من مفكرة سفير عربي في اليابان

لم ينتهي حكم الرئيس، السابق، حسني مبارك، إلا والأقلام quot;الحرةquot; تنحرف مائة وثمانين درجة، لتتحول بلاغة المدح والتبجيل، خلال العقود الثلاثة الماضية، فجأة، لنقد انفعالي مضاد، وحينما حاول شيخ الأزهر الشريف، حفظه الله، أن يوجه عواطف الحقد والانفعال، نحو حكمة الحصافة والاتزان، هوجم بحدة. ونحن لسنا هنا بصدد الدفاع عن رئيس سابق، فالقضاء المصري، المعروف بمهنيته ونزاهته، أجدر بهذه المسئولية الجسيمة، ولكن سنحاول مناقشة تجربة عربية رائدة، لتجنب تكرار سلبياتها، ولنتساءل: أين كانت هذه الأقلام quot;الحرةquot; خلال العقود الثلاثة الماضية من مناقشة الأخطاء، وطرح أفكار رصينة لتصحيحها؟ ألم يكن هذا الرئيس أحد ابطال حرب أكتوبر، وطيار الجيش الماهر، ومثل للإنسان العربي المثابر؟ وما الذي أدى لتحول هذا البطل لمتهم؟ وما الذي منع ثلاث مائة وخمسين مليون عربي من معالجة تحديات المرحلة السابقة قبل أن تستشري وتنتشر سلبياتها؟ وهل ممكن محاكمة تاريخية لمرحلة الرئيس مبارك بدون تقيم مرحلتي الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس أنور السادات؟ وهل يجوز تقيم المرحلة السابقة بدون مراجعة الإيديولوجيات الشرق أوسطية المتطرفة، التي زعزعت الأمن والأمان، وهزت الاقتصاد، وأرهقت اقتصاد مصر بمحاربة الإرهاب، وشغلت الدولة عن الحداثة والتنمية؟ ألا تستطيع الشعوب أن تطور قياداتها بصدق الكلمة، وحصافة النصح، وحكمة المعالجة، بقدر ما تستطيع إفسادها بالمجاملة الكاذبة، والنفاق الغادر، والمعارضة الدموية المتطرفة؟ وهل تختلف تحديات مصر عن التحديات التي سببت انتفاضة العولمة في الشرق الأوسط؟ وهل لكل ذلك علاقة بانتهاء الحرب الباردة، وسيطرة الرأسمالية الفائقة على اقتصاديات المنطقة، بسوقها المنفلتة، وبخصصة مسئوليات الدولة العصرية؟
لفت نظري خلال انتفاضة العولمة في الشرق الأوسط مقولة شاب مصري، أكد فيها بأن quot;مصر تحتاج إلى خمسة وثمانين مليون ثورة، ثورة في عقل كل مواطن مصريquot;. وفي الحقيقة، قد يكون هناك حاجة لثورة في عقل ثلاثمائة وخمسين مليون عربي، ثورة الروح والنفس، ثورة تركز على الأخلاق والسلوك لا على التقاليد، ثورة تزيد الإنتاجية وتخلق الإبداع، وتحرك عجلة الحداثة، ثورة تركز على التحديات المجتمعية ببرغماتية مدروسة، وتتجنب إرهاصات الأيديولوجيات الشرق أوسطية المتطرفة الفاشلة. ويستغرب المرء حينما يلاحظ التناقض بين عظمة حضارة العرب، وثراء مواردهم البشرية والطبيعية، وحدة ذكائهم، وقوة تواصلهم، مع تأخر الحداثة في دولهم مع بزوغ الألفية الثالثة. وقد بينت مجلة الأيكونوميست البريطانية في مقال لها في الأسبوع الماضي، بأن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، هي أقل منطقة نموا في الناتج المحلي الإجمالي quot;للفردquot;، خلال العقود الثلاثة الماضية، حيث كان متوسطه 4.5% في آسيا، و 3% في الدول النامية، وحوالي 1% في دول أمريكا اللاتينية وباقي الدول الأفريقية، بينما لم ترتفع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقا عن 5.0%. والعجيب أن كثير من الدول التي كانت فقيرة قبل أربعة عقود ماضية، تحولت اليوم لدول متقدمة، وخير مثال لذلك كوريا الجنوبية، التي استطاعت أن تتحول من دولة فقيرة في ستينيات القرن الماضي، إلى دولة حداثة تكنولوجية اليوم، بينما بقى الجزء الشمالي منها مشغول بنظريات الأيديولوجيات الثورية، وبنظامه الشمولي، ليزداد شعبه فقرا وتخلفا.
وليكون التقييم موضوعيا، نحتاج أن نتذكر ما حققته جمهورية مصر العربية خلال العقود الثلاثة الماضية، وخاصة بعد أن انتهت مغامرات الحروب العربية الفاشلة، واقتنع النظام المصري بالحاجة للسلام والاستقرار، وتجنب الأيديولوجيات الثورية المتطرفة، للدفع بعجلة التنمية الاقتصادية. فقد عرضت مجلة الايكونوميست في تقريرها الخاص في السابع عشر من شهر جولاي العام الماضي، إحصائيات مقارنة في الفترة بين عام 1990 وحتى عام 2009، والتي بينت بأنه بالرغم من زيادة سكان مصر من 57.8 مليون إلى 83.1 مليون، وارتفاع عدد القوى العمالة من 14.3 مليون إلى 25.4 مليون، نجحت محاولات خفض نسبة التكاثر السكاني من 5.2 إلى 2.9 لكل عائلة، وارتفع متوسط العمر إلى 72 سنة، وانخفضت نسبة وفيات الرضع من 78.5 إلى 34.8 لكل ألف رضيع. كما ارتفعت نسبة معرفة القراءة والكتابة من 57% إلى 72%، وزادت طاقة استهلاك الفرد للكهرباء من 644 إلى 1460 كيلووات، وزادت عدد التلفونات من 2.8 إلى 79.1 لكل مائة شخص، وأرتفع عدد السيارات الصغيرة من 18.7 إلى 33.3 لكل ألف شخص. كما أن ثلثي المنازل بها مستقبل تلفزيوني، و 87% منها تحتوي على ثلاجة، و 97% منها تصلها أنابيب الماء، و 99% منها مرتبطة بأسلاك الطاقة الكهربائية. وبعد أن استمر انخفاض المشاركة المصرية في التجارة العالمية خلال الأربعة عقود الماضية، بدأ يرتفع في العام الماضي لثلاثة أضعاف، فزادت الاستثمارات الأجنبية إلى 46 مليار دولار، خلال الفترة بين عام 2004 وحتى 2009، وانخفضت الديون العامة للثلث، لحوالي 76% من الناتج الإجمالي المحلي. كما زاد انتاج القمح أربعة أضعاف، خلال الثلاث العقود الماضية، ليصل إلى 7 مليون طنا سنويا، وليغطي 60% من احتياجات المواطنين. ومع الأسف ترافق كل ذلك بتباين كبير في الثراء، وانخفاض في نمو الناتج المحلي الإجمالي للفرد، وارتفاع نسب البطالة بين الشباب، ولم يختلف الوضع كثيرا في باقي الدول العربية، لينتهي بانتفاضة عولمة شاملة في المنطقة، ويبقى السؤال: ما السبب وراء تأخر حداثة العرب عن الركب العالمي خلال العقود الماضية؟ وهل لذلك علاقة بالبيئة والعقلية العربية؟
خير من كتب عن تشابك البيئة المجتمعية والعقل في المجتمعات العربية، هو عالم اجتماع القرن الرابع عشر، أبن خلدون، الذي ربط مقومات العقلية العربية بأصول بيئة عرب الجاهلية، والتي وصف سلبياتها بأنها: quot;حالة اجتماعية طبيعية، نتيجة التوحش، ينهبون ما قدروا عليه، من غير مغالبة، ويفرون إلى منتجعهم بالقفز. وإذ تغلبوا على أوطان، أسرع لها الخراب، ينقلون الحجر من المباني، لينصبوه أثافي للقدر، ويخربون السقف ليعمروا خيامهم، وليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه، ويتنافسون على الرئاسة، وقل أن يسلم واحد منهم الأمر لغيره، ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته، وهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض.quot; كما وصف المستشرق الغربي أوليري عربي الجاهلية في كتابه، العرب قبل محمد، بأنه: quot;ينظر للأشياء نظرة مادية وضعية، ولا يقومها إلا بحسب ما تنتج من نفع، ويتملك الطمع مشاعره، وليس له مجال للخيال، لا يميل كثيرا إلى الدين، إلا بقدر ما يحقق له مصلحة دنيوية، أو أخروية، ولا يكترث بشيء، إلا بقدر ما ينتجه من فائدة عملية. يملؤه الشعور بكرامته الشخصية، ويثور على أي شكل من أشكال السلطة، ليتوقع منه قائده في الحروب الحسد والبغض والخيانة من أول يوم اختير للسيادة عليه، من أحسن إليه كان موضع نقمته، لأن الإحسان يثير فيه شعورا بالخضوع، وضعف المنزلة، وبأن عليه واجبا لمن أحسن إليه.quot;
وقد وصف المستشرق الغربي لامانس سلبيات العقلية العربية بقوله: quot;نموذج للديمقراطية، ولكنها ديمقراطية مبالغ فيها، فثورته على السلطة، التي تحاول أن تحدد حريته ولو كانت في مصلحته، وصعوبة قيادة العرب، وعدم خضوعهم للسلطة، هي التي تحول بينهم وبين سيرهم في سبيل الحداثة الغربية. ويبلغ حب العربي لحريته مبلغا كبيرا، حتى إذا حاولت أن تحدها ولو بالأنظمة والقوانين هاج كأنه وحش في قفص، وثار ثورة جنونية، لتحطيم أغلاله، والعودة إلى حريته.quot; وتعمق الأستاذ أحمد أمين دراسة السلبيات العقلية للشخصية العربية في مؤلفاته فقال: quot;عصبية المزاج، سريعة الغضب، تهيج للشيء التافه، وهي أشد هياجا إذا جرحت كرامتها، وإذا هاج العربي، أسرع للسيف، واحتكم إليه، حتى أفنته الحروب، وصار الحرب نظامه المألوف، وحياته اليومية العادية. وذكاءه ليس من النوع المبتكر، ويترافق بالميل لحرية قل أن يحدها حد، ومرتبط مفهومها بالحرية الشخصية لا الاجتماعية، فهو لا يدين فيها بالطاعة للحاكم، كما يحدد المساواة فقط ضمن أفراد قبيلته أو جماعته.quot; كما ربط الأستاذ أمين العقلية العربية بأصول بداوة الجاهلية، وميزها: بضعف التعليل، وقلة القدرة على فهم الارتباط بين العلة والمعلول، وعدم النظر للأشياء نظرة عامة شاملة، وتجنب تحليل دقيق لأسسها وعوارضها. كما أن نظرة العربي للشيء لا يستغرق فكره، بل يقف عند موطن صغير يستثير عجبه، فتستوقفه الشجرة بجمال غصنها، ولا يحيط نظره جمال البستان بأكمله، فلا يلتقطه ذهنه، إنما يطير بنظره كالنحلة، من زهرة إلى زهرة، ليرتشف من كل رشفة. ويعتقد الأستاذ أمين بأن الإسلام أثر على العقلية العربية، بتعاليمه، وبتواصله مع حضارات وثقافات جديدة، بعد فتوحاته المتعددة. وقد كان لنظام الرق والولاء، أكبر الأثر فيه، حيث وزعت النساء والرجال بعد الفتوحات كغنائم، ليمتلئ بيت كل جندي عربي، تقريبا، بعبيد من الرجال وإماء من النساء. وقد أدى التمتع بالإماء لولادة أجيال مختلطة، ونتج من ذلك بيت عربي، يحتوي على دماء عربية، مختلطة بدماء فارسية أو رومانية أو سورية أو مصرية أو بربرية. وقد أنتج هؤلاء الأرقاء والموالي الجيل الثاني لعهد الفتح، الذين خلقوا حركة ثقافية علمية اقتصادية واجتماعية متميزة، ليمتزج العنصر العربي والأجنبي تمام الامتزاج. فامتزجت العادات الفارسية والرومانية بالعادات العربية، وتداخل قانون الفرس والرومان بأحكام القران الكريم والسنة، وأختلط حكم الفرس وفلسفة الروم بحكم العرب، لتتأثر جميع مرافق الحياة، والنظم السياسية والاجتماعية، والطبائع والعقلية، تأثرا كبيرا بهذا الامتزاج. ولنا لقاء.
سفير
مملكة البحرين في اليابان