من مفكرة سفير عربي في اليابان
عانى العرب في القرن الماضي من تحديات الاستعمار، والصراع العربي الصهيوني، وإرهاصات الحرب الباردة، ومعارك الأيديولوجيات الحالمة، وسيواجهون في القرن الواحد والعشرين تحديات العولمة المتشابكة والمعقدة، والتي ستحتاج لإصلاحات اقتصادية، وبمشاركة إقليمية وتعاون عالمي. وما أن بداء العرب في إصلاحاتهم الاقتصادية في العقد الماضي، إلا وبأزمة تهز الاقتصاد العالمي، وتشكك في نظامه الرأسمالي، وإصلاحاته المرافقة. ويبقى السؤال: هل للصراعات الأيديولوجية علاقة بأزمة عام 2008 الاقتصادية؟ وهل سينتهي في القرن الواحد والعشرين صراع الأيولوجيات الاقتصادية الحالمة، ويبدأ عصر البرغماتية الواقعية؟ وما هو النظام الاقتصادي القادم للتعامل مع تحديات العولمة الاقتصادية؟
ناقشت صحيفة اليابان تايمز في 16 من شهر يوليو الماضي انخفاض شعبية الرأسمالية في عقر دارها، فلم تعد تعبيرا مفضلا بين الأمريكيين، حيث انخفض دعم الشعب الأمريكي للسوق الحرة ومؤسساتها الخاصة، من 70% إلى 57%، وبقى 20% منهم محايدين نحوها و 19% سلبيين، فهناك تآكل أمريكي لدعم الرأسمالية، ولم تعد كلمة سيئة، ولكن أصبحت كلمة أقل إيجابية، حسب استطلاعات الرأي لغرفة التجارة الأمريكية. كما أكدت استطلاعات رأي جالوب بأن 52% من الأمريكيين يدعمون الرأسمالية، و 37% يرفضونها، بينما 29% منهم يدعمون الاشتراكية. وقد علق عالم الاجتماع الأمريكي، البروفيسور شارلز ديربر على هذه الاستطلاعات بقوله: quot;يبدو بأن الأمريكيين قلقون من علاقات الحكومة مع الشركات الخاصة العملاقة، والذي برز من خلال الدعم الحكومي للقطاع البنكي بمليارات الدولارات، ويعني نفور الأمريكيين من الرأسمالية، نفورهم من رأسمالية الشركات الخاصة، التي تخالف ممارساتها أخلاقيات السوق الحرة.quot; فقد عاصرنا انهيار الشيوعية في القرن الماضي، فهل سنشهد سقوط النظام الرأسمالي في هذا القرن، أم ستنقذه حوارات ديمقراطيته اللبرالية؟
يعرض الاقتصادي الأمريكي، أناتول كاليتسكي، في كتابه الجديد، رأسمالية 4.0، تاريخ الرأسمالية خلال القرنين الماضيين، وتطورها من رأسمالية 1.0 لآدم سميث في عام 1776، إلى رأسمالية 2.0 في عهد روزفلت، وحتى رأسمالية 3.0 في فترة تاتشر وريجان، وأهم ما يميز الرأسمالية بين هذه الفترات الثلاث هي العلاقة بين السياسة والاقتصاد، وبين الحكومة والسوق، وبين قرار مفهوم صوت لكل رجل، وصوت لكل دولار. فقد استمرت رأسمالية 1.0 من عام 1776 وحتى عام 1920، واعتبرت الاقتصاد والسياسة نشاطات بشرية منفصلة، مع ضرورة فصل السوق عن الحكومة، وبالاتفاق على اقتصاد السوق، وبعدم تدخل الحكومة في النشاطات التجارية، إلا كملاذ أخير. وانتهى فصل السياسة عن الاقتصاد في رأسمالية 2.0، التي بدأت مع التراجع الكبير في الثلاثينيات، ليصبح الاقتصاد فرع من السياسة، وليبدأ ببرنامج روزفلت للإصلاحات الاقتصادية، وينتهي بأزمة الانهيار الاقتصادي التضخمي في السبعينيات. وأفترض السياسيون والاقتصاديون خلال هذه الفترة، بأن قوى السوق كانت مخطئة في معظم الأحيان، وبأن وظيفة الدولة الأساسية في إدارة الاقتصاد، هي ترويض والسيطرة على قوى السوق الغير مستقرة. بينما تعاملت رأسمالية 3.0 مع السياسة كفرع من الاقتصاد، بدل أن يكون الاقتصاد فرع من السياسة، واعتقدت قياداتها من ريجان وتاتشر وحتى جورج بوش الابن، بأن: quot;الحكومة عادة مخطئة، وغير فاعلة، وبأهمية تمكين السوق قدر الإمكان، لتهذيب والسيطرة على السياسيين المرتشيين.quot; وانتهت تلك الفترة مع أزمة عام 2008، لتبدأ رأسمالية 4.0، فما هي هذه الرأسمالية؟
يصف أناتول كاليتسكي رأسمالية 4.0 برأسمالية برغماتية، تعترف بأن الحكومة ومنافسة السوق معرضة للخطأ في الكثير من الأحيان، وبأن العالم متقلب ومعقد، ولا يمكن إدارته ببنية من المؤسسات الجامدة، الغير قابلة للتغير، وقد يبدو ذلك معيق لقوى السوق الحرة، والحقيقة بأنه يمكنها ويقلل من أزماتها المتكررة. فلو قبلنا بأن السوق، والمؤسسات السياسية، غير معصومة من الخطأ، فسيكون تجاوبنا المنطقي مع تحدياتها، بالرغبة لتجربة أنظمة وقرارات تجارية قابلة للتغير والإصلاح، وتنفيذها بتواضع لا مركزي. وتتماشى هذه المفاهيم مع التكنولوجية المتغيرة والقيم الاجتماعية المعاصرة، وتأكدت فوائدها في التجارة، والسياسات الاجتماعية، وحتى في الدبلوماسية. ومع أن عمر كلمة الرأسمالية لا يزيد عن 150 سنة، ولكن القواعد التي أسست عليها، وهي روحانية المنافسة والطموح، والرغبة للتشبع والسيطرة على عالمنا المادي، والمسماة بالطمع، هي قواعد كونية ترجع لبدء التاريخ البشري، والتي تبين سبب فشل جهود استبدال فوضى وظلم السوق، بنظام منطقي وأخلاقي. ولكن لا تكفي عواطف الطموح والطمع لتعريف الرأسمالية، بل تحتاج لدافع الربحية وتراكم رأس المال، مع شرعية أخلاقية صادقة، والاعتراف بأهمية التعاون والتبادل الطوعي، كأساسيات لتنظيم نشاطات الحياة الاقتصادية. وقد برزت هذه الأساسيات في الأيديولوجية الكلفينية في القرن السابع عشر، وتبلورت في كتاب ثروة الأمم لآدم سميث (1776)، الذي لاحظ بأن السوق، التي يعمل فيها الملايين من البشر، وفي مهمات متخصصة، وبآلية ذاتية منظمة، توفر قوانين تجارية وثقة متبادلة، وعادة تطاع وتنفذ. ويؤدي هذا النظام الذاتي لنتائج مقبولة، وتديرها يد السوق الخفية، ويستطيع الأفراد من خلالها توفير حاجياتهم المادية، بالعمل لمصالحهم. فلا نحتاج لكي نوفر خدمة للآخرين أن نعرفهم، أو نحبهم، بل علينا العمل بجد واخلاص، لتوفير حاجياتنا المادية، من خلال نظام السوق. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان
التعليقات