من مفكرة سفير عربي في اليابان

خلال زيارة لمركز الأبحاث الطبية بجامعة توتوري اليابانية في العام الماضي، عرض علينا مدير المركز مورثة (كروموزومة) صناعية تحت المجهر، فأصبت بالدهشة وسألت نفسي: هل فعلا استطاع العلم أن يحل لغز النظام الجيني للحياة، ليصنع مادة الحمض الريبي النووي المنزوع الأكسيجين، ويكون الجينات، فيخلق مورثة صناعية. وقد رافقت دهشتي هذه أسئلة أخرى حيرت مخيلتي: متى ستستطيع تكنولوجية العلم الحديث صنع الحياة؟ وهل سيخالف ذلك القيم الأخلاقية، والتعاليم الدينية للبشر، أم سيبرز من خلالها عظمة الخالق، جل شأنه، في خلق العقل البشري؟ وهل ستكون تكنولوجية صناعة الحياة سلاح ذو حدين، كالتكنولوجية النووية، تخدم البشرية بمعالجة تحديات القرن الواحد والعشرين البيئية والغذائية والطبية، أو تدمرها بأسلحة بيولوجية، تنهي الحياة في قريتنا الكونية الصغيرة؟ ولم تمضي سنة واحدة حتى أعلن البروفيسور الأمريكي جريج فنتر عن اختراعه الجديد، خلق كائن صناعي في المختبر!! ويبقى السؤال: هل فعلا استطاع فريق البروفيسور فنتر خلق حياة صناعية؟ وما السر الذي نجحوا في اكتشافه؟ وما هي النتائج المستقبلية لهذا الاختراع؟
ليسمح لي عزيزي القارئ العزيز بمقدمة علمية معقدة، وسأحاول تبسيطها قدر الإمكان. تعتبر الذرة الوحدة المكونة لجزيئات المادة، بينما تشكل الخلية الوحدة الأساسية لتكوين الكائنات الحية. وأصغر خلية في الوجود هي الجرثومة، والتي تكون عادة على شكل كريات أو عصيات، يغلفها غشاء رقيق، وبداخلها مادة هلامية، وفي وسطها مادة وراثية تسيطر على وظائفها، وبمحيطها مصانع بيولوجية، تصنع مواد غذائية وكيماوية تحافظ على حياة الجرثومة وانقسامها. وتحتوي هذه المادة الوراثية على الملايين من الجينات، التي تقوم بإصدار الأوامر، من خلال نسخ شفرة جينة، ونقلها إلى مصانع الجرثومة لتركيب المواد التي تحتاجها لبقائها وتكاثرها. وتتكون الجينات من مادة كيماوية تسمى بالحمض الريبي النووي المنزوع الأكسجين (دي إن أيه)، وهي مادة بروتينية تشبه تركيب جزيئاتها الكيماوي سلم لولبي، مكون حواف مقبضه من مادة النيوكلوتيد، ودرجاته من مادتي الادنوزين والثايميين أو من الجوانين والسيستوزين. وتحمل تسلسل هذه الدرجات المعلومات الوراثية التي تصدرها المورثة لمصانع الجرثومة لصنع مواد كيماوية تحافظ على حياتها وتكاثرها. وتتميز جزيئة الحمض الريبي النووي المنزوع الأكسيجين بقدرتها على التناسخ لتكوين مادة كيماوية أخرى تعرف بالحمض الريبي النووي (أر إن إيه)، وهي مادة بروتيتية تنقل الأوامر من مورثات الخلية لمصانعها، لتقوم هذه المصانع البيولوجية بصنع المواد اللازمة لتغذية الخلية وتكاثرها وتنظيم وتنسيق عملها. وقد قام فريق البروفيسور فنتر بصنع مورثة، ونقلها لجسم جرثومة منزوع منها مادتها الوراثية، واستطاعت هذه المادة الوراثية الصناعية المحافظة على حياة الجرثومة وتكاثرها، وكجرثومة طبيعية.
