من مفكرة سفير عربي في اليابان

أنشغل علماء النفس في القرن الواحد والعشرين بدراسة أسرار العقل البشري ومدى ارتباط تطوره بالبيئة العائلية والاجتماعية والطبيعية المحيطة به، وتساءلوا عما سيكون هذا الإنسان لو عاش منذ ولادته في وسط غابة مختلط بالحيوانات، بعيدا عن أبناء جنسه، فهل سيستطيع المشي؟ وهل سيستطيع التكلم؟ وهل سيستطيع التفكير والتحليل؟ وهل سيستطيع التواصل مع جنسه البشري حينما يكبر؟ وقد تؤدي هذه التساؤلات لأسئلة محيرة أخرى: هل يكفي أن يولد الجنس البشري بجهاز عصبي سليم ليكون إنسانا مكتمل العقل، أم يحتاج هذا التكامل لتواصل بشري متناغم، لتطوير شخصية الإنسان، وذكائه، وتفكيره، وذاكرته، وعاطفته، وحواسه، وكفاءة التعامل مع تحديات حياته؟ وما تأثير البيئة العائلية أو المدرسية أو المجتمعية المضطربة على تطور العقل، وما رد فعل ذلك على التطرف والعنف في المجتمع، وعلى أمن الدولة واستقرارها وسلامها، وعلى تنميتها الاجتماعية والاقتصادية؟
ليسمح لي القارئ العزيز بمقدمة بيولوجية مبسطة. تبدأ حياة الجنس البشري من اندماج نصف خلية أنثوية وهي البويضة، مع نصف خلية ذكرية وهو الحيوان المنوي، ليتكون من هذا الاندماج خلية quot;مضغيةquot; تستطيع الانقسام والتميز. وتعتبر بيضة الدجاجة الملقحة، بدون قشرتها الكلسية، نموذجا مبسطا ومكبرا ملايين المرات، لهذه الخلية quot;المضغيةquot;. ويحيط بهذه الخلية، غشاء خارجي، يحتوي بداخله على سائل بروتيني لزج، وفي مركزه، كرة وراثية، تسيطر على وظائف الخلية، وعلى أطرفه، مصانع دقيقة، تقوم بصنع مختلف المواد التي يحتاجها الجسم لنموه، وتوازن وظائفه، وبقائه، ونشاطه العقلي. وتحتوي الكرة المركزية على ستة وأربعين مورثة جسمية، ومورثة جنسية أنثوية، ومورثة أخرى جنسية ذكرية. وتشبه هذه المورثات عصيات مختلفة الشكل، تتكون من جينات، مكونة من مادة بروتينية، هي نوع من الحمض النووي الريبي، والمعروفة، بالدي إن إيه، تنقل الصفات الوراثية، التي تسيطر على وظائف مصانع الخلية. وتنتقل هذه الجينات من جيل لآخر بالوراثة، كما تتعرض لتغيرات مستمرة متأثرة بالبيئة الطبيعية والمجتمعية التي تحيط بالإنسان. وتبدأ عملية الانقسام في هذه الخلية quot;المضغيةquot; بتكرار انشطارها لخليتين، لمليارات المرات، لتجتمع هذه الخلايا المنقسمة في ثلاثة طبقات، داخلية ومتوسطة وخارجية. وتتميز كل طبقة من هذه الطبقات بتكوين أعضاء مختلفة في الجسم، فمثلا تقوم الطبقة الخارجية بتكوين الجهاز العصبي.
وتبدأ الخلايا العصبية بالتكاثر في الطبقة الخارجية لتكون الجهاز العصبي، المكون من الأعصاب، والنخاع الشوكي، والجدع المخي، والمخ، والمخيخ، وجهازي الودي ونظير الودي، والتي تحتوي على المليارات من الخلايا العصبية، والمتواصلة مع شبكة من تريليونات الألياف العصبية. وتتداخل الخلايا العصبية خلال نموها مع الطبقات الأخرى، كما تتواصل مع بعضها البعض، بشبكة معقدة من الألياف العصبية، لتنسق وظائفها بتناغم جميل. وتبدأ الخلايا العصبية بالتكاثر في طبقة الجلد، لتنقل مختلف إحساسات اللمس، كما تتكاثر الخلايا العصبية في العين والأذن واللسان والأنف لتنقل حواس النظر والسمع والتذوق والشم لمراكزها المختلفة. وتنقل هذه الحواس الخمسة الواقع الطبيعي والاجتماعي المحيط بالإنسان، من خلال الألياف العصبية، إلى النخاع الشوكي، ومنه إلى الجذع المخي، فمراكز وسط المخ، وإلى القشرة المخية. وترتبط الألياف العصبية للحواس في الجذع المخي، بالألياف العصبية لمراكز أجهزة التنفس والقلب والهضم، وغرائز العطش والجوع والجنس، ثم تنتقل بعدها لمراكز العاطفة، المسئولة عن فهم هذه الحواس والتفاعل معها. وبعدها تنتقل هذه الحواس، لشبكات معقدة من الخلايا العصبية في وسط المخ وعلى قشرته، لتقوم هذه الخلايا، بمراجعة الذاكرة، لمعرفة مدى خبرته بهذه الحواس سابقا، وما هي نوع هذه الخبرة؟ وهل هي خبرة مفيدة أم مخيفة أو مضحكة؟ وتنتقل هذه الحواس بعدها إلى الخلايا العصبية المسئولة عن التفكير، لتقرر كيفية التعامل معها، ومنها تنتقل لمركز الذكاء، لكي تتفحص هذه القرارات وتتأكد من صحتها، واختيار الأسلوب المناسب للرد عليها. وتبدأ الخلايا العصبية المسئولة عن حركة العضلات، والموجودة في قشرة المخ، بتنظيم عملية الرد على هذه الحواس، وذلك بإرسال أوامر، من خلال موجات كهربائية في الأعصاب، لتنشيط عضلات الحبال الصوتية للرد بالكلام، أو بتنشيط عضلات اليد للرد بالكتابة، أو بتنشيط عضلات اليد والرجل للرد بالحركة.
ويحتاج الجهاز العصبي للتعليم والتدريب لكفاءة فهم البيئة المحيطة به، والتفاعل معها بمهارة عالية، وتؤدي مهارة التفاعل هذه لنمو الجهاز العصبي بتناغم جميل، لتكثر عدد خلاياه العصبية، ويكبر حجمها، وتتعدد تشابك أليافها العصبية، ويزداد دقة وكفاءة وظائفها، فكلما كان هذا التفاعل منظما ومتناغما، كلما نمت هذه الخلايا وشبكة تواصلها ووظائفها بشكل صحي سليم، وكلما كان هذا التفاعل مع البيئة الطبيعية والاجتماعية مضطربا وفوضويا، كلما أضطرب نمو هذه الخلايا وشبكة تواصلها ووظائفها. ويبدأ نشاط الجهاز العصبي، عادة، في الأسبوع السادس من الحمل، ويكتمل نموه بعد ستة شهور من الولادة، ويستمر تطور وظائف خلاياه العصبية وتناسق عمل شبكات أليافه مدى الحياة، بعملية التواصل بين الإنسان ومجتمعه وبيئته. فباختصار شديد، يحتاج التطور السليم للعقل البشري للتواصل المتناغم، والتفاعل المتزن، مع بيئة البيت والمدرسة والمجتمع. وقد بينت الدراسات العلمية بأن الأطفال الذين ولدوا في وسط الغابة، بعد أن توفت أمهاتهم، وعاشوا وسط الحيوانات، نمى جهازهم العصبي، متفاعلا مع بيئة التواصل الحيوانية المحيطة بهم، فتحركوا بالمشي على أربعة أطراف، وتفاعلوا مع الحيوانات بسهولة، ولا يفهموا لغة البشر، كما أن آلية تفكيرهم وتحليلهم بدائية، وعملية تفاعلهم مع البيئة المحيطة بهم انفعالية. ليؤكد كل ذلك، بأن الجهاز العصبي يتفاعل في تطوره مع البيئة التي تحيط به، ويحتاج لنموه السليم للتعليم والتدريب، لكي يطور مهارات المشي واللغة والتفكير والذاكرة وفهم العاطفة، والإحساسات الخمسة، وقدرة التفاعل معها. وبهذا التفاعل بين محيط الطفل وجهازه العصبي، يتطور العقل، وتتقدم عملية التحليل الفكري، وتنتظم عملية خزن الخبرات والمعلومات في الذاكرة، وتنمو المهارات الأخلاقية واللغوية والعضلية، ونتفهم العواطف البشرية ونتعلم السيطرة عليها، والاستفادة منها، لكي نطور مهارات التواصل البشري وأخلاقيات سلوكه.
وقد ناقش عالم النفس الأمريكي، البروفيسور دانيال سيغل، في كتابه، البصيرة، ما توصلت له الأبحاث العلمية الحديثة من فهم لأسرار العقل البشري وحاسته السابعة. وقد نحتاج قبل أن نبدأ مناقشة أفكاره أن نفرق بين الجهاز العصبي، وهو تعبير عن التكوين التشريحي للجهاز المسيطر على الإنسان، والعقل، وهو تعبير عن جميع الوظائف التي يقوم به هذا الجهاز من أحساس وتفاعل وتفكير وتذكر. ويبدأ البروفيسور مقدمة كتابه بالقول: quot;في كل واحد منا عالم بحر عقلي داخلي، وهو مكان رائع ثري، مليء بالأفكار والإحساسات والذكريات والأحلام والآمال والأمنيات، ويمكن أن يكون أيضا بحر هائج، نمارس فيه الطرف المظلم من هذه الإحساسات والأفكار: الخوف والشجن والهلع والأسف والكابوس. وحينما يبدأ هذا البحر الداخلي الهائج عملية تحطيمنا، يجرنا للقاع فيحسسنا بالغرق، فمن منا لم يعيش هذه ألإحساسات دخل عقله؟ وقد تكون هذه الإحساسات أحيانا آنية: يوم عمل سيء، أو شجار مع من نحب، أو قلق امتحان، وقد تكون كارثة لا نعتقد بإمكاننا تجاوزها. وهنا تبدأ مهارات البصيرة، الحاسة السابعة، التي يمكن تطويرها لأداة تغير عجيبة، تحررنا من أنماط عقلية معيقة، لنعيش حياة سعيدة متكاملة، وذلك بتركيز انتباهنا لندرك طريقة عمل عقولنا، للتحكم بطوفان انفعالاتها، والذي من عادتنا التورط في فخ شباكها.quot;
ويصف البروفيسور الحاسة السابعة، بقوله: quot;فالبصيرة، أي الحاسة السابعة، تتعرف على انفعالاتنا وتروضها، بدل أن تربكنا وتشل عقولنا. ولنقارن بين مقولة، quot;أنا حزينquot;، وبين مقولة، quot;أنا أحس بالحزنquot;، فمع أن هاتين المقولتين تبدوان متشابهتين، ولكن في الحقيقة هناك فرق شاسع بينهما. فتعكس مقولة quot;أنا حزينquot;، بأننا قد وقعنا في شباك انفعالات الحزن، وتحكمت في أذهاننا وتفكيرنا، بينما تعني مقولة، quot;أنا أحس بالحزنquot;، بأننا نملك المهارات اللازمة، للتعرف على شعور الحزن، وتقبله بعقلانية، بدون أن ترهق طاقاتنا العقلية والجسمية. فتساعدنا مهارة تركيز البصيرة في رؤية ما بداخل عقولنا، لنتقبله بحكمة. وبقبول ما بداخل عقولنا، نستطيع أن نتفهم انفعالاتنا المدمرة، ونستفيد من خلالها تطوير مهارات التعامل مع معضلاتنا الحياتية، لنحقق النجاح والتفوق.quot; ويبقى السؤال: ما هي حقيقة البصيرة التي يتحدث عنها الكاتب؟
يشبه الكاتب البصيرة بعدسة بيولوجية، تساعدنا على إدراك العقل بدقة كبيرة، لندخل في خفاياه، وننظر لأسراره. ويمكن لأي واحد منا أن يطور هذه العدسة بداخله، وحينها نستطيع أن نبحر في بحور العقل ومحيطاته، لنتعرف على خفايا حياتنا، بل وحياة الآخرين من حولنا، وهي إمكانية الإنسان الفريدة للفحص من قرب، وبدقة، وبعمق، وبالتفصيل، الآلية التي نفكر، ونشعر، ونتصرف بها، وتساعدنا لكي نشكل ونوجه خبراتنا الداخلية، لحرية التفاعل معها، والعمل بطاقة كاملة لبناء مستقبلنا وأحلامنا. فهي المهارة الأساسية لذكاء التواصل الاجتماعي، وذكاء الفهم والسيطرة على عواطفنا وانفعالاتنا، لما تحيط بنا من تحديات. وبتطوير مهاراتنا في التركيز على عالم عقلنا الداخلي، نطور شبكات التواصل العصبية في عقولنا، لينمو جزء من المخ المسئول عن الصحة العقلية، أي نحافظ على صحة عقولنا. ولا يتم هذا التغير بدون جهود جادة، فتطوير قدراتنا في الإبحار خلال بحور عقولنا، يحتاج لجهود جادة لتطوير هذه القدرات الذهنية، كما نطور عادة قدراتنا العضلية بالتمارين الرياضية. والحقيقة العلمية هو أننا نحتاج لخبرات معينة، لنطور هذه القدرة العقلية، ويبدأ تطوير قدرة البصيرة منذ الولادة، بتربية قدرة التواصل العائلية بين الرضيع وأمه، وتتطور أساسياتها بنمو خبرات تواصلنا التربوية والعائلية والحياتية، لنتعلم كيفية إدراك أفكارنا وإحساساتنا وشعورنا وذكرياتنا وعقائدنا وأخلاقياتنا وسلوكنا وآمالنا وأحلامنا، وتطوير الخبرة في فهمها. ويطرح الكاتب الأسئلة التالية للحوار: كيف نطور قدراتنا لإدراك الفكرة، ومعرفتها، كأحد نشاطات أذهاننا، بدون أن تتحكم في عقولنا؟ وكيف يمكننا أن نتقبل ثراء عقولنا بدون أن ننفعل لمنعساتها؟ وكيف نتحكم في أفكارنا وإحساساتنا، بدل أن ننجر وراءها؟ وكيف يمكننا معرفة عقول الآخرين، لنتفهم منابع انفعالاتهم، فنستطيع التفاعل معها بفاعلية وتعاطف؟ ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان