من مفكرة سفير عربي في اليابان


يتناسب التقدم الاقتصادي طردا مع ارتفاع نسب الإنتاجية في دول العالم. وترتبط الإنتاجية بمستوى تعليم المواطن وصحته، لذلك اهتمت الحكومات بالتعليم والتدريب المستمر والرعاية الصحية. وتعاني الرعاية الصحية اليوم من تحدي كبير، وهو الزيادة المتصاعدة للكلفة، والتي من المتوقع أن تصل في دول الغرب، مع منتصف القرن الواحد والعشرين، إلى 25% من الناتج المحلي الإجمالي. وترتبط زيادة الكلفة بارتفاع نسب الأمراض المزمنة اللاوبائية، كالسكري وجلطة القلب والسرطان، والمرتبطة بارتفاع نسب البدانة. وتتصاعد نسب البدانة لأكثر من 40% من السكان في بعض دول الغرب، وتكلف معالجة إمراض البدانة في الولايات المتحدة 17% من ميزانية الرعاية الصحية، لتصل إلى 168 مليار دولار سنويا، ولتضيف 2800 دولار على كلفة الرعاية الصحية للفرد الأمريكي. ولم تأمن دولنا العربية من هذه التحديات، بل سجلت بعض دول المنطقة أكبر نسب للبدانة في العالم، والتي ستترافق بزيادة كبيرة في الأمراض المزمنة اللاوبائية، وارتفاع هائل لتكلفة الرعاية الصحية. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: كيف يمكن تطوير اقتصاد طب في وطننا العربي بكفاءة عالية وكلفة منخفضة؟ وما دور المواطن العربي في ذلك؟ وهل من الممكن الاستفادة من خبرات الدول المتقدمة، كاليابان؟
لفت نظري في الصيف الماضي عدة حوارات في الصحافة العالمية حول تحديات العولمة في معالجة زيادة الصرف على الرعاية الصحية. فقد ركزت صحيفة اليابان تايمز على إحصائيات الأوكسفام، حيث أحتاج العالم في عام 2005 إلى 151 مليار دولار، للقضاء على الفقر المقفع وأمراضه المرافقة في العالم. والغريب بأنه منذ أن بدأت الأمم المتحدة العمل قبل عقد من الزمن، لتحقيق أهداف الألفية الثالثة في الصحة والتعليم والقضاء على الفقر، بخفض نسبة البشر التي تعيش على دولار واحد في اليوم للنصف، وخفض وفيات الأطفال بنسبة الثلثين، صرف العالم 5200 مليار دولار على شراء التبغ، و664 مليار دولار على شراء الأيسكريم، و395 مليار دولار على شراء ألعاب الفيديو المترافقة بالخمول والبدانة. كما نشرت الصحيفة خبر يتعلق بسحب إدارة الدواء والغذاء الأمريكية تصديقها على تكلفة علاج جديد للسرطانات المتقدمة، تكلف الجرعة الواحدة منه ثمانية آلاف دولار، أعتقد بأنه يمنع وصول الدم للكتل السرطانية فيضمرها. والغريب، بأنه بعد أن وافقت هذه الإدارة على استخدام الدواء في سرطانات الثدي المتقدمة، وبعد أن سجلت مبيعاته العالمية 5.4 مليار دولار خلال فترة قصيرة، سحبت تصديقها، بعد أن أثبتت الأبحاث السريرية فشل هذا الدواء في خفض نمو الكتل السرطانية في سرطان الثدي المتقدم، بل كانت تأثيراتها الجانبية سببا مهما في الوفاة.