وقد علقت المجلة الاقتصادية البريطانية، الإيكونوميست، على هذا الاختراع الجديد في افتتاحيتها في شهر مايو الماضي بالقول: quot;خلق الحياة امتياز إلهي، ففي عمق النفس البشرية، هناك إحساس بأن علوم الحياة مختلفة، عن ذرات المادة الفيزيائية المتحركة والمتفاعلة، بل هي محقونة بومضة إلهية، ماهية روح حياتية، وتكون صدمة، بأن مجرد نفس فانية تستطيع صنع حياة صناعية.quot; لقد كشف جريج فنتر مع زميله هاميلتون سميث النظام الجيني لجرثومة تسمى بالميكوبلاسما ميكويدس، في عام 1995، وقام بنسخ جميع جيناتها الذي يصل عددها لمليون وثمانين ألف، وصنع مورثة صناعية، تحتوي على جينات مصنوعة في المختبر من مادة الحمض الريبي النووي المنزوع الأوكسجين، واستطاع في شهر مايو الماضي صنع جرثومة بها نظام جيني صناعي، فخلق مخلوق بدون أنساب. وقد يصرخ منتقديه، بأنه صنع حمض ريبي نووي منزوع الأكسيجين، الوحش المرعب. فقد أصبحنا في عالم تصمم فيه الجرثومة، وربما النبتة أو الحيوان، بالكومبيوتر، لتنمو حسب الطلب، لتثبت هذه القدرة تفوق الإنسان على الطبيعة، ولتوعد بأدوية أفضل، وزرع أقل عطشا، ووقود أكثر اخضرار، وكيمياء متجددة. ويبقى السؤال: هل سيؤدي هذا الاختراع للتلاعب بالخلق؟ وهل سيجلب هذا الكبرياء العلمي انتقام إلهي؟ وما هو الرعب الذي سينجرف علينا من قارورة مختبرات هؤلاء العلماء؟
وقد تعطينا هذه الأسئلة فرصة لإعادة التفكير في اختراعاتنا البيولوجية، فعلوم الأحياء الجديدة يمكن أن تسبب أضرارا كثيرة بقدر ما تفيد، وسنحتاج للوقت لتصميم الحياة على الكومبيوتر، ولكننا بدأنا. فمنذ أن أكمل مشروع النظام الجيني البشري، انخفضت كلفة وسرعة تحليل الجينات، وبنيت قاعدة بيانات لصنع الحياة من اصغر فيروس وحتى أكبر شجرة، وتطورت صناعة الحمض الريبي النووي المنزوع الأكسيجين. فمن الممكن اليوم محاولة صنع الحياة، وكلما كانت المحاولات أكثر زادت الأفكار المبدعة، والمشكلة هي أن هذه المحاولات قد تترافق بأفكار خبيثة، وتختلف الاختراعات البيولوجية الخبيثة عن المتفجرات لأنها حينما تنطلق تتكاثر بسرعة ولوحدها. فما الذي سيحدث لو حاول متطرف صنع جرثومة خبيثة؟ وهنا سنحتاج للشفافية، لنتجنب منع الجيد للوقاية من السيئ، فلوقف الشيطان نحتاج لعددا كبيرا من الأبطال، لحل أي معضلة غير متوقعة. فقد يستطيع أحد الشياطين صنع جرثومة خبيثة، ولكن هناك أيضا الكثير من الأبطال لصنع التطعيم المضاد، كما سنحتاج لأنظمة رقابة صارمة لنستطيع السيطرة على صناعة الحياة.
وقد علق الكاتب جويني دير على هذا الاختراع الجديد، بصحيفة اليابان تايمز في شهر مايو الماضي فقال: quot;لقد حقق العلم خطوة رضيع وعملاق، كما قالها فنتر، بخلق أول خلية صناعية. خطوة عملاقة لأنها كانت من قبل فكرة نظرية، وهي أيضا خطوة رضيع، بسبب بعد هذه الخطوة عن هدف صنع وقود بيئي، ودواء متطور، وغذاء متقدم. كما أنها خطوة رضيع لأن الدكتور فنتر صنع مورثة جرثومية من قبل، وزرعها في نوع آخر من الجراثيم، بعد إزالة مورثتها الأصلية.quot; ولكن ما قام به هذه المرة صنع مورثة تشابه تماما مورثة الجرثومة الأصلية، ونزع المورثة الأصلية منها، وحقن المورثة المصنوعة مكانها، فعاشت الجرثومة وتكاثرت، وكان نسلها مطابق للجرثومة الأصلية. وقد أتهم البعض فنتر بهذه الخطوة، بأنه حاول أن يلعب دور الآلهة. ومن المهم أن نتفهم بأنه لم يصنع فنتر مورثة بجينات جديدة لم تكن موجودة من قبل، بل صنع نسخة مطابقة لمورثة جرثومة تسمى بالميكوبلاسما ميكويدس، والتي تسبب التهاب الثدي في الماعز. وتحتوي هذه المورثة البسيطة على مليون وثمانيين ألف حرف من الأبجدية الجينية، مرتبة بتسلسل دقيق، لكي تقوم بنفس وظائف الجرثومة الأصلية، وقد أخطأ فريق فنتر من قبل في حرف جيني من المليون والثمانيين ألف من الحروف الجينية لهذه المورثة، وحينما نقلت لجسم الجرثومة لم تعيش ولم تتكاثر. وبعد ثلاثة أشهر من المحاولات الجادة المعقدة، اكتشف فريقه الخطأ وصححوه، وحينما نقلت المورثة المعدلة، في جرثومة منزوعة مورثتها الأصلية، عاشت وتكاثرت هذه الجرثومة بليون مرة، وقد تطابقت جميع الجراثيم الجديدة وراثيا مع الجرثومة الأم.
ويبقى السؤال الحقيقي: ما الذي حققه الدكتور جريج فنتر؟ لقد قام بنسخ مورثة كاملة، فصنعها ونقلها لخلية أخرى. وهذه الخطوة بعيدة جدا، عن خطوة اختراع وتصنيع مورثة بجينات جديدة، لتقوم هذه المورثة بتوجيه مصانع الجرثومة لمعالجة تحديات القرن الواحد والعشرين، كتحويل غاز ثاني أكسيد الكربون لطاقة نظيفة، أو صنع كميات هائلة من التطعيم ضد مرض الأيدز، أو تحويل الفضلات لمواد غذائية مفيدة. فلو حدث خطأ ولو واحد في المليون، في صنع جينات هذه المورثة الجديدة، ستؤدي لموت الجرثومة وتوقف تكاثرها، ولا يعني ذلك بأنه لن يحقق العلم ذلك، ولكننا سنحتاج للوقت الكثير لصنع كائن حي بمورثة بجينات جديدة مخترعة. ومع ذلك هناك اليوم ثروة من آليات بسيطة ورخيصة للهندسة الوراثية تستطيع الاستفادة من الجراثيم لصنع مواد كيماوية جديدة. ولا شك سيأتي اليوم الذي سيتحقق فيه تكنولوجية صنع الحياة، لمعالجة التحديات البيئية والغذائية والعلاجية التي نواجهها. والجدير بالذكر بأن شركة اكسون موبيل للصناعات النفطية والطاقة المتجددة قد وفرت 600 مليون دولار لمركز أبحاث صنع الحياة لشركة الدكتور جريج فنتر، كما نشر فنتر في كتابه الجديد النظام الجيني لمورثاته الشخصية، والتي تقدر عددها بحوالي ستة مليار حرف جيني، ويعتقد فنتر بأننا حتى اليوم quot;لا نعرف شيئا عن العلوم البيولوجية، بل يحتاج عالمنا لعقود من الزمن لفهم أسراره.quot;
وقد ناقش الكاتب الأوربي، رون هوبر، أخلاقيات اختراع صناعة الحياة في الصحافة اليابانية فقال: quot;البوذية والكونفوشيوسية تنظر للروح بمنظار يختلف عن الديانات السماوية، لذلك أحببت أن أعرف كيف ينظر العلماء والإعلام الياباني لهذه القضية.quot; وقد علق مدير مركز العلوم الجينية باليابان، البروفيسور يوشيهيديه هايازيكاي على صناعة الحياة، فقال: quot;باستخدام تكنولوجية صنع الحياة سنستطيع معرفة أسرار عدد الجينات ونوعيتها وطريقة عملها، لكي نحترم الحياة، فنحافظ على كائناتها الحية.quot; كما علق بروفيسور جامعة كيوتو اليابانية، كازوتو كاتو، فقال: quot;وبينما نتحاور عن أنظمة الأبحاث في صناعة الحياة، لمنع التلاعب، من المهم أيضا أن نفكر ما الذي يؤدي لكي تكون الحياة حياة حقيقية، وعلينا أن نتجاوز التعريفات العلمية المعقدة، ونناقش صناعة الحياة على مستوى المجتمع بأكمله.quot; وباختصار شديد، يحاول العلماء تصنيع مادة quot;الدي إن أيةquot; ليكونوا منها جينات جديدة غير موجودة في الكائنات الأرضية، ليخلقوا مورثات (كروموزومات) صناعية، ويحقنوا هذه المورثات في جرثومة منزوع مادتها الوراثية، لتقوم مصانع هذه الجرثومة بصناعة ما يحتاجه الإنسان لمعالجة تحديات القرن الواحد والعشرين، من دواء وطاقة وغداء ومواد صناعية أخرى. ويبقى السؤال: متى سيبدأ علماء العرب صناعة الحياة، ليعالجوا تحدياتهم البيئية والعلاجية والغذائية، أم سيعرقل ذلك التطرف الفكري، وتهمة عنف الإرهاب؟ وهل تشبع العرب من أحلام انفعالات التطرف الفكري، وحان وقت برغماتية العلم، للعمل بمشاركة غربية وشرقية، لمعالجة تحديات القرن الواحد والعشرين المعقدة؟ ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان