من مفكرة سفير عربي في اليابان

لقد أثار فضول خيالي العلمي هذا الأسبوع فيلم، quot;أفاتارquot; للكاتب والمخرج السينمائي جيمس كاميرون، وكتاب، quot;فيزياء المستحيلquot; لعالم الفيزياء الياباني الأصل والأمريكي الجنسية، مشيو كاكو. وبقدر ما أعجبت بإبداعات الخيال العلمي لهذين الكاتبين، بقدر ما بهرت بنشأتهما وشخصيتهما. وقد دفعني ذلك للبحث عن الجواب للأسئلة التالية: كيف يطور الغرب ثقافة الخيال العلمي لأطفاله ليهيئهم للإبداع في تكنولوجياته المستقبلية؟ وهل ستصبح هذه الثقافة قوة اقتصادية فاعلة في الألفية الثالثة؟ وما تأثير عولمة تكنولوجيات المستقبل على هذه الثقافة؟
ولد جيمس كاميرون بولاية انتاريو الكندية في عام 1954، وأنتقل مع والديه، في عام 1971، إلى الولايات المتحدة لدراسة العلوم الفيزيائية واللغة الانجليزية، بجامعة كاليفورنيا. وأشتغل بعد تخرجه سائق شاحنة، وكتب في أوقات فراغه. وبعد أن شاهد فلم quot;حرب النجومquot; في عام 1977، قرر العمل في صناعة السينما ليجمع بين خلفيته العلمية والأدبية. فبدأ نشاطه السينمائي بتأليف رواية لفيلم قصير، مدته عشر دقائق، أخرجه وأنتجه بالتعاون مع مجموعة من أصدقائه، وشارك بعدها، كمدير فني، لعدة أفلام خيال علمي. وقد كتب قصة quot;الترمنيتاروquot; في عام 1984 وحاول بيعها، لكي يستطيع إخرجها للسينما بنفسه. وبالرغم من إعجاب المنتجين بالقصة، ترددوا أن يخرجها فنان مبتدئ، فأضطر لبيع قصته بدولار واحد على أحد الشركات السينمائية، بشرط أن يخرجها بنفسه. وفعلا أخرج كاميرون الفيلم، ليكلف إنتاجه ستة ونصف مليون، وليحقق أرباح تتجاوز الثمانية وسبعين مليون دولار.
وقد كتب وأخرج كاميرون خلال العقدين الماضيين خيرة أفلام الخيال العلمي، لتسجل مجموع أفلامه مبيعات تتجاوز الخمسة مليار دولار. وقد كلف إنتاج فلمه الأخير quot;افاتارquot; ثلاثة مائة مليون، كما صرف على تسويقه مائة وخمسين مليون دولار، ليحقق خلال الأسابيع الأولى من عرضة مبيعات تقدر بالمليار دولار. وقد كتب كاميرون هذه القصة في التسعينيات، وأنتظر عقد ونصف من الزمن لكي تتطور تكنولوجية تصوير الأبعاد الثلاثية المندمجة، ليستطيع أخراج فيلمه الجديد. وتجري أحداث هذا الفيلم في عام 2154، وعلى سطح كوكب quot;البندوراquot;. فقد غزا الأمريكيون هذا الكوكب في محاولة لسرقة معدن، الانبوتانيوم، والذي يقدر سعر الكيلوغرام منه بعشرين مليون دولار. وقد تميزت مخلوقات هذا الكوكب، quot;النافيquot; بالذكاء البشري والطول والنحافة والبشرة الزرقاء والذنب الطويل، ويحترمون الطبيعة، ويعبدون آلهة quot;الأيوا.quot;
وقد واجه العلماء مشكلة عدم توفر الهواء المناسب لتنفس البشر على هذا الكوكب، فقاموا بتطوير مخلوق سمي quot;بالافاتارquot; يجمع مواصفات البشر ومخلوقات quot;النافيquot; وذلك باستخدام تكنولوجية هندسة الجينات الوراثية. ويصور الفيلم بشكل أبداعي جميل، وبدمج التصوير الفوتوغرافي مع تكنولوجية التصوير الكارتوني الثلاثي الأبعاد، قصة غزو الإنسان لهذا الكوكب وقتل مخلوقاته وحرق جمال طبيعته وتلويث بيئته طمعا في ثرواته. وقد حاول الفيلم أن يناقش أمكانية وجود مخلوقات ذكية في المجرات الأخرى، وتطوير تكنولوجية فضائية مستقبلية للوصول لكواكبها، بالإضافة لخلق كائنات بشرية بالهندسة الوراثية، تستطيع العيش على سطحها. كما ناقش الكاتب ظاهرة الطمع البشري، بمحاولتها لغزو الكواكب الأخرى وسرقة خيراتها وتدمير بنيتها التحتية وتلويث بيئتها، وكأنه يريد أن يعيد لذاكرة المشاهد ماسي الاستعمار القديم وحرب الفيتنام وغزو العراق.
وتحتاج أفلام الخيال العلمي، لمستشارين متخصصين في العلوم الفيزيائية والبيولوجية، لمراجعة الرواية والتأكد من تطابقها مع قوانين ونظريات هذه العلوم. ويعتبر العالم الفيزيائي، ميشو كاكو، من أشهر المختصين في هذا المجال. وقد شرح في كتابه الجديد، فيزياء المستحيل، دوره العلمي في هذه الأفلام الخيالية، وناقش التخيلات العلمية التي تبدو مستحيلة تكنولوجيا اليوم، ولكنها تتماشى مع قوانين العلوم الفيزيائية، وليطرح التساؤلات التالية: هل ممكن أن تتطور التكنولوجية بحيث أن يستطيع الإنسان أن يمشي من خلال جدران المستقبل؟ وهل سيسافر في سفينة فضائية سرعتها تزيد عن سرعة الضوء؟ وهل سيتمكن من قراءة أفكار الآخرين؟ وهل سيختفي عن عيون الناس وهو واقف أمامهم؟ وهل سيحرك الأشياء بقوة ذهنه؟ وكان جوابه بنعم على جميع هذه الأسئلة، لأن تطبيقاتها تتماشى مع قوانين العلوم الفيزيائية، ويبقى السؤال: كيف ومتى ستتحقق هذه الأحلام؟ وقد خصص المؤلف معظم بنود كتابه لشرح كيفية تحقيق هذه الأحلام، والتي من الصعب عرضها في مقال قصير.
وناقش الكاتب التربية الغربية والتي تلهم الأطفال للولع بتكنولوجيات المستقبل فقال: quot;لقد ألهمتني الأفلام الخيالية التي كنت أشاهدها على شاشات التلفزيون وأنا صغير. ولم أكن وحيدي في ذلك، فقد ترك ادوين هابل القانون، ودرس علوم الفيزياء، ليصبح أشهر عالم فلك في القرن العشرين. وأتذكر اليوم الذي توفى فيه العالم ألبرت اينشتين، حينها قرأت تعليق صحفي عن نظريته التي لم تكتمل، نظرية توحد جميع قوانين الفيزياء في نظرية فريدة. فحلمت منذ ذلك اليوم باكتشاف هذه النظرية، وفعلا ساعدني هذا الحلم لاكتشاف نظرية الأوتار الفيزيائية. وقد بدأت رحلتي العلمية، لتحقيق أحلامي المستحيلة، بإتقان علوم الفيزياء والرياضيات، فوضعت جهدي بالمدرسة في مسابقة مشروع بحث تصادم نووي، لأفوز وأحقق حلمي بالحصول على بعثة لدراسة الفيزياء بجامعة هارفارد.quot;
فقد جمع ميشو كاكو، وهو طالب في الثانوية، 22 ميلا من أسلاك النحاس، وأربعة مائة رطلا من المحولات الكهربائية القديمة، في وسط ساحة مدرسته، ليصمم جهاز تسارع جزيئات البيتاترون، بقوة 2.3 مليون الكترون فولت، لينتج حقل مغناطيسي يعادل عشرين ألف ضعفا للجاذبية الأرضية. وكان هدفه توليد أشعة الجاما ليستطيع خلق مضاد المادة، والتي تعتبر حتى اليوم من المهمات الصعبة أو الشبه مستحيلة. كما ناقش الكاتب تربيته العلمية، ودورها في تغير مفهوم المستحيل في مخيلته فقال: quot;وقد اكتشفت من واقع اختصاصي بان المستحيل هي عبارة نسبية. وأتذكر في المدرسة، حينما توجهت معلمتي لخارطة العالم، وهي مؤشرة على السواحل الشرقية لقارة جنوب أمريكا والسواحل الغربية لقارة أفريقيا، لتتساءل، أليس من الغرابة أن تتراكب هذه السواحل على بعضها، كأنها انفصلت عن بعضها بفعل قوة هائلة مستحيلة؟ وحينما درسنا الدينصورات تساءلت مرة أخرى، كيف يمكن أن تحتل الدينصورات الأرض طوال ملايين السنين، وتختفي فجأة؟ فهل أرتطم نيزك فضائي بالأرض، وقضى على هذه الديناصورات؟ ولترد مرة ثانية بكلمة، المستحيل.
وقد اكتشف العلماء بعد عقود طويلة، بان التحركات التكتونية للطبقات الأرضية، قبل خمسة وستين مليون سنة، سببت انجراف قاري، وترافقت بتصادم نيزك فضائي كبير بالأرض، أدى لانفصال قارتي جنوب أمريكا وأفريقيا وقضى على الدينصورات. ويعلق الكاتب بقوله: quot;ففي حياتي القصيرة وجدت كثيرا من المستحيلات تتحول لحقائق علمية. ويبقى السؤال: هل من المستحيل أن ننتقل يوما ما من كوكب لآخر؟ وقد يبدو ذلك مستحيلا اليوم، فهل سيصبح ممكنا بعد عدة قرون؟ ولنفترض بأن هناك حضارة فضائية متطورة بملايين السنين عن حضارتنا، هل من الممكن أن تملك تكنولوجيات تبدو مستحيلة في عالمنا؟quot;
فحينما نراجع التاريخ نجد، بأن التكنولوجيات التي اعتبرت بأنها مستحيلة قبل قرنين، أصبحت حقيقة اليوم. فقد كتب جوليس فيرن في عام 1863 روايته، باريس في القرن العشرين، محاولا تصور باريس في عام 1960، ليوصف فيها تكنولوجيات مستحيلة في ذلك الوقت، كالفاكس وشبكة الاتصالات وناطحات السحاب والقطارات المغناطيسية الفائقة السرعة. وقد صدقت استقراءاته لأنه كان يتقن علوم الفيزياء. بينما أخطأ أحد أعظم علماء بريطانيا، اللورد كليفن، حينما توقع بأن أي شيء أثقل من الهواء لا يمكن أن يطير، وذلك بسبب فهمه الخاطئ لقوانين فيزياء الذرة في ذلك الوقت. لذلك تعتمد مصداقية الخيال العلمي على الفهم الفيزيائي لقوانين الذرة والقوى الأربع المرافقة لها، وهي قوة الجاذبية الأرضية، والقوة الكهرومغناطيسية، والقوة الجاذبة والنافرة في الذرة. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل سيتطور التعليم في وطننا العربي لكي تنافس ثقافة العلوم الفيزيائية ثقافة الميتافيزيقا؟ وهل ستدعم هذه الثقافة بفنون الخيال العلمي، لتلهم أطفالنا، وتهيئهم لتطوير إبداعات تكنولوجية مستقبلية، تطور صناعتنا وتنمي اقتصادنا، أم سننتظر حتى تمطر السماء ذهبا وفضة، بعد أن ينضب النفط أو يفقد قيمته؟
سفير مملكة البحرين في اليابان