ونشرت صحيفة الاندبندنت البريطانية تقرير البروفيسور الأمريكي، دونالد لايت، في مؤتمر عالمي بالولايات المتحدة، الذي وضح فيه بأن 85% من الأدوية المطروحة في السوق، والتي تنهك ميزانية الرعاية الصحية، لا تفي بمعايير الفاعلية المطلوبة، بل ذات فائدة قليلة على المرضى، وقد تسبب تأثيرات جانبية خطيرة، تؤدي للوفاة. وأنتقد البروفيسور لايت quot;طرق ترويج الشركات للأدوية، والتي تبدأ بالحد من الأدلة التي تشير إلى الضرر، ونشر مطبوعات تبرز المزايا، وتنتهي بالحملات الكبيرة لبيعها. والغريب بأن تنفق هذه الشركات على تسويق الأدوية ضعفين أو ثلاثة أضعاف ما تنفقه على أبحاثها، بل وتسيطر على المعرفة العلمية، وتتحكم في النتائج التي ترسل للسلطات المسئولة للترخيص.quot;
ونشرت مجلة النيوزويك الأمريكية تقرير تقيم فيه الرعاية الصحية في العالم، فبدأت تقيمها بالقول: quot;لتقيم نجاح نظام صحي من المهم ملاحظة ثلاثة نقاط: النوعية، والشمولية، والكلفة، وبكل هذه المقاييس تقف اليابان في القمة في كل ترتيب تنافسي.quot; فتتميز النوعية في اليابان بأعلى رقم لمتوسط العمر، وأفضل نسبة للشفاء من الأمراض الخطرة، وأقل نسبة لوفيات الرضع، والتي تقدر بنصف نسبة وفيات الرضع في الولايات المتحدة، وتتقدم أيضا في الوقاية من الوفيات بعلاجاتها الناجحة للأمراض. وأما الشمولية، فنظام التأمين الصحي الياباني يشمل جميع المواطنين، والأجانب، وحتى الموجودين بطرق غير قانونية، كما تغطي كلفة الرعاية الجسمية والنفسية والأسنان والرعاية المزمنة. ويهتم الشعب الياباني بصحته كثيرا، وقائيا وعلاجيا، وهو أكثر الشعوب ترددا على الأطباء، فيزور المواطن الياباني الطبيب بمعدل 15 مرة سنويا، أي أكثر بثلاثة مرات من المواطن الأمريكي، كما تزيد عدد وصفاته الدوائية بضعفين، وفحوصاته المقطعية بثلاثة أضعاف عن ألأمريكيين، ويقدر متوسط بقاء المواطن الياباني في المستشفى عشرين ليلة، أي أربعة أضعاف الولايات المتحدة.
وتعلق المجلة على تكلفة الرعاية الصحية في اليابان فتقول: quot;أما التكلفة فمدهشة، فتقدم اليابان جميع هذه الرعاية الصحية المتميزة بتكلفة منخفضة، فتصرف 8% من إنتاجها المحلي الإجمالي على الرعاية الصحية، بينما تصرف الولايات المتحدة 16%. وبالرغم من أن ربع الشعب الياباني يزيد سنه على الخمسة والستين، تبقى تكلفة الرعاية الصحية السنوية للفرد الياباني 3500 دولار، أي أقل من نصف تكلفة الفرد الأمريكي، الذي يكلف الولايات المتحدة 7400 دولار.quot; وتوجد في اليابان تغطية صحية شاملة للجميع، ولكن الطب ليس طب اشتراكي، بل معظمه نظام طب خاص، مع وجود تأمين صحي حكومي للمسنين والعاطلين عن العمل. فمعظم المرضى يعتمدون على التأمين الصحي الخاص، كما أن أطباء اليابان أكثر رأسمالية ومنافسة في العالم، ونتحدث هنا على النموذج الياباني لحرية السوق، بتواجد أنظمة حكومية لضبط الطب الخاص. فيلزم القانون الياباني جميع شركات التأمين الصحي الخاص تغطية الرعاية الصحية لجميع المواطنين، وتدفع هذه الشركات جميع مصاريف التكلفة الصحية، كما على جميع المواطنين قانونيا شراء التأمين الصحي. quot;وسعر العلاج محدد في كل اليابان، وهذا هو مفتاح السيطرة على التكلفة في بلد يحب مواطنيه زيارة الأطباء.quot; وتعتبر أجور الأطباء والمستشفيات في اليابان الأقل في العالم، لذلك يعمل الأطباء ساعات طويلة، ومع ذلك يعتبرون طبقة مرتاحة. والأغرب هو قلة الصرف على التكنولوجية، مع كثرة استخدامها، فمع أنها تنهك ميزانية الرعاية الصحية الأمريكية، فنفس التصوير المقطعي الذي يكلف في الولايات المتحدة 1400 دولار، يكلف في اليابان 130 دولار، وقد أدى خفض السعر لزيادة الكفاءة الابتكار، لخفض التكلفة في اليابان.
وتنهي المجلة التقرير بتعليقها: quot;الرعاية الصحية اليابانية عكس الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، فنحن الأمريكيون نصرف الكثير، ونغطي قلة من المواطنين، بينما توفر اليابان الكثير من الرعاية الصحية، وللجميع، وتصرف القليل، لتكون أفضل رعاية صحية مستدامة.quot; ويبقى السؤال: هل سيستفيد العرب من تجربة الرعاية الصحية اليابانية ليلعب المواطن دورا مسئولا في الرعاية الوقائية، بسلوك نمط حياتي صحي في الأكل والشرب والرياضة المباشرة والغير المباشرة وتجنب التدخين؟ وهل ستنظم مجتمعاتنا تأمين رعاية صحية شاملة بتناغم العمل بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص؟ وهل ستشرع مجالس الشورى والبرلمانات العربية قوانين تنظم الرعاية الصحية، لتشجع القطاع الخاص المشاركة بكفاءة؟
سفير مملكة البحرين في اليابان