من مفكرة سفير عربي في اليابان

الجزء الأول

عرضنا في الجزء الأول من المقال مثلين لتأثير التربية، طفل أهملته أمه ودولته، فعاش بين الكلاب، وأصبح يفكر، ويمشي، ويتحدث، ويتصرف، مثل الكلب، بينما عاش طفل أخر بين أحضان أمه، وتربي بين دفئ العائلة، ومسئولية الدولة، فنمى عقله وتطورت شخصيته، ليجد نقود ضائعة في الشارع، ويركض لكابينة الشرطة، لكي يرجع الشرطي النقود لأصاحبها. والسؤال لعزيزي القارئ: متى يكمل نمو العقل البشري تطوره؟ وما أهمية البيئة المحيطة لنموه؟ وهل لهذه البيئة تأثير على مورثات الخلايا العصبية؟ وما تأثير بيئة التطرف والعنف، والصراعات الطائفية والمذهبية، على نمو عقول هؤلاء الأطفال؟ وهل سيؤدي ذلك، مع الزمن، لتغير عقلية الأمة، وسلوكها، وذكائها، وتناغم عملها، وإنتاجيتها، وأمنها، وسلامها؟
يناقش البروفيسور الأمريكي، بروس بري، في كتابه الجديد، ولدنا للحب، أهمية رعاية الأم وحنانها، وتربية الحضانة والمدرسة، والتناغم المجتمعي، على نمو العقل وتطوره، ليؤدي لزيادة عدد الخلايا العصبية، وكبر حجمها، وكفاءة وظائفها، ودقة تواصلها مع التريليونات من الشبكات العصبية، ولزيادة هرمونات الحب فيه. كما أكد على أهمية خلايا المرآة العصبية، في مراقبة عقول الآخرين، والإحساس بسعادتهم وآلامهم، والتي تنشط حينما نقوم بفعل ما، والأهم، بأنها تنشط أيضا، حينما يقوم شخص آخر بنفس الفعل. فحينما نرى شخص يضحك، تتنبه خلايا المرآة العصبية، فنشعر كأننا نضحك، وبدون أن نحرك عضلات الوجه. وتؤكد الفحوصات المقطعية للمخ، بأنه حينما يتألم أو يضحك الآخرون، تتنبه في عقولنا نفس خلايا المخ، التي تتنبه حينما نحس بالألم أو بالسعادة بأنفسنا. فحينما نرى عصاه تنزل على يد شخص ما، نحس كأنها ستنزل على أيدينا، وهذا الإحساس هو أساس إحساسات الحنان، والعطف، والرحمة، والشفقة، والتواصل، وهي أيضا أساس الأخلاقيات الدينية، التي تؤكد بأن علينا التعامل مع الآخرين كما نريدهم أن يعاملونا. فتؤكد المسيحية بأن علينا حب جيراننا كأنفسنا، و تنصح الكنفوشيوسية بأن نعتبر كسب فائدة جارنا، ككسب لفائدتنا، و يؤكد الإسلام بأنه لن نؤمن حتى نتمنى لإخواننا ما نتمناه لأنفسنا، وترشد اليهودية بأنه ما هو مكروه لنا، لا نقوم به ضد إنسان غيرنا. فقانون هذه الأديان هو قانون فطري عالمي، وتعتمد عليه أخلاقيات السلوك في التعاطف البشري، وهي قدرتنا على رؤية العالم من وجهة نظر الآخرين. ويبدأ هذا السلوك التعاطفي الأخلاقي من خلايا المرآة العصبية، فكأننا خلقنا ببرنامج تشغيل ذاتي يحاكي خبرات الآخرين، ويحتاج لسحر التربية لنموه وصقل مهاراته. وبدل أن نفكر بوعي عن كيف نحس بما يفعله الآخرون، نقوم بذلك بدون أن نعي أو نفكر، وبصورة عفوية، فعقولنا ترسم خارطة خبرات الآخرين، على أجسامنا، وأطرافنا، ووجوهنا.
ويبدأ تطور هذا الإحساس التعاطفي، بشكل فطري، ومنذ الولادة، فلا يعرف الطفل الرضيع أين ينتهي جسمه، وأين يبدأ جسم الرضيع الآخر، بل يحس بأن هناك تواصل بين الجسمين. فحينما يبكي زميله الرضيع، يحس هو بالقلق والأسى، فلا يستطيع أن يميز بين ألم الطفل الآخر، وألم جسمه، لأنه لا يعرف بأن الطفل الآخر له جسم وعقل، يختلف عن جسمه وعقله. وفي الشهر السادس، يبدأ الطفل السيطرة على جسمه، وعلى تجاوبه مع البيئة المحيطة به، فيميز بين جسمه وبين جسم الطفل الآخر، فلا يبكي بصورة تلقائية، عندما يبكي الطفل الآخر، ولكن يبقى منزعج لألم الآخرين، ولكن يبدأ التعرف على كيفية التعامل مع هذا الألم. ويتعلم الطفل السيطرة على النفس، مع نمو المخ، ليسيطر الوعي على صياحه، ومع الوقت يقرر متى عليه أن يبكي، ليعبر عن ألم بداخله، ويلفت نظر الآخرين لضيقه، ومتى عليه أن يتجنب البكاء. ومع تطور نمو الطفل، يبدأ تمييز الشخصيات الأخرى، وتفريقها عن شخصيته، وتنمو قدراته في المساعدة لتخفيف حزن الآخرين. فيبدأ الطفل، بعد السنة الأولى، تصرفات عفوية لمساعدة الآخرين، فحينما يلاحظ شخص يعاني في محاولة عمل شيء ما، وهو يعرفه، يحاول أن يساعده. ويحاكي الطفل ضيق والدته، فمثلا، حينما يسقط على الأرض، ينظر لوجه أمه، قبل أن يقرر البكاء، فترشد المحاكاة نمو التعاطف والاختيار والوعي الشخصي، وتخلق مهارة طبيعة لفهم الآخرين ورعايتهم، والتعاطف معهم.
وفي هذه المرحلة الطبيعية من نمو الطفل، تتواصل الأم مع طفلها، ليجمعهما إحساس المتعة والسعادة. فحينما تلاعب الأم طفلها أو ترضعه، ترجع لذكريات طفولتها، لتتذكر سعادة التصاقها بوالدتها، فإذا كانت تلك ذكريات سعيدة، تشبك خلايا العصبية في المخ تلك الذكريات، لتنمو خلايا التعاطف العصبية وشبكاتها، ولتعمل جينات مورثاتها بكفاءة متقنة، ولتفرز هرمونات الحب، التي تشبه مادة المورفين. فهرمونات الحب هي مواد كيماوية مرتبطة بالمتعة والسعادة، مثل مادة الدوبامين، التي تبعث الإحساس بالرغبة والنشوة بانجذاب الأم لطفلها، ومادة الاندورفين، التي تبعث الإحساس بالمتعة والقناعة والراحة بشراكة الأم لطفلها، ومادة الاوكسيتوسين، التي تزيد من متعة تواصل الأم مع طفلها. فهذه الهرمونات تنمي في الأم والطفل عواطف الحنان والحب والراحة، وتؤدي لخلق رباط طبيعي، يبعث المتعة والسعادة والطمأنينة، للطفل والأم.
وقد قام الباحثون ببحث مقارن بين مجموعتين من الأطفال الرضع: مجموعة يتيمة، ربيت في حضانة الأيتام، وتحت رعاية طبية وغذائية صارمة، ومجموعة ربيت في أحضان الأمهات المسجونات، في حضانة السجن. فوجد الباحثون بأن الأطفال الرضع الأيتام، كانوا معرضون للأمراض بكثرة، وقل وزنهم، وتخلف نموهم الذهني والعاطفي والجسمي، وارتفعت نسبة الوفاة بينهم إلى 37%، كما انخفضت نسب هرمونات الحب في خلاياهم العصبية، وتغيرت جينات مورثاتها. بينما كان النمو الجسمي والذهني والعاطفي، ونسب هرمونات الحب، وجينات المورثات، طبيعية في الأطفال الرضع، للأمهات المسجونات، بتوفر حب الأم وحنانها، quot;فقد خلق البشر لسحر الحب، في أي عمر، وزمان، ومكان.quot;
وحينما تسؤ بيئة التربية في البيت والمدرسة والمجتمع، تضطرب عملية نمو الخلايا العصبية، ومرآتها، وجينات مورثاتها، وإفراز هرمونات الحب فيها، ويؤدي ذلك لنشوء عقل مضطرب، مشوش، منفعل، غاضب، وثائر، لتنشغل الدولة في صرف ميزانيتها أمنها، لمعالجة هذه الثورة والغضب، بدل صرفها على نشأ عقول، لتنمي المجتمع واقتصاده، وتحمي أمنه واستقراره. فهل ستعي المجتمعات العربية لسحر التربية في نشوء العقل وارتقاءه، كما وعت اليابان فحققت معجزتها الاقتصادية والتكنولوجية، ووفرت الأمن والاستقرار لبلدها وشعبها؟ أليس مثقال وقاية في الأمن، خير من قنطار علاج؟ ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان