوماسيا بالفطرة، واستخدم لسان حماره بشفافية عبقرية في أدبه الإنتقادي. والسؤال لعزيزي القارئ: من أين أتت عبارة الجزرة والعصا؟ وما هي فلسفتها؟ وهل فعلا مفيدة في بيئة البيت والمدرسة والعمل والتجارة؟ وهل كانت منتجة في الدبلوماسية؟ ألم تنجح التجربة اليابانية بتجنبها بعد الحرب العالمية الثانية؟
يرجع اصطلاح الجزرة والعصا لمفاهيم الإكراميات، حيث يكافئ المرء على أداءه في الوصول لهدف ما. ويرتبط هذا الاصطلاح، في الأدب الغربي، بقصة ولد راكب عربة يجرها حمار مشاكس، وحامل عصا طويلة مربوطة بحبل معلق عليها جزرة قريبة من فم الحمار. فكلما تحرك الحمار للأمام محاولا التهام الجزرة، تبقى الجزرة بعيدة عن فمه، فالغاية من هذه الجزرة تحريك الحمار بدون أن يستطيع الحصول عليها. ولو حاولنا أن نترجم هذه الاستعارة للغة دبلوماسية، لنجد بأنها تسيء للطرف الثاني باتهامه بأنه مشاكس، لأنه مختلف معنا في الرأي بسبب أن مصالحه تختلف عن مصالحنا. كما أن الجزرة لا يمكن أكلها فهي معلقة فقط لأغراء الطرف الآخر، بدون أن تحقق له مصالحه. وتستخدم الدبلوماسية الغربية هذا المصطلح عادة، لتعبر عن سياسة خارجية تكافئ فيها الدول النامية بالجزرة أو تعاقبهم بالعصا حسب سلوكهم المستقبلي. وترجع أصولها للمفاهيم القرون الوسطى الأوربية لفلسفة الثواب والعقاب للنفس البشرية الآثمة.
ويرتبط اصطلاح الجزرة والعصا بنظريات علم النفس في القرن التاسع عشر، التي تعتقد بأن الجشع والخوف يحفزان البشر على زيادة الإنتاج. وقد استخدم الغرب هذه النظرية في مستعمراته وتجارته، وتستخدمه اليوم إسرائيل في تعاملها مع الفلسطينيين، والذي انتقدها الصحفي الإسرائيلي تورن سيجي بقوله: quot;تضرب إسرائيل الفلسطينيين لكي تعطيهم درسا، وهي النظرية التي لازمت المؤسسة الصهيونية منذ ولادتها، والتي تؤمن بأن الإسرائيليين مثل للتطور والتنوير، ومتقدمين بالمنطق والأخلاقيات، بينما العرب فهم بدائيون رعاع، وأطفال جهلة، يجب تعليمهم وتدريسهم الحكمة بالعصا والجزرة، كما يعامل الحمار.quot; ومع الأسف تستخدم هذه النظرية حتى اليوم في البيت والمدرسة والعمل والتجارة، فهل فعلا يلهم البشر حافز جشع المكافأة ويؤدبهم خوف العقاب، أم هناك واعز نفسي ذاتي للخير والإبداع؟
يناقش دانيل بنك في كتابه الجديد، quot;درايف،quot; نظرية تحفيز البشر بالمكافئات، ويبدأ حواره بتجربة لأستاذ العلوم النفسية في جامعة ويسكنسون الأمريكية، هاري هارلو في عام 1949، حيث اختار ثمانية قردة، ووضع كل واحد منهم في قفص، مع مفصلة يحتاج فتحها لثلاث خطوات، سحب المسمار ورفع الكلاب وفتح المفصلة. وقد بدأت القردة اللعب بالمفصلة واستطاعت تدريجيا فتحها، ومع نهاية الأسبوع الثاني نجحت ثلثي محاولاتهم في فتح المفصلة، وخلال مدة لا تزيد عن الستين ثانية. فما الذي شجع القردة على حل هذا اللغز؟ وهل كان هناك حافز ذاتي دخلي؟ وقد طور البروفيسور هذه التجربة، بتشجيع القردة بحافز خارجي، بحصولهم على الزبيب في كل محاولة ناجحة لفتح المفصلة. فهل فعلا تحسن أداء القردة بهذا الحافز الخارجي؟ لقد اندهش البروفيسور حينما وجد بأن حافز الزبيب الخارجي لم يحسن أداء القردة بل زادت المدة في فتح المفصلة وكثرت الأخطاء، وقد فسر ذلك بقوله: quot;استمتع القردة في حل اللغز كلعبة بحافز المتعة الذاتي الداخلي، وحينما قدم لهم حافز الزبيب الخارجي، تحولت متعة اللعبة لعمل، فتشوش حافز المتعة الداخلي، وأضطرب تركيزهم، مما أدى لضعف أداءهم. ويبقى السؤال المحير: ما الذي يحفز البشر على الإبداع؟ هل هو جشع الربحية والثواب أو الخوف من العقاب، أم متعة عمل الخير والإبداع؟quot;
ومع الأسف لم يكمل البروفيسور هالو أبحاثه في هذا المجال، ليمر عقدين من الزمن قبل أن يتابعها عالم آخر. ففي صيف عام 1969 قام باحث بجامعة كارنيجي ملون الأمريكية يسمى، بديسي، باستخدام سبعة قطع مكعبات بلاستيكية، وطلب من فريقين من طلابه، بتشكيل مجسمات مختلفة من هذه المكعبات، خلال ثلاث جلسات، فترة كل منها ساعة واحدة وتفصلها عشر دقائق من الراحة. فقام الفريق الأول بهذه التجربة بدون توقع حافز مالي، بينما أخبر الفريق الثاني في اليوم الثاني بأنه سيدفع لهم حافزا ماليا لكل مجسم يصممونه، وفي اليوم الثالث توقف الحافز المالي بعذر قلة الميزانية. وقد راقب الباحثون من خلال لوح زجاجي سري سلوك الطلبة وتصاميمهم، ولم تختلف رغبة الفريقين وإبداعاتهم وسرعتهم في اليوم الأول. وحافظ الفريق الأول على نفس المستوى من الأداء والرغبة في الجلسات الثلاث بدون مقابل، بينما عانى الفريق الثاني في اليوم الثاني بعد معرفته بالحافز المالي من الارتباك والقلق، فبطئ أداءه وقل إبداعاه، وأصبح يومه الثالث يوما مملا بعد أن توقف الحافز المالي فزاد بطئه وساء إبداعاه. فلماذا ضعف الأداء وقل الإبداع مع الحافز المالي؟
فسر الباحث ديسي سلوك الطلبة بقوله: quot;حينما تستخدم النقود كحافز خارجي لكفاءة الأداء، يكون تأثيرها قصيرا ككافئين القهوة، كما أنه يحبط الواعز الذاتي الداخلي الطويل الأمد للخير والإبداع. فلدى البشر ميول وراثية للعمل الخير والبحث عن الإبداعات والتحديات الجديدة لزيادة إمكانياتهم في البحث والتعلم، وتختلف هذه الغريزة عن غريزة الحوافز الخارجية من جشع وخوف.quot; وقد رفضت المؤسسات الأكاديمية والشركات هذه الأفكار في ذلك الوقت، واعتبرتها أبحاث خاطئة، فطرد ديسي من الجامعة وحورب في رزقه. واستمرت الجامعات والشركات الغربية تؤكد على أهمية الحوافز الخارجية القصيرة الأمد، ولم تتغير هذه الأفكار إلا في القرن الواحد والعشرين، حينما بدأت تحقق الشركات التطوعية نجاحات باهرة، وبعد أن عانى العالم من أزمة المؤسسات المالية لعام 2008. وقد ناقش الكاتب نظرية الحوافز الخارجية من خلال تجربتي موسعتي الأنكرتا الخاصة والوكيبيديا التطوعية بقوله: quot;تصور بأنك في عام 1995 وتسأل عالم اقتصاد عن فرصة نجاح قرص الموسوعة المعلوماتية quot;الانكارتاquot; لشركة مايكروسوفت الخاصة العملاقة، أمام موسوعة الوكيبديا المجانية، والتي يحررها متطوعون بحافز خدمة المجتمع، وطبعا سيكون الجواب فشل المشروع التطوعي ونجاح مشروع الربحية. وفي الواقع توقف مشروع شركة ميكروسوفت في العام الماضي، بينما تحولت الوكيبديا التطوعية لأكبر موسوعة على شبكات الانترنت خلال ثمان سنوات، وبها أكثر من 13 مليون موضوع وبحوالي 260 لغة. فما الذي حدث؟ وأين هي فرضيات حوافز الربحية القديمة؟quot;
تطورت مفاهيم الحوافز الخارجية مع تطورات القرن العشرين، فقد أدخل المهندس الألماني فريدريك ونسلو تايلور نظرية الجزرة والعصا في إدارة الشركات، فوفر الحوافز لعماله حينما يديرون آليتهم بطرق صحيحة وعاقبهم على الأخطاء. ومع التطور العلمي والتكنولوجي وتقدم مهارات العمل التكنولوجية، واجهت نظرية الحوافز الخارجية مقاومة شديدة. فقد تطورت العلوم النفسية البشرية في منتصف القرن العشرين، ورفض أحد طلاب هاري هارلو، وهو البروفيسور أبراهام ماسلو، نظرية الجزرة والعصا، لاعتبارها السلوك البشري كسلوك الفئران، تبحث عن الحوافز الايجابية وتتجنب الحوافز السلبية، بل أكدت أبحاثه بأن الإنسان مخلوق يحفزه وازع ذاتي داخلي على الخير والإبداع بعد أن يضمن حاجيات بقاءه وأمنه. وأعجب بروفيسور جامعة أم أي تي، دوغلاس ماجريجر، بأفكار ماسلو فنقلها للبرامج الإدارية والتجارية في الجامعات، لتتطور إدارة الشركات، ويصبح اللباس والدوام أكثر مرونة، ويحصل العاملين على الاستقلالية في العمل والتدريب. كما تغيرت تدريجيا نظرية الربحية التنافسية لمفاهيم تطوعية وتعاونية، ولتصبح اللينوكس والوكيبيديا مثلا لإدارة القرن الواحد والعشرين.
وقد درس كريم لبكاني، بروفيسور جامعة أم أي تي الأمريكية، الشركات التعاونية الجديدة، لمعرفة الأسباب التي أدت بحوالي 684 مشارك للتطوع للعمل في تطوير مصادر المعلومة المفتوحة، فأكد جميعهم على أهمية متعة الحافز الذاتي الداخلي والتي تبرز من خلال الإبداع في مشاريع خدمة المجتمع. وقد أدى ذلك لتطوير قوانين لشركات جديدة، فصدرت تشريعات أمريكية لأنظمة شركات قليلة الربحية ومحدودة المسئولية، والتي تعمل لربحية تهدف خدمة مجتمعية هامة. كمشروع بروفيسور محمد يونس للتجارة الصغيرة، الذي ساعد الفقراء لإنشاء شركاتهم الصغيرة، التي توفر المنتجات للمجتمع وتقلل البطالة والفقر فيه. كما طورت الدنمارك، بشراكة مع الأمم المتحدة، شبكة القطاع الرابع، والتي تروج لمنظمات تعتمد على نفسها اقتصاديا وتقدم خدمات مجتمعية. وطور الأمريكيون شركات quot;البيquot; والتي تؤكد أنظمتها على القيم البعيدة الأمد والخدمة المجتمعية والمحافظة على البيئة. ويعتقد الاقتصادي برونو فراي، الأستاذ بجامعة زيورخ، بأن مواطن القرن الواحد والعشرين quot;سيتحول لإنسان اقتصادي ناضج، تميزه حوافز اقتصادية مصقولة، وستصبح الحوافز الذاتية الداخلية مهمة جدا في النشاطات الاقتصادية، وسيقل تأثيرات حوافز ثواب الجزرة وعقاب العصا.quot;
ويستطرد دانيل بنك بقوله: quot;قد يحتاج العمل البسيط بخطواته الرتيبة، والذي لا يلزمه ماهرات خاصة، للحوافز والمراقبة، بينما سيحتاج عمل القرن الواحد والعشرين المرتبط بمهارات معقدة، لحوافز ذاتية داخلية يثيرها عمل الخير والإبداع. فقد تحول العمل من عمل لوغورثماتي يحتاج تنفيذه لخطوات رتيبة محددة، ويقوم به الإنسان للمحافظة على بقاءه، لعمل استكشافي خطواته مبهمة ونتائجه غير جلية ويحتاج للتعامل مع احتمالات مختلفة، لتؤدي لإبداع شخصي يحقق اكتشافات جديدة. فقد كان معظم عمل القرن العشرين عمل لوغراتمي خطواته واضحة ونتائجه متوقعة، بينما اليوم، في القرن الواحد والعشرين، وخاصة في الدول المتقدمة، أخذت تختفي هذه الأعمال وتحولت للخارج. وقد تفيد سياسة الجزرة والعصا في الأعمال البسيطة، ولكن ستكون نتائجها كارثية على المهن الاستكشافية، والتي تعتمد على الإبداع ومرتبطة بحوافز المتعة والرضا الداخلي.quot; ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان