من مفكرة سفير عربي في اليابان

ناقشنا في الحلقة السابقة خطورة الأعلام الطائفي على نمو عقل الطفل، وأهمية التواصل البشري والتناغم المجتمعي في تطور خلاياه العصبية، ونمو إحساساته السبعة: السمع، والبصر، والشم، والتذوق، اللمس، والاستقراء، والتبصر. والتبصر حس أساسي لتطور العقل البشري، وتوجيه نموه، وقد ناقش عالم النفس الأمريكي، البروفيسور دانيال سيغل، في كتابه، البصيرة، ما توصلت له الأبحاث العلمية الحديثة من فهم لأسرار العقل البشري وحواسه، وركز على الحاسة السابعة، التبصر، فقال: quot;في كل واحد منا عالم بحر عقلي داخلي، وهو مكان رائع ثري، مليء بالأفكار، والإحساسات، والذكريات، والأحلام، والآمال، والأمنيات، ويمكن أن يكون أيضا بحر هائج، نمارس فيه الطرف المظلم من هذه الإحساسات والأفكار: الخوف، والشجن، والهلع، والأسف، والكابوس. وحينما يبدأ هذا البحر الداخلي الهائج عملية تحطيمنا، يجرنا للقاع، فيحسسنا بالغرق، فمن منا لم يعيش هذه ألإحساسات دخل عقله؟ وقد تكون هذه الإحساسات أحيانا آنية: يوم عمل سيء، أو شجار مع من نحب، أو حوار طائفي نتن، أو قلق امتحان، وقد تكون كارثة لا نعتقد بإمكاننا تجاوزها. وهنا تبدأ مهارات البصيرة، الحاسة السابعة، التي يمكن تطويرها لأداة تغير عجيبة، تحررنا من أنماط عقلية معيقة، لنعيش حياة سعيدة متكاملة، وذلك بتركيز انتباهنا لندرك طريقة عمل عقولنا، للتحكم بطوفان انفعالاتها، والذي من عادتنا التورط في فخ شباكها. فبالتبصر نتعرف على انفعالاتنا فنروضها، بدل أن تربكنا وتشل عقولنا، ولنقارن بين مقولة، أنا حزين، ومقولة، أنا أحس بالحزن، لنجد بأن هناك فارق شاسع بينهما، فتعكس مقولة، أنا حزين، بأننا قد وقعنا في شباك انفعالات الحزن، وتحكمت في أذهاننا وتفكيرنا، بينما تعني مقولة، أنا أحس بالحزن، بأننا نملك المهارات اللازمة، للتعرف على شعور الحزن، وتقبله بعقلانية، بدون أن ترهق طاقاتنا العقلية والجسمية. فلذلك تساعدنا مهارة التبصر على رؤية ما بداخل عقولنا، لنتقبله بحكمة. وبقبول ما بداخل عقولنا، نستطيع أن نتفهم انفعالاتنا المدمرة، ونستفيد من خلالها تطوير مهارات التعامل مع معضلاتنا الحياتية، لنحقق النجاح والتفوق.quot;
ويشبه الكاتب البصيرة بعدسة بيولوجية، تساعدنا على إدراك العقل بدقة كبيرة، لندخل في خفاياه، وننظر لأسراره. ويمكن لأي واحد منا أن يطور هذه العدسة بداخله، وحينها نستطيع أن نبحر في بحور العقل ومحيطاته، لنتعرف على خفايا حياتنا، بل وحياة الآخرين من حولنا، وهي إمكانية الإنسان الفريدة للفحص من قرب، وبدقة، وبعمق، وبالتفصيل، الآلية التي نفكر، ونشعر، ونتصرف بها، وتساعدنا لكي نشكل ونوجه خبراتنا الداخلية، لحرية التفاعل معها، والعمل بطاقة كاملة لبناء مستقبلنا وأحلامنا. فهي المهارة الأساسية لذكاء التواصل الاجتماعي، وذكاء الفهم والسيطرة على عواطفنا وانفعالاتنا، لما تحيط بنا من تحديات. وبتطوير مهاراتنا في التركيز على عالم عقلنا الداخلي، نطور شبكات التواصل العصبية في عقولنا، لينمو جزء من المخ المسئول عن الصحة العقلية، أي نحافظ على صحة عقولنا. ولا يتم هذا التغير بدون جهود جادة، فتطوير قدراتنا في الإبحار في بحور عقولنا، يحتاج لجهود جادة لتطوير هذه القدرات الذهنية، كتطوير قدراتنا العضلية بالتمارين الرياضية. والحقيقة العلمية هي أننا نحتاج لخبرات معينة، لنطور هذه القدرة العقلية، ويبدأ تطوير قدرة البصيرة منذ الولادة، بتربية قدرة التواصل العائلية بين الرضيع وأمه، وتتطور أساسياتها بنمو خبرات تواصلنا التربوية، والعائلية، والحياتية، لنتعلم كيفية إدراك أفكارنا، وإحساساتنا، وشعورنا، وذكرياتنا، وعقائدنا، وأخلاقياتنا، وسلوكنا، وآمالنا، وأحلامنا، وتطوير الخبرة في فهمها.
ومن المعروف بأن إحساساتنا الخمسة تساعدنا في إدراك عالمنا الخارجي، بالنظر، والسمع، والشم، واللمس، والتذوق، كما تساعدنا الحاسة السادسة على الاستقراء، وإدراك حالة بدننا الداخلية، من الشعور بخفقان القلب، والذي يعبر عن الخوف والإثارة، وإحساس معدتنا بالجوع، والألم الذي يعبر عن ضرر لأجسامنا، والذي قد يحتاج لانتباهنا. أما حاستنا السابعة فهي البصيرة، وهي قدرتنا على النظر لكي ندرك ما بداخل عقولنا، لنعكس بها خبراتنا، وتساعدنا على بناء قوة عقلية اجتماعية وعاطفية، لتنقل حياتنا من تعاسة الفوضى إلى رفاهية النظام والسعادة، لنتواصل بعلاقات إنسانية رائعة، تجمع بين الأخلاقيات، والتعاطف، والرحمة. وتساعد معرفة أسرار العقل على نجاح الأم في بيتها، والأستاذ في مدرسته، والطبيب في مهنته، والتاجر في تجارته، والقائد في مسئولياته، والسياسي في مهماته، والإنسان بشكل عام في عملية تواصله مع الآخرين، والشباب في إبداعاته. ويشبه الكاتب البصيرة بعدسة بيولوجية، تساعدنا على إدراك العقل بدقة كبيرة، لندخل في خفاياه، وننظر لأسراره. ولكل منا القدرة على تطوير هذه العدسة بداخله، وحينها نستطيع أن نبحر في بحور العقل ومحيطاته، لنتعرف على خفايا حياتنا، بل وحياة الآخرين من حولنا، وهي إمكانية الإنسان الفريدة للفحص من قرب، وبدقة، وبعمق، وبالتفصيل، الآلية التي يفكر، ويشعر، ويتصرف بها. كما تساعدنا في توجيه خبراتنا الداخلية، ورزانة التفاعل معها، للعمل لبناء مستقبلنا، فهي تجمع بين مهارات ذكاء التواصل الاجتماعي، وقدرات السيطرة على عواطفنا وانفعالاتنا. وتحتاج تطويرها لجهود جادة، تبدأ منذ الولادة، بتربية قدرة التواصل بين الرضيع وأمه، وتتطور أساسياتها بنمو خبرات تواصلنا التربوية في المدرسة، والعائلية في البيت، والحياتية في المجتمع، لنتعلم كيفية إدراك أفكارنا، وإحساساتنا، وشعورنا، وذكرياتنا، وعقائدنا، وأخلاقياتنا، وسلوكنا، وآمالنا، وأحلامنا، وتطوير خبرة إدراكها. وبتطوير قدرات البصيرة، نساعد المخ للمحافظة على تكامل وظائفه، بتواصل الأجزاء المنفصلة، لتتشابك للعمل ككل متكامل، فحينها يعمل الجزء الأيمن مع الجزء الأيسر من المخ، بتناغم مع بقية الجهاز العصبي. وبتحقيق هذا التكامل العقلي نحقق الإحساس بالحيوية، والإبداع، والرفاهية، والسعادة، وبدونه، نسجن أنفسنا في شعور من القلق، والفوضى، والتصلب، والتعصب، والصراعات الطائفية المدمرة. كما يتطور العقل حينما ننظر بداخله بفضول واحترام، بدل الخوف والتجنب، فبمعرفة أفكارنا وإحساساتنا، نستطيع التعلم منها، بدل أن ننجرف وراء انفعالاتها، فحينما نهدئها بدون أن نتجاهلها، ونستطيع سماع حكمتها، بدون أن نرتعب من صوتها الانفعالي المدوي.
فالبصيرة ليست شيئا نملكه، أو لا نملكه، بل هي نوع من الخبرة، نطورها بالجهد والوقت والممارسة. وتتميز عقول البشر، منذ الولادة، بإمكانية تطوير هذه الحاسة، بنمو الخلايا العصبية وشبكات تواصلها بالخبرة، بوقائع البيئة الحياتية التي تحيط بنا، وبتفاعلاتنا مع تحدياتها. وتتطور قدرات البصيرة في الأطفال بالنظر للعقل، من خلال التفاعل اليومي مع الآخرين، وخاصة بالتواصل اليقظ، واللطيف، مع العائلة والأصدقاء. ويحتاج ذلك لعائلة متناغمة ومنسجمة في تواصلها، وحينما يكون الوالدين غير مكترثين، وبعيدين، وغير يقظين، ولا يستطيعان استيعاب حقيقة ما بداخل عقل الطفل، تتحول عدسة بصيرة الطفل لعدسة مشوشة، فيستطيع الطفل أن يرى من خلالها جزء من بحور عقله، أو يطور عدسة دقيقة الرؤية، ولكنها هشة ومشوشة، بالقلق، والانفعال. ومهما تكن قصة طفولتنا مشوشة، يبقى الوقت مناسبا لتنمية بصيرة العقل، بتنمية الخلايا، والألياف العصبية، وتناسق عملها. كما يمكننا أيضا أن ننظر في عقول الآخرين، وذلك بتطوير مهارات التعاطف، والتي تساعدنا في فهم أحساسات الآخرين، من خوف وقلق وحب وسعادة، لنتعلم كيفية التعامل مع تحدياتها. كما تحتاج انفعالاتنا العاطفية للدراسة، فحينما ننفعل، نحس بالخجل والذنب، ونحاول أن نتناسى ما حدث، ولكن لو حاولنا الدخول في داخل عقولنا بالبصيرة، وتعرفنا على حقيقة ما حدث، نستطيع أن نصلح دماره، والذي هو عادة سم خطير لأجسامنا وعقولنا، ولأجسام وعقول الآخرين، بل يمكننا أن نقلل من شدة وتكرار هذه الإنفجارات العاطفية، المتلفة لأعصابنا، وأعصاب الآخرين. فحينما نغضب، نعاني من خلل في وظيفة العقل، ولا نستطيع أن نرى ونفهم سلوك الآخرين، كما لا نستطيع فهم تفاعل عقولنا معها، بسبب أن عقولنا لم تعمل بتناسق، بينما حين يعمل المخ كوحدة متناسقة ومتكاملة، يزدهر تواصلنا العقلاني مع الآخرين، وتنمو خلايانا العصبية ويتناغم تواصلها مع شبكة الألياف العصبية.
فتتميز البصيرة بقدرة تواصلنا مع أنفسنا ومع الآخرين، وتساعدنا على التأمل لفهم من نكون حقيقة، وما يجري بداخلنا عقلا، وجسما، وقلبا. والتأمل هي قدرتنا على البقاء، متفتحين، وملاحظين، وموضوعيين، بما يجري من حولنا، وما يجري في داخلنا وداخل الآخرين، ويحتاج لثلاث مهارات أساسية لتطوير قدرتنا على التبصر: الانفتاح، والملاحظة، والموضوعية، وهي ثلاث قوائم متوازنة لحامل عدسة التبصر، وبدونها نرى عقولنا بصورة مشوشة، فتضيع التفاصيل الدقيقة في خضم الانفجارات العاطفية. وحينما تتوازن عدسة البصيرة، تتضح التفاصيل في البؤرة، فنرى التفاصيل بعمق ودقة، ونكتسب مواهب الفراسة، والفطنة، وحدة الذهن، وهي بداية الحكمة. ويعني الانفتاح، استعدادنا لتقبل أراء مختلفة، حول ما يجب أن تكون عليه الأشياء، فنتناسى توقعاتنا، وآراءنا السابقة، ونتقبل الأشياء كما هي، بدل أن نحاول تغيرها كما نريد، بالتعصب، والتطرف، والتزمت الطائفي. ويساعدنا الانفتاح على أن نحس بالأشياء بوضوح، ويعطينا القوة لمعرفة الأحكام المقيدة، لنطلق عنان عقولنا من قبضتها، والملاحظة، هي قدرتنا على أن ندرك أنفسنا، وندرك ما يدور من حولنا، لكي نتحرر من سلوكنا الذاتي واستجابتنا المألوفة، ولنبدأ تغيير أنفسنا. وتساعدنا الموضوعية على عرض أفكارنا، وعواطفنا، بدون أن ننجرف وراء انفعالاتها، كما تدعم تطوير مهاراتنا العقلية، لنتفهم نشاطات العقل الآنية، من أفكار، وإحساسات، وذكريات، واعتقادات، وأهداف، بأنها نشاطات مؤقتة، ولا تمثل شخصيتنا، كما تطور حدة التميز في قدراتنا، لكي نتفهم بأن الفكرة، والشعور، ما هي إلا نشاط ذهني، وليست حقيقة مطلقة، لتكمل هذه القوائم الثلاث قدرة التأمل، وهو قدرتنا على البقاء متفتحين، وملاحظين، وموضوعيين، بما يجري في داخلنا، وما يجري بداخل الآخرين. فبدون هذه القوائم الثلاث، الانفتاح، والموضوعية، والملاحظة، تصبح عدسة البصيرة غائمة، ولا نستطيع رؤية وفهم ما بداخل عقولنا، وعقول الآخرين. كما تساعدنا البصيرة على دقة الإحساس، وعلى تشكيل الطاقة، وتدفق المعلومات، وكلما كانت الحقيقة أعمق، كلما كانت الصورة كاملة وشاملة. ونكتسب بالبصيرة النظام، والمشاركة، لتصبح معنى حياتنا أنت وأنا، فنزيل الحدود السطحية التي تفصل بيننا، وتمكننا من الرؤية، بأن كل واحد منا جزء من فيض متشابك، من الكل، وبمهارة النظر للذهن، والعقل، والتواصل، بأنها ثلاث أبعاد لواقع فريد، سنرى خبرتنا الإنسانية بعيون حقيقية جديدة. كما يتغير المخ بتجاوبه مع الخبرات الحياتية، فمن الممكن أن ننمي مهارة ذهنية جديدة، بجهود متعمدة ويقظة، وبدقة التركيز، فالخبرة تثير الألياف العصبية، لتنتج مواد بروتينية، تساعد تكوين شبكات جديدة من الألياف العصبية، والتي تنشط أيضا، بعوامل أخرى، كالرياضة، والتعاطف، والإبداع، والتركيز، ففن الموسيقى يطور القدرات السمعية، وفن الرسم يطور القدرات المرئية، والرياضة تطور القدرات الجسمية، وبعمل هذه الأجزاء مع بعضها البعض، نخلق توازن ذهني متطور. فهل ستخلق مجتمعاتنا بيئة متناغمة، ترفض الإعلام الطائفي، وما ينتجه من تمزق لنسيج المجتمع، لتساعد نمو عقول أطفالنا، وتهيئهم لتحديات عالم العولمة، الذي يحتاج لأجيال متفاهمة، ومتعاونة، للتعامل مع تحدياتها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية المعقدة؟ ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان