من مفكرة سفير عربي في اليابان
يناقش البروفيسور جفري واورو، في كتابه، الوعث، جذور الورطة الأمريكية في الشرق الأوسط، فيعرض الواقع الفلسطيني في القرن التاسع عشر، كدولة عربية، ومنذ قرون، مع وجود سيل هزيل من اليهود الأوربيين، مختلطين بعدة آلاف من اليهود المطرودين من اسبانيا وشمال أفريقيا في القرن الخامس عشر. وحينما زار بعض الصهاينة فلسطين، في عام 1891، دهشوا من مقولة هرزل: quot;أرض بلا شعب لشعب بلا أرض،quot; وصرخوا: quot;لكن!! هنا عرب في فلسطين!quot; كما علق ماكس نوردو: quot;لم أعرف!! بإننا نرتكب الظلم!quot;
وفي عام 1903، اقترح جوزيف شامبرلين على هرزل إنشاء دولة لليهود في أوغندا. وحينما اكتشفت بريطانيا، فجأة، أهمية فلسطين في منع هجوم الأتراك على قناة السويس، قرر رئيس وزراء بريطانيا، ديفيد لويد جورج احتلالها. غضب الرئيس ألأمريكي ويلسون من المؤامرات البريطانية، فأرسل بعثة في عام 1919 إلى فلسطين، لتكتشف رفض العرب للاحتلال الأوربي واليهود، ورغبتهم لانتداب أمريكي. فقلقت بريطانيا من تدخلات ويلسون، واستغلت في عام 1920 فكرة وطن لليهود في فلسطين، كإستراتيجية تنقذها من الحكومة الأمريكية.
وفي عام 1917، عرف وزير الخارجية الألماني، ريتشارد كوهلمان، عن محاولات بلفور للحصول على دعم يهود ألمانيا وشرق أوروبا، فدعا الحاكم التركي في فلسطين للاجتماع مع زعماء الصهيونية الألمان في برلين، ووعدهم بوطن لليهود في فلسطين، مقابل استمرار استثمارهم في سندات الحرب الألمانية. واستمرت بريطانيا في محاولاتها للحصول على الدعم الأمريكي، فاستخدمت قاضي المحكمة العليا الأمريكية، لويس برانديس، ورئيس اللجنة الأمريكية التنفيذية للشؤون الصهيونية، كوسيط، لاحتلال فلسطين، وإنشاء وطن لليهود فيها.
رجحت الحسابات الانتخابية الأمريكية دفة الصهاينة، فقد كان هناك مائة ألف مهاجر يهودي سنويا للولايات المتحدة، بين عام 1900 وحتى عام 1914، واستوطن معظمهم في الساحل الشرقي، فولاية نيويورك وحدها استوعبت 70% منهم، وتوجه الباقي لمدن شرقية مهمة سياسيا كشيكاغو، وكليفلاند، وسنسناتي. وحينما أعلنت بريطانيا عن وعد بلفور، تحول الصهاينة لقوة سياسية مهمة في الولايات المتحدة، وانتشرت المظاهرات الصهيونية في مختلفة أرجاء أمريكا، وزادت ضغوط برانديس وبلفور على الحكومة الأمريكية، فوافق الرئيس ويلسون على إعلان بلفور في عام 1917.
طالبت فرنسا في عام 1920 بجزء من الأراضي الخصبة الفلسطينية، التي كانت تفكر بريطانيا ضمها لدولة اليهود، فتناست بريطانيا وعود بلفور مؤقتا، لتحافظ على مصالحها مع فرنسا. واستمرت الهجرة اليهودية، وترافقت بصراعات دموية لم يستطع الجيش البريطاني السيطرة عليها، ولكبح جماح الصهاينة، أعلن رئيس وزراء بريطانيا، ونستن تشرشل، في عام 1922، عن وثيقة رفضت فرض المواطنة اليهودية على قاطني فلسطين.
تفهم الرئيس فرانكلن روزفلت أهمية الأصوات الانتخابية اليهودية، بعد أن لاحظ زيادة يهود أمريكا من 250 ألف في عام 1882، إلى 4.8 مليون في عام 1948، فدعم الصهاينة، وهاجم القرار البريطاني بخفض هجرة اليهود إلى فلسطين في عام 1939، واستسلم لحسابات انتخابات الرئاسة لعامي 1940 و1944، التي عبر عنها القاضي الصهيوني، برنارد روزنبلات، بقوله: quot;نيويورك مؤهلة إلى 47 صوت انتخابي، بينما نحتاج إلى 266 صوت لانتخاب الرئيس. وسواء ذهبت أصوات نيويورك لأحد الحزبين أو الآخر، ستغير المعادلة 94 صوت. وهنا يتوضح سبب تعلق التنافس الانتخابي على الصراع السياسي في نيويورك، وبدرجة أقل في الولايات الكبيرة: بنسلفينيا 36 صوت، وايلينويس 27 صوت، واوهايو 23 صوت. فتكون عادة في هذه الولايات الأصوات غير مؤكدة، فقد تميل لحزب ضد الآخر باختلاف بسيط لا يزيد عن قلة من آلاف الأصوات. وهناك 90% من اليهود، يقطنون في ولايات غير مؤكدة نتائجها، ويمكن أن تغير أصواتهم دفتها، وحسب مصالحهم.quot;
وفي عام 1937، أوصى اللورد بيل البريطاني، بتقسيم فلسطين لدولتين يهودية وفلسطينية، فعارض الصهاينة، وسافر الحاخام ستيفن وايز، رئيس المنظمة الصهيونية الأمريكية إلى الولايات المتحدة، ليقنع الأمريكيين بأن: quot;الدولة اليهودية في فلسطين هي أحد معطيات الحضارة الغربية.quot; واستسلم الديمقراطيون والجمهوريون لإستراتيجية دعم دولة يهودية في فلسطين، وعلقت قيادات الحزبين بأنه: quot;يجب ألا تعيق قوة السياسة موطن قومي لليهود في فلسطين.quot; كما ضغط الحاخام ستيفن وايز على أحد عشر نائبا، لكتابة رسالة لوزير الخارجية الأمريكي، كودل هول، يقولون فيها: quot;نحن، كأمريكيين، قلقون بعمق من تدمير ما حققه اليهود، وندعم جهود الشعب اليهودي، لإنشاء مركز للأمن والأمان في فلسطين.quot;
ولم يتردد الرئيس ترومان أيضا من دعم الصهيونية، بعد أن لاحظ زيادة اليهود الأمريكيين لخمسة ملايين، ومعظمهم يصوتون في الانتخابات، فطالب بفتح أبواب الهجرة اليهودية لفلسطين، ووافق في عام 1946 على قبول 39 ألف يهودي سنويا إلى الولايات المتحدة. وبعد أن رفض المؤتمر الصهيوني في عام 1946 التقسيم، وطالب بفتح الطريق لفلسطين لتصبح كومونوليث يهودي منضم لبنية العالم الديمقراطي الجديد، قررت بريطانيا تحويل القضية للأمم المتحدة. اكتشف ترومان مدى صعوبة الموافقة على المشروع الصهيوني، ولكنه كان في حاجة لأصوات اليهود، فأصر في عام 1948 على دعم التقسيم في الأمم المتحدة، بالرغم من معارضة جميع مسئولي وزارة الخارجية الأمريكية، ليحقق الفوز في الانتخابات الرئاسية، بعد أن كانت فرصه ضئيلة. وقد علق السفير الأمريكي وليم ادي على ذلك بقوله: quot;سياسة ترومان المؤيدة للصهاينة، أدت لتلاشي هيبة الولايات المتحدة بين العرب.quot;
ولم يكتف الصهاينة بدعم ترومان، بل طالبوه بالضغط على بعض ممثلي الدول في الأمم المتحدة، للموافقة على التقسيم. واعترف ترومان بإسرائيل يوم الإعلان عنها في عام 1948، فغضب وزير خارجيته، جورج مارشال، فقال: quot;الكرامة العظيمة لمركز الرئاسة قد تنخفض بخطورة، حينما يخضع ترومان معضلة دولية، لجشع الحصول على قلة من الأصوات الانتخابية. وسيكون هذا القرار سم سياسي، مضاد للمصالح الإستراتيجية القومية الأمريكية، وسيؤدي لاندلاع حروب في الشرق الأوسط.quot; كما علق دين رسك، المدير الأمريكي لشؤون الأمم المتحدة، بالقول: quot;ومن وجهة علاقاتنا مع الشرق الأوسط، ومصالحنا الأمنية الواسعة في المنطقة، دفعنا القوات الأمريكية في حفرة ضد حكومات العالم العربي، وستكون، تقريبا، خطوة قاتلة.quot; وبعد الإعلان عن دولة إسرائيل، استمرت العصابات الصهيونية في تطهير المدن والقرى العربية من الفلسطينيين، فقام دين رسك بجهود مهمة في الأمم المتحدة لحصول الأردن على مخرج للبحر من يافا، والسعودية على ميناء عقبة، وسوريا على بعض المقاطعات الشمالية، وترك لليهود دولة على الشاطئ من تل أبيب وحتى حيفا. وأنهى الكاتب حواره بالقول: quot;حاولا دين رسك، وجورج مارشال، أن يقدما لترومان دولة يهودية، بدون أن يشعلوا العالم العربي بأكمله، ويبدوا بأنهم لم يوفقوا.quot;
ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: كيف ستتخلص الولايات المتحدة من ورطتها، التي كلفتها حروب الشرق الأوسط المدمرة، وتبعتها ضرب البرجين، والحرب على الإرهاب، بغزو العراق وأفغانستان؟ وكيف سيساعدها العرب، في خلق سلام عادل وشامل في الشرق الأوسط، ليتفرغوا لتنميتهم الاقتصادية، والاجتماعية؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان
التعليقات