من مفكرة سفير عربي في اليابان
لفت نظري في شهر سبتمبر الماضي ترحيب قيادات الكنيسة في المملكة المتحدة بفرضية بروفيسور جامعة كمبردج، ستيفن هوكينغ، في ربط الجاذبية بنشأة الكون. وقد عبر رد الكنيسة، المتزن، عن ما حققته قيادات الكنيسة، خلال القرون الثلاثة الماضية، من ثقة بالنفس وإيجابية التعامل مع النظريات العلمية. فقد تقبل رجال الدين بكل ثقة حوارات هوكينغ، وطالبوا: quot;بتجنب اتهام فرضياته، عن نشأة الكون، بأنها تهدد العقائد الدينية. بل اعتبروها فرضيات تلهم حوارات صحية، لمعرفة حقيقة وجدنا، وهدفنا في هذا الكون.quot;
يحاول البروفيسور هوكينغ في كتابه الجديد، التصميم العظيم، الإجابة على السؤال الحتمي لكيفية نشأة الكون، من خلال أبحاثه الفيزيائية في العقود الأربعة الماضية، فيقول: quot;فبوجود الجاذبية، استطاع الكون أن ينشأ من العدم. فنشأة الكون السبب لوجد الشيء بدل عدم وجوده، ولماذا نحن موجودين، ولماذا الكون موجود.quot; فيفصل البروفيسور هوكينغ بين قوانين العلوم الفيزيائية والإرادة الإلهية. فمثلا، يؤكد قانون الجاذبية بأن انفصال التفاحة عن غصن الشجرة يؤدي لسقوطها على الأرض، ولن تطير في السماء، بسبب قانون فيزيائي مرتبط بالجاذبية الأرضية. وحينما تكون التفاحة في الفضاء الخارجي تبقى معلقة لعدم وجود الجاذبية. فيتصور البروفيسور بأن الخالق، جل شأنه، لا يحاول التدخل في قانون الجاذبية، حسب توسل البشر، فلا يمكن، بوجود الجاذبية الأرضية، أن تسقط التفاحة على الأرض في يوم السبت، وتطير في السماء في يوم الجمعة. كما يرفض البروفيسور هوكينغ شخصنة الإله، وربطه بصفات البشر، كما رفض العالم الفيزيائي، ألبرت أينشتاين من قبل شخصنة الإله، وقال مقولته المشهورة: quot;العلم بدون الدين كسيح، والدين بدون العلم ضرير.quot; فمع أن البروفيسور ستيفن هوكينغ ربط نشأة الكون بالجاذبية، ولكن، يبقى السؤال الذي لم يجب علية في كتابه: كيف نشأت هذه الجاذبية؟ وهل هناك خالق وراء وجودها؟
وباختصار علمي مبسط، تفترض علوم الفيزياء بأن نشأة الكون بدأت نتيجة انفجار كتلة غازية ملتهبة، وبدرجة حرارة هائلة، تصل لمليارات الدرجات المئوية، وقبل حوالي 13.7 مليار عام. وقد تبعثرت جزيئات هذه الكتلة في مختلف أرجاء الكون، واصطدمت بمضاد المادة الغير مرئية، والمعروفة بالمادة الداكنة الإلهية، ليؤدي ذلك لتشكل سحابة غبار فضائية. وقد أدت الجاذبية لتجمع غبار السحابة الفضائية على شكل جزيئات الكوارك والبوزون، لتتشكل البروتونات والالكترونات، ولتتكون عناصر المادة، ببدء تجاذب بروتونة واحدة مع ألكترونة واحدة لتتشكل ذرات غاز الهيدروجين. وقد أدت الجاذبية، والحرارة الهائلة، لتجمع ذرات الهيدروجين، لتكوين عناصر الكون الأخرى، كالأكسيجين، والحديد، والسليكا. وقد تجمعت هذه العناصر بفعل الجاذبية، لتكون مليارات المجرات الكونية، المكونة من مليارات المجموعات النجمية، ومن أشهرها المجموعة الشمسية التي تعتبر الأرض أحد كواكبها. كما أن تجاذب ستة ذرات من الهيدروجين أدى لتشكل ذرة الكربون، التي تعتبر السر وراء تكون الكائنات الحية. ولنتذكر عزيزي القارئ بأن هذه النظريات هي فرضيات علمية، قد تدعمها بعض الحقائق الرياضية والقوانين الفيزيائية، وهي معرضة للمساءلة والخطأ والتغير، حسب تطور العلوم الفيزيائية، كما أنها السبب وراء جميع التطورات التكنولوجية التي نعيشها اليوم من الرحالات الفضائية وحتى الإنترنت.
وقد انتقد القس هاورد فلنت فرضية هوكينغ بقوله: quot;لقد أخفق البروفيسور في معرفة ضرورة التفريق بين كيف؟ ولماذا؟ خلق الكون في نظريته.quot; ويعتقد القس فلنت بأن العلم قد يستطيع ملئ فراغات عدم فهمنا لنشأة الكون، ولكن لا يستطيع أن يبين لماذا وجدنا؟ وما هو الهدف من وجودنا؟ وعلق بالقول: quot;لم أندهش من كتاب البروفيسور هوكينغ، بل شجعني لنكمل الحوار حول وجودنا.quot; وفي الطرف الآخر من الحوار أكد عالم الطبيعة الغربي المشهور، رتشارد داوكين، بأن الحوار حول العلم والمعتقدات الدينية مستمر منذ زمن طويل وعلق يقول: quot;مرحبا بأفكار هوكينغ لإثراء هذا الحوار، فالبنسبة لي، العلم والعقيدة يجاوبان سؤالين مختلفين، فيتساءل العلم: ماذا حدث؟ بينما تتساءل العقيدة الدينية لماذا نحن موجودين؟ ولا أعتقد بأن هناك تنافس بين السؤالين، بل هما سؤالان مختلفان. فبينما يشرح البروفيسور هوكينغ نظرته حول نظرية الانفجار الكبير، ولكني كمسيحي، أرغب معرفة لماذا نحن هنا؟ ولو سئلنا علماء الفيزياء عن سبب وجودنا، فلن نجد الجواب، لأن هذا السؤال ليس مهم بالنسبة لاختصاصهم. ويريد البشر جواب لهدف وجودنا، ولن يجدوا الجواب لذلك بدون وجود الخالق، ولذلك أسأل البروفيسور هوكينغ: أين سيذهب البشر لمعرفة هدف وجودنا، إن لم يذهبوا لخالق الكون؟
وقد علق القس مارك برون، الذي درس العلوم الكيماوية الفيزيائية قبل دراسته للدين، بقوله: quot;أنا مسرور لنقاش هوكينغ عن الكون، ولكن سيبقى السؤال لماذا؟ وللإجابة على هذا السؤال نحتاج للانتقال لمرحلة رفيعة للتعرف على فلسفة نشأة الكون. ولا أعتقد بأن أفكار هوكينغ خطيرة على عقائدنا الدينية، لأنها تلهم الحوار، فمن المنطق أن يفترض العلم، بسطحية، بأن لا حاجة لنا للرب، ولكن أعتقد بان علينا أن نفكر لماذا، حينما نسأل كيف نشأ الكون. وفي مرحلة متقدمة وعميقة من الحوار، سيعزز شراكة تناغم العلم والعقيدة الدينية أحدهما الأخر، فأنا لا أعتقد بأن العلم سيجاوب على سبب وجودنا، بل نحتاج لمرحلة سامية لنجاوب على معنى الحياة، وسبب الوجود.quot;
والجدير بالذكر بأن البروفيسور هوكينغ مصاب بشلل شبه كامل، وقد طورت جامعة كمبردج طريقة تكنولوجية خاصة لكي يتواصل مع عالمه الخارجي بالمحادثة والكتابة. وهو أستاذ للعلوم الفيزيائية منذ أربعة عقود، وقد أستلم كرسي الأستاذية للعالم البريطاني إسحاق نيوتون، مكتشف الجاذبية الأرضية. وقد ربط البوفيسور نيوتون قدرة وجود الجاذبية بقدرة الخالق جلت قدرته، وقد عبر عن ذلك بقوله: quot;الكون محكوم بقوانين علمية فيزيائية، وقد تكون هذه القوانين إرادة إلهية، ولكن لا يتدخل الخالق، جل عظمته، لتغيرها كل لحظة، حسب رغبات خلقه. فهناك مفارقة أساسية بين الدين والعلم، فالدين مرتبط بالمرجعية والثقة، بينما يعتمد العلم على الملاحظة وعلوم المنطق، ومعرض للمساءلة والتغير.quot;
تلاحظ عزيزي القارئ بأن المتحدثين في هذه الحوارات لم يكفر أحدهم الآخر، ولم يتكلموا باسم الدين، بل تحدث كل منهم عن عقائده الدينية، فقد تطورت الحوارات الدينية في الغرب، خلال القرون الثلاثة الماضية. ولنتذكر كيف تعامل رجال الدين مع العالم الإيطالي، جاليليو في القرن السابع عشر حينما أكد من جديد، بأن الشمس هي مركز المجموعة الشمسية، وبأن الأرض ليست مركز الكون. ويبقى السؤال: هل ستستفيد مجتمعاتنا العربية من هذه المناقشة لتطوير حوارات متزنة تخلق تناغم بين العلم والعقائد الدينية، لتطور عقول متفتحة، غير متعصبة أو متطرفة، لتغني المجتمع، وتثري الدين والعلم؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان