من مفكرة سفير عربي في اليابان
فاز بجائزة كيوتو اليابانية لعام 2010، ثلاثة من خيرة العقول المبدعة في العالم، فحصل على جائزة العلوم الأساسية، عالم الرياضيات الأمريكي المجري، البروفيسور لازلو لوفاز، وفاز بجائزة التطور التكنولوجي، البروفيسور الياباني، شنيا ياماناكا، بينما فاز بجائزة الفنون والفلسفة، الرسام الجنوب الأفريقي، وليام كنتريدج. وتمت احتفالية هذه الجائزة خلال ثلاثة أيام، وبحضور ثلاثة آلاف وخمسمائة مدعو، حيث كرم الفائزين بالجائزة في اليوم الأول، وألقى سفراء الدول الفائزة خطاب رؤساءهم، وانتهت بحفلة عشاء، حضرتها الأميرة اليابانية تكمادو، الرئيسة الفخرية لمؤسسة هذه الجائزة. وشرح في اليوم الثاني الفائزون أبحاثهم وخبراتهم الحياتية للشباب الياباني، بينما خصص اليوم الثالث لورش عمل متخصصة، ناقش فيها العلماء التطبيقات المستقبلية لهذه الاكتشافات.
وقد لفت نظر العالم هذا العام، أبحاث البروفيسور الياباني، شينا ياماناكا، المتعلقة بتغير الخلايا الكهلة إلى خلايا جنينية جذعية، والمتوقع أن يفوز بجائزة نوبل لتطبيقاتها المستقبلية. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل ممكن أن يحول العلم الشيخ المسن إلى جنين؟ أم هل ممكن تحويل خلية مسنة متميزة إلى خلية جنينية؟ أم هل ممكن أخد خلية من سطح الجلد وتحويلها إلى خلية جنينية، ثم تغيرها إلى خلية عصبية لمعالجة الشلل، أو خلية كبدية لمعالجة الهبوط الكبدي، أو خلية عضلة القلب لمعالجة تلف الجلطة القلبية، أو خلية تفرز الإنسولين لمعالجة مرض السكر؟ وما هو سر اكتشاف البروفيسور ياماناكا؟
ليسمح لي القارئ العزيز بمقدمة عن مؤسس جائزة كيوتو، السيد كوزو اناموري، الذي درس العلوم الكيماوية بجامعة كاجوشيما اليابانية، وتخرج منها في عام 1955، ليؤسس وهو في السابعة والعشرين شركة كيوسيرا (1959)، لتصبح اليوم إمبراطورية تكنولوجية عالمية، توظف 66 ألف شخص، وتقدر مبيعاتها السنوية بمليارات الدولارات. ويشرح اناموري أسباب تأسيس هذه الجائزة بقوله: quot;السبب الأول لتأسيس هذه الجائزة هو واجبنا كبشر لخدمة الإنسانية، فأمنيتي أن أرد الجميل لمجتمع العولمة، الذي ساندني ورعاني، والسبب الثاني، هو حبي لرد الاعتبار للباحثين في مختبراتهم، وعلى الأقل، علي أن أكرم الذين شاركوا في خدمة البشرية، باكتشافاتهم السامية في العلوم والحضارة والروحانية، لكي أشجعهم مع باقي العلماء، ليستمروا في إبداعاتهم، ولنطمئن على مستقبل البشرية بتوازن التطور العلمي مع العمق الروحاني.quot;
وقد لفت نظري التواضع الذي برز في محاضرة البروفيسور يماناكا، حينما شرح في خطاب قبوله للجائزة تجربته الحياتية وإنجازه العلمي فقال: ولدت في مدينة أوساكا، في عام 1962، وكان والدي يملك مصنعا لأجهزة الخياطة، وصارحني بعد تخرجي من الثانوية بأني لن أصلح لإدارة مصنعه، فدرست الطب، وتخصصت في جراحة العظام، وبعد أن قضيت عامين في التدريب، غيرت حادثة صغيرة مجرى حياتي. فقد طلب مني صديق أن أجري له عملية صغيرة، لا تستغرق عادة أكثر من ربع ساعة، ولسوء حظي، أخذت مني أكثر من ساعة كاملة، وبعد أن اعتذرت لصديقي، قررت أن أترك عالم الطب البشري، وانتقلت لأبحاث التجارب الطبية في الحيوانات. وبعد أن أنهيت الدكتوراه في العلوم الصيدلانية، تقدمت بعدة طلبات للدراسة بمراكز للأبحاث في الولايات المتحدة، ومع الأسف رفضت جميع طلباتي، وبعد أن فقدت الأمل في قبولي، أتصل بي بروفيسور من مركز الأبحاث الأمريكي، جلادستون، وأجرى معي مقابلة تلفونية، وقرر ضمي لفريق أبحاثه.
ويستطرد البروفيسور ياماناكا في شرح تجربته الحياتية للشباب الياباني بالقول: سافرت للولايات المتحدة، وبعد أن أنهيت أربع سنوات في الأبحاث العلمية على الخلايا الجذعية، رجعت للعمل بجامعة نارا اليابانية، فأصبت بما يسمى quot;بإحباط ما بعد أمريكا.quot; فقد كنت وحيدا في قسمي، وبإمكانيات بحثية متواضعة للخلايا الجذعية، فتذكرت الحكمة الأمريكية التي رجعت بها لليابان: quot;العمل الشاق والرؤية الحالمة.quot; فقررت منذ ذلك اليوم، أن أعمل بجهد شاق، لتحقيق حلمي، بتحويل خلايا الجلد إلى خلايا جنينية جذعية. وكان أملي أن أحل مشكلة الحوارات الأخلاقية حول خلايا الجذعية المأخوذة من الأجنة، والتي عطلت تطورها، لأفتح المجال لتطوير تكنولوجية زراعة الخلايا لعلاج الأمراض المستعصية. فتقدمت لدعم مالي لأبحاثي من جائزة كيوتو، وبعد الموافقة استطعت أن أعين ثلاثة باحثين معي في القسم. وقد تحول هذا القسم الصغير خلال خمسة أعوام إلى مركز كبير لأبحاث الخلايا الجذعية اليابانية، وبه اليوم مائتي باحث. ومع أن هناك آلاف العلماء يعملون ليل نهار، لحل لغز الخلايا الجذعية، ولكن كان الحظ من نصيبي، لكي أحصل على هذه الجائزة، وتبقى الحقيقة، بأن هذه الجائزة هي حق لجميع الباحثين الذين قضوا حياتهم في كشف أسرار هذه الخلايا.
لقد كان حلم البروفيسور يماناكا أن يحول خلايا الجلد المسنة إلى خلايا جنينية، وكأنه يحاول أن يرجع الشيخ المسن إلى جنين، فهل تمكن في تحقيق حلمه؟ للإجابة على هذا السؤال نحتاج لمقدمة علمية مبسطة. فمن المعروف بأن الجنين البشري يتكون من اندماج نصف خلية ذكرية تسمى بالحيوان المنوي، والتي تحتوي على 22 مورثة جسمية، ومورثة Y الذكرية أو مورثة X الأنثوية، مع نصف خلية مؤنثة تسمى بالبويضة، والتي تحتوي على 22 مورثة جسمية، ومورثة X الأنثوية، ليتكون من هذا الاندماج خلية جنينية كاملة. وتتميز هذه الخلية الجنينية بإمكانية انقسامها إلى 200 نوع من الخلايا البشرية، من خلايا القلب والمخ وحتى خلايا الدم والعظام، ولتتكاثر إلى ستين تريليون خلية، لتكون الجسم البشري بأطرافه الأربعة، والقفص الصدري، بمحتوياته من القلب والرئة والشرايين، والبطن بما يحتويه من الأمعاء والكبد والكلية والبنكرياس. ولنتذكر بأن الخلية هي مصنع بيولوجي، ينتج ما يحتاجه الجسم من طاقة ومواد كيماوية مهمة لبقائه وتجدد خلاياه، وتقع في مركزه المورثات وفي محيطه مصانع الخلية. وتحتوي المورثات على برامج تشغيلية تسيطر على مصانع الخلية، وتسمى بالجينات، وتحتوي خلايا الإنسان على خمسة مليار برنامج تشغيل جيني.
وقد أعتقد البروفيسور ياماناكا بأن سر تغير الخلايا يقع في البرامج التشغيلية للجينات، وفعلا استطاع أن يكتشف أربعة برامج جينبة مسئولة عن تحول خلايا الجلد إلى خلايا جنينية جذعية. وحينما أضيفت هذه الجينات الأربعة إلى الخلية الجلدية تحولت إلى خلية جذعية جنينية، كما تمكن فريقه أن يحول هذه الخلايا الجذعية إلى مختلف أنواع الخلايا من القلب والكبد وحتى الخلايا العصبية والعضلية. وبينت تجارب فريقه في الحيوانات بأنه من الممكن معالجة الشلل العصبي بزرع هذه الخلايا الجنينية الجذعية في النخاع الشوكي، ومعالجة مرض السكري بزرعها في غدة البنكرياس. وستكون التطبيقات العملية المستقبلية لهذا الاكتشاف مذهلة، فمثلا إذا أصيب مريض بتلف أحد أعضاء جسمه من القلب والأعصاب إلى الكبد والكلية والبنكرياس، فيمكن أخذ عينة من سطح جلده، وتحويلها لخلايا جذعية، ثم زرعها لتتكاثر في العضو التالف وتشفيه. كما ستساعد هذه الخلايا على معرفة آلية الكثير من الأمراض المستعصية، وإنتاج أدوية جديدة لمعالجتها، وتطوير فحوصات جديدة لتشخيصها، واكتشاف تأثير الأدوية على المريض نفسه، بدل الاعتماد على الخبرات السابقة للمرض الآخرين فقط.
سفير مملكة البحرين في اليابان