من مفكرة سفير عربي في اليابان

ناضلت المؤسسات الخاصة العملاقة لتنفيذ خطط الخصخصة المجتمعية الشاملة لزيادة أرباحها، فاعتمدت على نظريات الصدمة للطبيب كميرون، وأفكار السوق الحرة المنفلتة للاقتصادي فرديدمان. وقد حققت حلم هذه المؤسسات رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تشر في عام 1978، حينما قلصت دور القطاع العام بالخصخصة، وخفضت الصرف على المسئوليات المجتمعية للدولة، ودعمها في ذلك الرئيس الأمريكي رونالد ريجن، حيث قام بتحرير السوق الأمريكية من جميع قيود أنظمتها quot;المكبلةquot;، وعبر عن ذلك بعباراته المشهورة: quot;الحكومة هي سبب المشاكل، وليست وسيلة لحلها.quot; ولم تمضي ثلاثة عقود من الزمن حتى واجه العالم الأزمة الاقتصادية لعام 2008، ولتتبعها الانتفاضة الأمريكية ليفوز أوباما بالرئاسة، ومع انتهاء السنة الأولى لحكومته، بدأت انتفاضة حزب الشاي ضد البطالة والدعم المفرط للمؤسسات المالية، ليسيطر الجمهوريين على الكونجرس من جديد، ولتتبعها المظاهرات الأوربية ضد التقشف، بعد أن ارتفعت الديون الغربية لنسب غير مسبوقة، وزادت أسعار الطاقة والسكن والغذاء، ولتنتهي بانتفاضات الشرق الأوسط. ويبقى السؤال: ما علاقة السوق الحرة المنفلتة بما يجري اليوم في دول الشرق الأوسط؟ وهل ديمقراطية الغرب برأسماليتها الفائقة هي الحل لتحديات هذه المنطقة؟
ناقشت الكاتبة الكندية، نعومي كلين، في كتابها، عقيدة الصدمة وصعود الرأسمالية الكارثية، كيف أدت الثورة الكنيسية البريطانية في بداية الخمسينيات ضد السوق الحرة المنفلتة، لخسارة الشركات العملاقة الغربية للكثير من أرباحها، وترافقت هذه الثورة بتطور تكنولوجية الاتصالات والمواصلات، التي فتحت أبواب المنافسة في سوق العولمة، فرخصت أسعار المنتجات. وقد وعت هذه الشركات للحاجة لثورة مضادة، لإرجاع رأسمالية السوق الحرة المنفلتة، ولم تستطع مؤسسات الوول ستريت أن تتصدر هذه الثورة المضادة مباشرة، فاحتاجت لصديق قريب الاقتصادي فريدمان، وهو رئيس الستي بنك، ولتر ويرستون، لترجع حوارات السوق الحرة من جديد، ولتبدأ جامعة شيكاغو بثورتها المضادة، وبدعم مالي كبير من المؤسسات الخاصة، لتلعب دورها الخفي في مصلحة القطاع الخاص، وتحت مظلة الحوارات الأكاديمية والأبحاث الاقتصادية، وخلال جيوش من الاقتصاديين المخلصين لها في مختلف بقاع العالم. فصدر كتاب فريدمان الرأسمالية والحرية في عام 1962، ليؤكد بانحراف الرأسمالية عن مسارها، والحاجة لثورة إصلاحية مضادة، ولتتحول نقاشات هذا الكتاب لقوانين السوق الحرة الأمريكية الجديدة، وجدول عمل اقتصادي للمحافظين الجدد. فقد طالب فريدمان الحكومة بإلغاء جميع القوانين التي تعيق جني الأرباح في الشركات، وحث على بيع الاستثمارات والأصول الحكومية على الشركات الخاصة، ونصح بوقف الدعم المالي لجميع البرامج الاجتماعية، ووقف فرض الضرائب عن الشركات الخاصة، وفتح جميع أسواق العالم للشركات الغربية، ومنع حماية الصناعات المحلية، وترك أسعار المنتجات وأجور العمالة لمنافسة السوق الحرة، وخصخصة الرعاية الصحية والبريد والتعليم والتقاعد.
وقد نشطت المؤسسات الخاصة لتنفيذ أجندتها السياسية، فقامت بتمويل الدعايات الانتخابية للدفع بنوابها للسيطرة على الحكومة والكونجرس، وتعاونت مع المخابرات للقيام بانقلابات في دول العالم الثالث. وكان من الصعب في فترة الخمسينيات تحقيق طموحات هذه الشركات، التي اعتمد ثرائها في السابق على ثروات المستعمرات، وحتى مع وجود الرئيس الجمهوري، دويت أيزنهور، في البيت الأبيض، والذي فاز بانتخابات الرئاسة لعام 1953 بدعم هذه المؤسسات. وقد كان في ذلك الوقت الدكتور مصدق رئيس الحكومة الإيرانية، وهو الذي أمم شركة النفط الإيرانية، كما كان رئيس اندونسيا أشمد سوكارنو، الذي ناضل لتوحيد دول العالم الثالث كقوة موازية للغرب، فاعتبرت المؤسسات الخاصة هذين الزعيمين عدوين لمصالحها، فدفعت بوزارة الخارجية الأمريكية لاعتبار جميع الحكومات التنموية ضمن دول الحرب الباردة، وحذرتها من خطورة القومية التنموية، كبداية لشمولية شيوعية، بل أصرت على ضرورة القضاء عليها.
وقد نجحت الشركات الخاصة، في عام 1953، بدفع الرئيس أيزنهور لاختيار أثنين من محاميها المخلصين، وهما جون فوستر دالاس، كوزيرا للخارجية، وأخوه، ألين دالاس، رئيسا للمخابرات المركزية، فقاما بتخطيط انقلاب ضد مصدق، والتخلص من الرئيس كوزمن في غوتيمالا، لمنعهما من تطوير اقتصاد رأسمالي تنموي. وتعاون تيودور شولتز، رئيس قسم الاقتصاد بجامعة شيكاغو، والبيون باترسون، مدير المعونات الأمريكية، مع المخابرات الأمريكية، لوضع برنامج أكاديمي لتطوير اقتصاديات العالم الثالث، باستخدام رأسمالية فريدمان وصدمة كميرون. فوفرت الحكومة الأمريكية منح لطلاب من نشيلي لدراسة رأسمالية فريدمان النقية بجامعة شيكاغو، وأرسلت شولتز للجامعة الكاثوليكية، ليبدأ مشروع فريدمان لمحاربة الاقتصاديين التنمويين في الفترة بين عام 1957 وعام 1970.
وقد أنصدم الرئيس نيكسون بفوز الطبيب سلفادور أللندي برئاسة الحكومة في تشيلي في السبعينيات، فقامت حكومته بالتعاون مع الشركات الأمريكية بحرب شرسة ضد الليندي، لتحطيم اقتصاد تشيلي ووقف التأميم، فدفعت بالمعارضة لوضع إستراتيجية لانقلاب ضد حكومة أللندي وتأسيس أول دولة رأسمالية نقية. ففي الحادي عشر من سبتمبر عام 1973، قام الجنرال بنوشه بانقلاب عسكري، قتل فيه الرئيس أللندي، وملئ السجون بالمواطنين، لعلاج عقولهم بصدمات كميرون، ليغسل بعدها المستشار الاقتصادي للجنرال بنوشه، البروفيسور فريدمان، المجتمع التشيلي من الاقتصاديات التنموية ليحقق رأسماليته النقية، ليفتح البلاد للاستثمارات الأجنبية، فتشتري المؤسسات الخاصة الغربية أصول البلاد بأسعار بخسة، ويحرر التجارة من الأنظمة والقوانين، ليخلص هذه المؤسسات من منافسة الصناعات المحلية، لتسرح الملايين من القوى العاملة، كما ألغت الحد الأدنى للأجور. وتكررت هذه التجربة المأساوية في باقي دول أمريكا اللاتينية، لتفتقر شعوبها، فتجوع الأطفال وتنتشر الأمراض، وتزداد البطالة والبغاء، وتتراكم الديون الخارجية.
واستخدمت نظرية الصدمة مارجريت تشر، بخلق أزمة الفوكلاند، لكي تمرر رأسماليتها النقية، كما استغل الرئيس ريجن أزمة إضرابات المراقبة الجوية، ليضعف الاتحادات العمالية، ويمرر خطته الاقتصادية التي خفضت الأجور، وزادت من هوة الثراء، وأدت لتلاعب المؤسسات الخاصة بأسعار الأدوية وتكاليف الرعاية الصحية، مما أدى لفقد ستة وأربعين مليون أمريكي تأمينهم الصحي، وليعيش تسعة وثلاثين مليون أمريكي تحت سقف الفقر. وقد دفع المحافظون الجدد الرئيس بوش الابن لاستخدام صدمة كرومان على العراق، كمحاولة لغسل عقل شعبه من وطنيته، وللقضاء على موارده البشرية، ليفرض عليه رأسمالية فريدمان النقية، وذلك بتدمير البنية التحتية في البلاد، والتخلص من الصناعات الوطنية، وفتح الأبواب للخصخصة، لكي تشتري المؤسسات الخاصة الغربية اقتصاديات العراق بسعر بخس.
وقد أدت سياسات ديمقراطية الرأسمالية الفائقة لانكماش الطبقة الوسطى في العالم، وزيادة نسب البطالة، لتزداد الفجوة بين القلة الفاحشة الثراء، والأغلبية المسحوقة بالحرمان. كما أدى تلاعب السياسيين بالميزانية لزيادة الديون، بدعمهم إفلاسات مضاربات المؤسسات المالية بمئات المليارات من الدولارات، لتبدأ دول الغرب سياسات تقشف أدت لمظاهرات عارمة، ليعلق الصحفي الأمريكي تدر ول في صحيفة اليابان تايمز بقوله: quot;أزمة الميزانية تركيبة زائفة، ونتيجة جوع بهيمي لايديولوجية الرأسمالية الفائقة، فهناك الكثير من الأموال والحل بسيط، ضريبة الغنى. فقد بقت الضريبة ثابتة على 80% من المواطنين الأمريكيين خلال نصف القرن الماضي، بينما استمتعت الطبقة الثرية بانخفاض متكرر للضرائب، فانخفضت الضرائب للنصف من 70% إلى 35% على 0.01% من الأمريكيين، الذين يزيد دخلهم عن 6.5 مليون دولار سنويا. وفي ظروفنا الصعبة، لماذا لا نبدأ بمن يستطيع المساعدة؟ ففرض الضرائب على 1% من الشعب الأمريكي، الذين يملكون 35% من ثراء الولايات المتحدة، أي 1% من 19.1 تريليون دولار، أي 191.1 مليار دولار سنويا. وهذه فقط البداية، فدخل الأفراد الأغنياء لا يعتبر شيئا أمام دخل المؤسسات الخاصة التي تمتص ثراء الولايات المتحدة، فمع أن الضرائب المفروضة عليها 35%، ولكن المبالغ التي تدفعها قليلة جدا. فمثلا حسب صحيفة النيويورك تايمز، مجموع الضرائب الفدرالية والمحلية والأجنبية والولاياتية التي دفعتها شركة بوينع 4.5%، وياهو 7%، وجنرال اليكتريك 14.3%، وطيران سوث ويست 6.3%. فقد أدى النظام الضريبي الأمريكي لسباحة هذه المؤسسات العملاقة في محيطات من النقود بينما تبقى الدولة مفلسة بالديون. فقد وصلت في العام الماضي أصول المؤسسات الخاصة الغير مالية في الولايات المتحدة 26.2 تريليون دولار، و 7% منها نقدية، بينما ديون الولايات المتحدة 14.1 تريليون دولار.quot; فهل ستدرك دول الشرق الأوسط خطورة الرأسمالية الفائقة، لتقي شعوبها من انتفاضات متكررة، تخل باستقرار المنطقة، وتعطل تنميتها الاقتصادية والاجتماعية؟ وهل ستعالج ديمقراطية الغرب اللبرالية برأسماليتها الفائقة تحديات التنمية في الشرق الأوسط؟ ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان