من مفكرة سفير عربي في اليابان
تذمر وزير الخارجية البريطاني، إدوارد جري، في القرن التاسع عشر فقال: quot;القضية العربية هي وعث مألوف.quot; والوعث هو رمل لين تغيب فيه الأجسام، ويحس الأمريكيون ألم الوزير البريطاني في القرن الحدي والعشرين، بعد أن ارتعبوا من صدمة الحادي عشر من سبتمبر، وبدءوا يبحثون عن كتاب يفسر سبب سوء السمعة الأمريكية في الشرق الأوسط، بعد أن كانت القوة العظمى الوحيدة المقبولة في المنطقة. فحينما سؤل جلالة الملك عبد العزيز آل سعود، في عام 1933، عن سبب اختيار بلاده للأمريكيين لتطوير حقول النفط، أجاب جلالته: quot;لأن الأمريكيون يعملون بجد، ويخرجون النفط، بدون تضيع الوقت في متاهات السياسة.quot; فكيف انتقلت أمريكا من تلك المرحلة إلى ما نحن فيه اليوم، حيث تستنكر دول الشرق الأوسط التدخلات الأمريكية في سياساتها وثقافاتها؟ لقد استغربت حينما اكتشفت بأنه ليس هناك كتاب يبحث عن تغير المسار الأمريكي، من إعلان بلفور، وحتى التغيرات الفظة الشاملة التي اقترحها الرئيس بوش الابن، والتي أدت لحرب أفغانستان والعراق.quot; بهذه العبرات بدأ البروفيسور الأمريكي، جوفري واورو، كتابه الجديد، الوعث. وقد أنتشر هذا الكتاب في الفترة التي اختارت مجلة الفوربس الأمريكية العريقة، خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، كثالث شخصيات العالم تأثيرا ونفوذا، وفي الفترة التي يجاهد فيها جلالته بحكمته ونفوذه الدولي، ومع أشقاءه العرب، والمجموعة الأوربية، والولايات المتحدة، والأمم المتحدة، لتحقيق سلام عادل وشامل ودائم في الشرق الأوسط.
يبدأ الكاتب مناقشة التدخلات الأمريكية في الشرق الأوسط في عام 1915، والصدمة السياسية والثقافية والعسكرية المرافقة لها، وخلخلة العولمة الناتجة من صدمتها، وليطرح الأسئلة التالية: كيف كانت القوى الأوروبية مسئولة عن المظاهر السلبية في الشرق الأوسط؟ وكيف قيدت السياسات الأمريكية بالمؤامرات البريطانية والفرنسية والألمانية والايطالية؟ وكيف ضرت التصرفات السوفيتية، العلاقات الأمريكية الشرق أوسطية خلال الحرب الباردة؟ وكيف تطورت العلاقات الأمريكية الإسرائيلية؟ وعلى أي أساس تجاوزت الولايات المتحدة العرب، واعترفت بإسرائيل في عام 1948؟ وهل دفعت هذه المقامرة ثمنها، أم أضعفتها كقوة عالمية؟ وكيف تفاعلت أمم الشرق الأوسط ومجموعاتها المناضلة مع قرارنا هذا؟ وهل تذمر شعوب المنطقة ضد الولايات المتحدة وإسرائيل والغرب شرعية؟ وهل هناك حل؟
يبدأ الكاتب الحوار برسالة لوزير الخارجية البريطاني، آرثر بلفور، في عام 1917 للملياردير البريطاني الصهيوني وللتر روتشيلد يقول فيها: quot;تنظر حكومة جلالة ملكة بريطانيا بإيجابية، لتأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبدل جهود خيرة لتسهيل إنجاز هذا الهدف.quot; ويعتقد الكاتب بأن بلفور ورط الغرب بقرار غير مدروس، وعرض مقولتين لبلفور تؤكد ذلك، ففي المقولة الأولى يصف فيها بلفورد نفسه فيقول: quot;أتذكر كل حوار، وأكرر جميع وجهات النظر، بل أتحدث بطلاقة في الموضوع، ولكن الفصل والقرار هي صفحة فارغة في ذهني.quot; بينما يتحدث بلفور في المقولة الثانية عن نظرته الضيقة للمصالح البريطانية في عام 1918 فيقول: quot;الشيء الوحيد الذي يثير اهتمامي في القوقاز، هي سكة الحديد التي تنقل النفط من باكو إلى باتومي، أما مواطنو المنطقة، فليقطع بعضهم البعض أربا.quot; وقد أكد وزير الخارجية البريطاني، جورج كروزون، ضيق أفق بلفور في مقولته: quot;فتنة أسلوبه عمت الجميع، ماعدا الذين يعرفون جهله المؤسف، ولامبالاته، ورعونة أساليبه. فلم يدرس قط ملفاته، ولم يعرف قط الحقائق، ولم ينظر قط للمستقبل.quot; وحينما سؤال رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد لويد جورج، عن موقع بلفور في التاريخ قال: quot;سيكون عطر في منديل الجيب فقط.quot;
وقد علق الكاتب على إعلان بلفور فقال: quot;المكان الوحيد الذي لم يتبخر فيه تأثير بلفور هو الشرق الأوسط. فحينما أنتشر خبر إعلان بلفور عن وطن قومي لليهود في فلسطين، في أرجاء أوربا، كان من الواضح بأن وزير الخارجية البريطاني قد أرهق الإمبراطورية البريطانية بمسئولية خطيرة.quot; وقد تسأل وزير الخارجية البريطاني الذي خلف بلفور، جورج كروزون، بعد الإعلان عن وعد بلفور: quot;ماذا سيحدث للفلسطينيين؟ فهم عشرة أضعاف اليهود، وفي صراع مع المستوطنين الصهاينة خلال العقدين الماضيين، وسيؤدي إعلان بلفور لتزايد هذا الصراع.quot; فلقد اعتقد بلفور، لقلة اضطلاعه، quot;بأنه ليس هناك عرب في فلسطين، بل هناك قلة من قبائل البدو، وكثرة من الأتراك الذين تحالفوا في عام 1917 مع الألمان، أعداء بريطانيا، ولذلك فهي لعبة عادلة، استبدالهم بيهود أوروبا.quot; تصور عزيزي القارئ وزير خارجية الإمبراطورية البريطانية العظمى، وفي بدايات القرن العشرين، بهذا المستوى من الذكاء الذهني، والتواصل الإنساني، واللباقة الدبلوماسية، والإدراك السياسي. وقد لعب دورا هاما في خلق صراع قضى على الامبريالية الأوربية، وأضعف الولايات المتحدة، فورطها في صراع لا يعرف أحد كيف ستخرج منه.
وتبدأ جذور فكرة بلفور، بقصة سفر الصحفي الهنغاري، ثيودور هرزل، في عام 1893 إلى باريس، لتغطية محاكمة النقيب اليهودي الفرنسي، الفريد دريفس، الذي كان هدف حملة الجيش الفرنسي ضد السامية، للإساءة لسمعة حكومة الجمهوريين. فقد حوكم دريفس بالسجن مدى الحياة في جزيرة الشيطان، وأعتبره الشعب الفرنسي quot;يهودي خائن ونتن،quot; وبالرغم من ثبوت براءته، بقى في السجن خمس سنوات. وقد راقب هرزل، الذي درس القانون في فينا، إجراءات ظلم المحاكمة برعب، فعلق يقول: quot;معظم الشعب الفرنسي يريد لعنة هذا اليهودي ظلما، ومن خلال هذا اليهودي، يريدون لعنة جميع اليهود. ويحدث كل ذلك في الجمهورية الفرنسية المعاصرة والمتحضرة، وبعد قرون من إعلان حقوق الإنسان. فمع أن المجازر ضد اليهود منتظمة في روسيا المتخلفة، والنمسا وهنجاريا، ولكني تصورت بأن المستوى أكثر سموا في فرنسا.quot; ونشر هرزل بعد عامين من هذه المحاكمة وثيقة الدولة اليهودية، لتصبح أساسا لفكرة إنشاء دولة إسرائيل. والجدير بالذكر بأن نابليون بونابورت دعا يهود فرنسا، خلال حملته على مصر وسوريا في عام 1798، لبناء موطن لهم في فلسطين. كما ألح رئيس وزراء ووزير خارجية بريطانيا، اللورد بالمرستون، في عام 1830، quot;لتأسيس دولة يهودية، تدعم وتثري الإمبراطورية العثمانية،quot; بينما قدم رئيس وزراء بريطانيا بنجامين ديزرائيلي في عام 1878، وثيقة للبرلمان في برلين بعنوان: السؤال اليهودي ضمن السؤال الشرقي، يحدد فيها مستقبل الإمبراطورية العثمانية بعد انهيارها، وذلك quot;باستئصال فلسطين، واستيطان يهود أوروبا فيها، والتي ستتطور لدولة غنية حليفة للشعب البريطاني.quot;
وقد طور هرزل شعارات اليهودية التقليدية، لشعارات شعبية حديثة مرتبطة بالاشتراكية ودولة الأمة، ودعا العائلات اليهودية للتبرع، وحذرهم من انهيار ثرائهم بإرهاب متطرفي اليهود، إن لم يفتحوا محافظهم. ووعد بتحويل فلسطين بالاستيطان اليهودي الأوربي، quot;من منطقة فقيرة موبوءة بالملاريا، إلى أرض الإنجيل للحليب والعسل.quot; وقد تخوف أثرياء يهود أوروبا من أفكار هرزل الاشتراكية، ورفضوا توقعاته بأن في يوم ما ستلغي الأنظمة الأوربية المضادة للسامية مواطنتهم. كما تساءل المفكرون اليهود: quot;لماذا يرغمنا هرزل على الذهاب لفلسطين، فلغتنا ألمانية، وليست العبرية، ونمسا الجميلة بلادنا؟ فلماذا يدعم حوار أعدائنا، ويحاول فصلنا عن بلادنا، بينما تقربنا الأيام يوما بعد يوم من العالم الألماني؟quot; وقد عانى هرزل من الإحباط لفشل محاولاته، وتوفى بالجلطة القلبية في عام 1904، وهو في الرابعة والأربعين من عمره. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان