الحلقة الاولى

من مفكرة سفير عربي في اليابان


يصف الاقتصادي الأمريكي، أناتول كاليتسكي، في كتابه الجديد، رأسمالية 4.0، النظام الاقتصادي للقرن الواحد والعشرين، برأسمالية برغماتية، تعترف بأن الحكومة ومنافسة السوق معرضة للخطأ في الكثير من الأحيان، وبأن العالم متقلب ومتشابك، ولا يمكن إدارته، ببنية من المؤسسات الجامدة. وحينما نقبل بأن السوق والمؤسسات السياسية غير معصومة من الخطأ، فسيكون تجاوبنا المنطقي مع تحدياتها تجربة أنظمة وقرارات تجارية قابلة للتغير والإصلاح، وتنفيذها بتواضع لامركزي. وتتماشى هذه المفاهيم مع التكنولوجية المستمرة في التغير، ومع القيم الاجتماعية المعاصرة، كما أثبتت فوائدها في التجارة، والسياسات الاجتماعية، وحتى في الدبلوماسية.
وقد يتناسى بعض السياسين بأن الرأسمالية تعتمد على التعايش بين مؤسسات خاصة كفئة وحكومات فاعلة، تستطيع أحيانا تجاوز قوى السوق. ويكفي عادة أن quot;تحومquot; الحكومة في الخلف، لتدافع عن حقوق الملكية، وتتأكد من تنفيذ العقود التجارية، وتراقب قوانين السوق، وتعمل على انتشار فوائد الرأسمالية بعدالة بين المواطنين، لضمان الأمن والاستقرار الاجتماعي، واستمرار النمو الاقتصادي. وتحتاج الحكومة، أحيانا، للتواصل مع النظام الاقتصادي، لتضمن سلامة المؤسسات المالية التي تعتمد عليها الدولة، ولو فشلت الحكومة في ذلك فقد ينهار النظام الرأسمالي بأكمله. وقد قارن عالم الاقتصاد، ريكاردو كابوليرو، الأزمات المالية بتوقف القلب الفجائي. فيعاني النظام الرأسمالي، مهما كان منظما، توقف قلب فجائي، مرة كل نصف قرن على الأقل، وعلى الحكومة توفير شبكة حماية لتخفيف شدة هذه الطارئة، كتوفير الرعاية الصحية لعلاج توقف القلب. ونحتاج لخفض فرص تكرر هذه الأزمات لأنظمة كفئة، وحكومات فاعلة، تحترم السوق، وتتفهم محدوديتها وأخطائها، فعادة تكون السوق صائبة، ولكنها أحيانا تكون مخطئة وخطيرة جدا، وخاصة مؤسسات السوق المالية، التي تتعامل مع التوقعات المستقبلية. لذلك يحتاج النظام المالي للتنظيم بلمسات طفيفة، من مسئولين أكفاء، لديهم الثقة في التعامل مع الظروف المالية الطارئة، ويملكون السلطة لتجاوز قوى السوق، حينما يكون هناك حاجة.
ويعتقد الكاتب بأن العلوم الاقتصادية تتطور عادة مع الأزمات المالية، وستتعرض هذه العلوم إلى عاصفة من التغيرات بعد أزمة عام 2008، حيث فشلت في توقع الأزمة، وترددت في اختيار علاج يمنع تفاقمها. وقد سمحت فرضيات علوم الاقتصاد المبسطة الغير واقعية، للسياسيين والمصرفيين ومنظمي سوق المال، لخلق عالم خيالي لأساسيات سوق، يكون فيها الاستقرار المالي ذاتي، والبطالة مستحيلة، والسوق ذو المعلومة الغير محدودة تحل كل مشكلة، حينما ترفع الحكومة يدها المرئية وأنظمتها المقيدة. وقد أكدت أزمة عام 2008 خطأ كل هذه الفرضيات الاقتصادية، وسنحتاج لاستبدالها بنظريات أكثر رزانة. وقد ترافقت تغيرات النظام الرأسمالي بتغيرات لنظريات فهم العلوم الاقتصادية، منذ القرن الثامن عشر، زمن آدم سميث، وحتى سبعينيات القرن الماضي، زمن ملتون فريدمان. وسيحتاج النمط الجديد للرأسمالية، لمفاهيم اقتصادية جديدة، ويجب أن تنشط هذه الأزمة ثورة في الأفكار الاقتصادية. ولم يكن حرج العلوم الاقتصادية عدم توقع الأزمة، بل فشلها في توجيه السياسيين والمصرفيين لكيفية التعامل معها. ففشل تحليل الأزمة كان أكثر لعنة من فشل توقعها، لأن علوم الاقتصاد لم تدعي بأنها علم للتنبؤات، ولكن من واجبها توفير أدوات تحليلية، لشرح الحقائق، واقتراح حلول للأزمات الغير متوقعة، والتي فشلت فيه في أزمة عام 2008. والمشكلة التي ستوجهها رأسمالية 4.0، هي الحرب الضروس التي ستشنها لوبيات المؤسسات الخاصة العملاقة، ضد أية محاولة جادة لتطوير جذري للنظام السياسي الاقتصادي، وستضم معها بعض علماء الاقتصاد كمجموعة محافظة معارضة، وسيكونوا مؤثرين في تعصبهم، quot;بأن النظام الرأسمالي الحقيقي لا يمكن أن يشوه بتغيرات جذرية.quot;
ويعتقد الكاتب بأن هناك ثلاثة فرضيات غيرت التفكير السياسي والاقتصادي خلال العقود الثلاثة الماضية، وهي أن الاقتصاد الرأسمالي لا يحتاج لاستقراره لأنظمة الحكومة والبنوك المركزية، وبأن المنافسة المالية ستوزع دائما الموارد الاقتصادية بطريقة كفئة، وبأن على العلوم الاقتصادية التحول من علوم اجتماعية نسبية، إلى فرع من العلوم الرياضية المطلقة. وقد كانت لهذه الفرضيات نتائج سياسية سلبية عميقة، فقد شرعنت تباين الدخل، والبطالة، وزيادة دخل المصرفيين والقيادات التنفيذية، وبشكل خلخل تجانس المجتمع واستقراره. وأتهم كل من أقترح التوزيع العادل للدخل، وضرورة الاستراتيجيات الصناعية، وأهمية الأنظمة المالية، بالجهل بعلوم الاقتصاد، لتبرز فجوة كبيرة بين العلوم السياسية والعلوم الاقتصادية. وستكون هناك عصبية صراعات أيديولوجية مقاومة للتغير، وستشابه عصبية المقاومة التي واجهها علماء الفلك في عام 1543، حينما اكتشفوا بأن الأرض تدور حول الشمس، وليست هي مركز الكون. وحذر الكاتب بأنه: quot;إن لم تصلح علوم الاقتصاد مسارها ستتعرض للتهذيب بقرب جنازتها.quot;
وتتميز رأسمالية 4.0 بمعرفة أن اقتصاد السوق يحتاج لحكومة نشطة فاعلة، والذي أصبح واضحا للقطاع المالي بعد أن أنقذ انهياره الدعم الحكومي، ومن واجب الحكومة والبنوك المركزية إدارة المعطيات الاقتصادية، وبأن السياسات المالية والنقدية للحكومة هي أدوات مؤثرة لمنع التراجع الاقتصادي. كما أن السوق والحكومة معرضتان للأخطاء، وتعمل منافسة السوق من خلال التجربة والخطأ، ويمكن تصحيح أخطاءها بالتدخل الحكومي السريع والمناسب. وكما هي في السياسة، المنافسة الديمقراطية تصلح الأخطاء، بينما يمكن أن تضخم السوق الأخطاء بدل أن تصححها، حينما تسيطر quot;غريزة القطيعquot; على المستثمرين، كما في الديمقراطية حينما تسيطر quot;عصبيةquot; الأيديولوجيات على الحوارات السياسية. ففي عالمنا السريع، والمتداخل، والغير متوقع، تكون التجربة، والمرونة، والشك، والتكيف، ورغبة الاعتراف بالخطأ، صفات مهمة للسياسيين وقيادات البنوك المركزية، كأهميته للتجار ورجال المال.
وسيكون النظام الاقتصادي في رأسمالية 4.0 اقتصاد شراكة بين الحكومة والتجارة، مع سوق شراكة تنافسية مصممة، لكي تكون شفافة، وكفئة، ومتعاونة مع عدد صغير من الأسواق الحكومية، المنظمة عمدا، لكي تحقق كفاءة السوق الحرة. وستكون رأسمالية متكيفة، وراغبة في تغيير بنية مؤسساتها، وأنظمتها، وأساسياتها الاقتصادية، تجاوبا مع التغيرات الحياتية. وسيكون ذلك واضح في أنظمة السوق المالية، فبدل أن تعمل على زيادة المنافسة، ستعمل على تخفيفها، وخفض شدة توقعاتها، وزيادة شفافيتها، حيث أن سوقها غير منطقية، كما أن الجهود التي ستحاول أن تضبطها، لزيادة كفاءتها وتكاملها، قد تؤدي لنتائج عكسية، بخداعنا بوهم الكمال، والتخلص من خطورة تقلباتها. ولن تعد هناك ثقة مطلقة بالسوق، بل ستحتاج لقوانين لتنظيمها، وستتعرض هذه الأنظمة لتغيرات مستمرة، لتستطيع التكيف مع التغيرات المستمرة في عالم العولمة الجديد. وسيكون نظام اقتصادي مختلط، يشارك القطاع العام والخاص في التنمية المستدامة، كما ستتغير النظرة للموارد العامة، كالهواء والماء وسلامة الطبيعة من التلوث، وستبرز المسئوليات الحكومية ليس فقط على مستوى الوطن، بل على مستوى العولمة ككل، وستحتاج لقوانين عولمة جديدة لتنظيمها. ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان