من مفكرة سفير عربي في اليابان

في لهيب انتفاضة الغضب في الشرق الأوسط، أرسل لي صديق رسالة الكترونية، يصف فيها أحد السفراء العرب، سلوكيات الشعب الياباني خلال الكارثة الثلاثية، الزلازل والسونامي والتلوث ألشعاعي، والتي جمعت quot;الهدوء، بسمو الحزن عن مناظر ضرب الصدر أو النواح، الاحترام بالالتزام بطوابير محترمة للماء والمشتريات بدون كلمة جافة أو تصرف جارح، القدرة التكنولوجية بمعمار فائق الروعة فتأرجحت المباني ولم تسقط، الرحمة حيث لناس اشتروا فقط ما يحتاجون إليه للحاضر حتى يستطيع الكل الحصول على شيء، النظام فلا فوضى في المحال ولا تذمر ولا استيلاء على الطرق فالتفهم سيد الموقف، التضحية، فقد ظل خمسون عاملا في المفاعل النووي لوقف التسرب لحماية مواطني بلادهم، الرفق، فقد خفضت المطاعم أسعارها فاهتم القوي بالضعيف، التدريب، حيث عرف الصغير والكبير واجبه بالضبط، كما أظهر الإعلام تحكما رائعا بتقارير المذيعين هادئة، الضمير، حيث الناس أرجعوا ما بأيديهم إلى الرفوف ومشوا بهدوء عندما انقطعت الكهرباء في المحال.quot; ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: ما الذي أدى للتطور السلوك الياباني بهذه الدرجة الملفتة للنظر؟ وما سر نجاحهم التكنولوجي والاقتصادي؟
تتكون اليابان من أرخبيل يجمع آلاف الجزر بمساحة تقدر بحوالي 350 ألف كيلو متر مربع، 80% منها غير صالحة للزراعة أو السكن، ويقدر سكان اليابان بحوالي 127 مليون، ونتاجهم المحلي الإجمالي يقارب الخمسة تريليون دولار سنويا، كما أن موارد اليابان الطبيعية قليلة جدا. وقد تحولت تحديات شح الموارد الطبيعية وكثرة الكوارث المناخية نعمة لاعتماد اليابان على مواردها البشرية وتحقيق تنميتها، بينما كان الثراء النفطي في منطقة الشرق الأوسط الكبير نقمة كسل عطلت تنمية موارده البشرية. فتسجل هذه المنطقة بسكانها النصف مليار، أدنى نسب للإنتاجية، وشبه انعدام الاختراعات التكنولوجية المربحة، بينما تنافس اليابان، بسكانها المائة والسبعة والعشرين مليون، الإتحاد الأوربي في تسجيل الاختراعات، وتتجاوز إنتاجيتها مجموع إنتاجية الصين والهند، بسكانهما المليارين والنصف. والسؤال: ما سبب نجاح اليابان في تحقيق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية بالرغم من تحدياتها المعقدة؟
تعتمد تنمية الدول في القرن الواحد والعشرين على تهيئة مواردها البشرية لإنتاجية عولمة مبدعة منافسة. وتحتاج هذه التهيئة لتعليم، يطور التفكير البرغماتي، لخلق خبرة مجتمعية، تجمع بين تناغم التعاون ومهارات حل المعضلات الحياتية. ولذلك تهتم اليابان في تهيئة قواها البشرية بتطوير الذكاء الذهني لحل المعضلات الرياضية والعلمية والحياتية، والذكاء الاجتماعي لتحسين مهارات التواصل بثقافات عالم العولمة الجديد، والذكاء العاطفي لخلق حكمة السيطرة على الانفعالات العاطفية وتوجيهها في قنواتها المنتجة، والذكاء الروحي لفهم ماديات هذا الكون وروحانياته الإلهية لمعرفة المواطن الياباني موقعه ومسئولياته فيه لخلق التناغم الروحي مع الثقافات الدينية الأخرى، والذكاء البيئي لاحترام الطبيعة وتجنب تلويثها وحكمة التعامل مع مواردها الطبيعية وكفاءة استخدام طاقتها. وتبدأ هذه التهيئة في اليابان بعد الولادة، ففي السنة الأولى تتفرغ الأم لتربية طفلها حتى أن يدخل الحضانة، لتبدأ بعدها الدولة المشاركة بدورها الفعال مع العائلة في تهيئة أجيالها القادمة. ويتعلم الطفل الياباني في الحضانة والمدرسة أخلاقيات السلوك، باحترام الآخرين، والتعاون معهم بتناغم جميل، مع تقدير الوقت وقدسية العمل، كما يتعلم مهارات أدب الكلام. وتعتمد مهارة المخاطبة في اليابان على احترام الوقت، لتؤكدها المقولة المشهورة، الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وعلى قلة الكلام وتركيزه، والتي تعبر عنها المقولات: خير الكلام ما قل ودل، وإن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، ولسانك حصانك إن صنته صانك وإن خنته خانك. وتجمع بلاغة التعبير حسن المخاطبة ومهارة لغة الصمت. ويتعلم الطفل الياباني التركيز على السمع، للاستفادة، وقلة الكلام، للحفاظ على الوقت وتقليل فرص الخلاف.
ويدرب الطالب منذ الصغر على مسئولية العمل وذلك بمحافظته على نظافة المدرسة وكنس صفوفها وزرع حدائقها ورعاية حيواناتها. كما تطور أحاسيسه الروحية بتعلم احترام جميع الثقافات والأديان، والتدرب في تذوق الشعر والموسيقى، وزيارة المعابد والمتاحف. وحينما يكمل الطالب المرحلة المتوسطة يتعرف على مهاراته الخاصة من خلال استبيان يبين إمكاناته الشخصية والذهنية، يساعده في اختيار اختصاصه المستقبلي. ويتوجه أكثر من ثلث طلبة المدارس المتوسطة للمعاهد التكنولوجية والزراعية، بينما يكمل الباقي الدراسة الثانوية. ويتقدم الطلبة بعد النجاح في الثانوية لامتحان عام يقيم إمكاناتهم اللغوية وقدرات حلهم للمعضلات العلمية والاجتماعية، ليحدد دراجات هذا الامتحان، الكليات التي سينتسبون إليها. ويعيش الطفل الياباني تناغم روحي جميل في مجتمعه، حيث يحتفل بولادة الطفل في معابد الشنتو، والزواج بالطريقة المسيحية، والدفن على الطريقة البوذية. ويخلق التعليم الياباني التوازن بين ولاء المواطنة الصالحة والكفاءة، وذلك بالتركيز على احترام الإمبراطور وحب الوطن والالتزام بالدستور، وتطوير السلوك الشخصي ومهارات حل المعضلات الحياتية.
ولم ترضى اليابان بما حققته في التعليم لتصبح ثاني اقتصاد عالمي، بل استمرت في تقيمها الذاتي لتعليمها والاستفادة من تقيم الآخرين وخاصة ترتيبها في المؤشرات الدولية. ولعبت الصحافة اليابانية دورا موضوعي مسئول في هذا التقييم، متجنبة التطبيل والتزمير لما حققته بلدها خلال العقود الستة الماضية، بل استمرت في تقيمها الموضوعي لاكتشاف مواقع الخلل لإصلاحه. وقد ناقشت افتتاحية صحيفة اليابان تايمز في العام المنصرم مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة، والذي سجلت اليابان فيه الترتيب العاشر بين الدول المتقدمة. ويعتمد هذا المؤشر على تقيم إنجازات الدول في الصحة والمعرفة ومستوى المعيشة. وقد حققت اليابان فيه الترتيب الأول في متوسط العمر، ولكنها تخلفت في ترتيب المعرفة ومستوى المعيشة، والذي أدى لانخفاض ترتيبها من المرتبة الخامسة للمرتبة العاشرة، مع أنها تعتبر ثاني اقتصاد عالمي، ويتجاوز تسجيل اختراعاتها السنوية مجموع اختراعات الاتحاد الأوروبي. وتحلل الصحيفة هذا التراجع بأن اليابان لم تستطع أن تحول الناتج المحلي الإجمالي لاقتصادها المتقدم، لتحسين مستوى معيشة موطنيها وتطوير تعليمهم وتدريبهم. كما لم يغير تعليمها المتطور ودخلها الاقتصادي المرتفع المستوى المعيشي لمواطنيها.
وتفتخر اليابان بمتوسط عمر مواطنيها والمقدر ب 82.7 سنة، وهي الأعلى في العالم، والذي يعكس مدى جودة الرعاية الصحية الوقائية والعلاجية، والتي يرجع الفضل فيها لالتزام المواطنين بمقولة، الوقاية خير من العلاج، والذي خفض الصرف على الرعاية الصحية لحوالي 8% من الناتج المحلي الإجمالي، أي لنصف ما تصرفه الولايات المتحدة وبنتائج أفضل، وهي من أدنى نسب الصرف بين الدول المتقدمة. كما أبدت الصحيفة استياءها من ترتيب اليابان أل 42 في التعليم وأل 26 في مستوى المعيشة. وفسرت الصحيفة سبب تخلف ترتيب اليابان في التعليم لعدم استغلال بعض الشباب فرص التعليم الثانوي والجامعي المتوفرة، بتوجههم المبكر للعمل في الصناعة والزراعة بعد تكملتهم الدراسة المتوسطة، بالإضافة لانخفاض نسبة الصرف على التعليم والمقدر ب 9.5% من مجمل الصرف الحكومي، وهي الأقل بين الدول المتقدمة. وربطت الصحيفة تخلف ترتيب مستوى المعيشة، بالمفارقة في المساواة بين الجنسيين، حيث يعادل متوسط دخل المرأة 45% من متوسط دخل الرجل، كما تختفي النساء من المواقع القيادية وخاصة في السياسة والتعليم. وتختم الصحيفة افتتاحيتها بالقول: quot;وسيظهر التقرير القادم في عام 2010، وهو مهم للتفكير في الأولويات والتخطيط لمستقبل أفضل. وقد تقبلت اليابان تقرير هذا العام بآراء متباينة، ولنأمل منها، كطالب مجتهد لم يعمل بمستوى طاقة إمكانياته، التعلم من هذا التقرير، لتغير مواقع الضعف فيه.quot;
ويبدو بأن منطقة الشرق الأوسط بدأت تعي أهمية عولمة التعليم، لتهيئة أجيالها القادمة لكي تتعامل مع تحديات مجتمعاتها المعقدة في العالم الجديد. فقد ضم مؤشر التنمية للأمم المتحدة دولة الكويت وقطر والأمارات ضمن الدول المتطورة والأكثر تقدما بشريا، كما تصدرت مملكة البحرين قائمة الدول النامية والمتقدمة بشريا، والتي ضمت ليبيا وعمان والمملكة العربية السعودية ولبنان، وقد يعكس ذلك التنافس التي تعيشها المنطقة لتطوير تعليمها العالي بجلب خيرة خبرات الجامعات الغربية، كجامعة كورنيل في الطب وكرناجي ملون في الهندسة وجورج تاون في العلوم السياسية، كما طورت جامعة الملك عبد الله مراكز بحثية عالمية شاركت فيها جامعات هارفارد وستانفورد وأكسفورد وكامبريدج.
وقد اهتمت قيادات المنطقة بتطوير التعليم في مراحله المختلفة لتهيئة الأجيال القادمة لتحديات العولمة. فقد عقد المؤتمر العالمي الأول للتعليم بمملكة البحرين، والذي أكد فيه صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، ولي العهد ورئيس مجلس التنمية الاقتصادية بأولوية quot;التعليم أولا وثانيا وثالثاquot; لتطوير اقتصاديات المعرفة، وشرح سموه الرؤية التعليمية المستقبلية بالقول: quot;أن التعليم هو القضية الأهم لمستقبل أي بلد، والمواطنون هم مفتاح أي نمو يمكن تحقيقه، ويحق لهم الحصول على التعليم والتدريب الذي يحتاجون إليه لنيل وظائف جيدة، وبدخل عالي يساعدهم على إعالة أسرهم، ومع ذلك فإننا نعلم أن هناك ثغرات في نوعية النظم التعليمية في العالم. وبالرغم من النوايا الحسنة، وزيادة الإنفاق على التعليم، فغالبا تفشل دول العالم في تحقيق التحسينات المتوقعة. فالكثير من الشباب من الرجال والنساء- في الدول المتقدمة والناشئة ndash; يدخلون سوق العمل بدون تزويدهم بالمهارات التي تضمن لهم البقاء فيه في مرحلة الاقتصاد ما بعد الصناعي والاقتصاديات القائمة على المعرفة. كما إن تحديد النوع والشكل المناسب للتعليم، والاستثمار فيه، لإطلاق طاقات كل فرد، هو أحد أكبر التحديات التي يواجه العالم في القرن الواحد والعشرين. فمشروع التعليم هو فرصة للتربويين للعمل معا كفريق دولي واحد، مع التركيز على الأفعال، وليس الأقوال فقط، وقد اجتمعنا اليوم معا، لاستكشاف الحلول والاستراتيجيات التي يمكن أن تساعد المربين في مختلف أنحاء العالم على تشكيل مستقبل التعليم... ونحن لدينا الكثير لنتعلمه من بعضنا البعض، ويجب علينا مواصلة جهودنا في تحسين هذا القطاع، كما يجب على كل واحد منا عدم احتكار المعرفة والحكمة. فدعونا نستفيد من مشروع التعليم لاستكشاف الابتكارات التي نجحت في منطقة ما، ويمكن تكيفها لتحقق نجاحا آخر في مكان آخر. وبهذه الطريقة، يمكننا سوية رسم خارطة طريق عملية، مع إضافة معلومات ورؤى جديدة للعاملين في قطاع التعليم للمتابعة في جميع أنحاء العالم.quot; ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان