من مفكرة سفير عربي في اليابان
بدأت موجة خطيرة من الصراعات الطائفية في منطقة الشرق الأوسط بعد انتفاضة العولمة، وستكون تداعياتها المستقبلية خطيرة، وقد تؤدي لخلق مجتمعات متناحرة طائفيا مستقبلا، يصعب على حكام المنطقة قيادتها، وإذا لم ننتبه، قد تنتهي بعضها لدول ممزقة كالصومال. والغريب بأنه في الوقت التي تنتشر إرهاصات الكراهية الطائفية في وسائل أعلام التكنولوجية (الانترنت، والفيسبوك، والتيوتر، والتلفزيون الرقمي، والصحافة الالكترونية) في منطقة الشرق الأوسط، نلاحظ بأن دول أخرى بنت عظمتها على احترام الاختلاف بين طوائف مواطنيها، فمثلا دول غربية كالولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، بنت ازدهارها على تنوع مواطنيها من مجتمعات متباينة، ثقافيا، لغويا، دينيا، حضاريا، تاريخيا، واجتماعيا، فالهندي، والعربي، والفرنسي، والروسي، واليهودي، والمسيحي، والمسلم، والبوذي، والهندوسي، يلتحمون في بوتقة مواطنة دولة حداثة معاصرة، ليحولوا التنوع إلى لوحة طيف جميلة من الإبداع والإنتاجية والازدهار. كما أن دول شرقية، كسنغافورة والهند، تجمع مواطنين من أعراق متباينة، وأديان مختلفة، ولغات متنوعة، ولكن تجمعهم مشاركة الازدهار المستقبلي، وقد أدى ذلك لأن يزيد الإنتاج المحلي الإجمالي لدولة صغيرة كسنغافورة على ماليزيا العظمى، كما ستتجاوز الهند الولايات المتحدة في إنتاجها المحلي الإجمالي خلال هذا القرن، لتصبح ثاني دولة اقتصاديا بعد الصين. وبالعكس هناك دول في منطقة الشرق الأوسط أصولها، ولغتها، ودينها، وحضارتها، وثقافتها، مشتركة، ولكن بدأت تعاني من صراعات طائفية خطيرة، تنعكس بشكل ملحوظ في إعلامها التكنولوجي، بل هناك دول لا يزيد عدد سكانها عن عدد سكان حارة في الصين، تعاني في إعلامها من دمار طائفي، يمزق لحمة الوطن، ويشرد المستثمرين، ليعرقل التنمية الاجتماعية والاقتصادية. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل ستؤثر هذه الإرهاصات الإعلامية الطائفية على عقول الأجيال القادمة، وذكائها الذهني، والاجتماعي، والعاطفي، والروحي، والسياسي؟ وهل سيؤدي ذلك لخلق أجيال مستقبلية انفعالية متناحرة، وغير منضبطة، وغير ملتزمة، وصعبة القيادة؟ وما تأثير ذلك على التنمية الاقتصادية والاجتماعية في مجتمعات عالم العولمة الجديدة؟ وهل لذلك علاقة بتداخل الدين بالسياسية في مجتمعاتنا؟ وهل حان الوقت لفصل الاختصاصات الدينية عن الاختصاصات السياسية؟ أليس التربية والتعليم لتهيئة قيادات مستقبلية للمؤسسات الدينية الروحية، تختلف عن التعليم والتدريب لتهيئة قيادات المؤسسات السياسية الدنيوية المستقبلية، في قريتنا الكونية التكنولوجية، المتخصصة، الصغيرة؟ وهل سيساعدنا دراسة التاريخ لمعرفة هذه الحقائق؟
لنراجع عزيزي القارئ التاريخ الياباني، فقد يخلق الأمل لدينا، فكتب المؤرخ الغربي، كنيث هنشول، في كتابه تاريخ اليابان، يقول: quot;في شهر سبتمبر من عام 1543 ضلت سفينة صينية خشبية طريقها للوصول إلى ننجبو في الصين، ورست على شواطئ تانجاشيما جنوب كيوشو في اليابان. وكان على ظهر السفينة بحارة صينيين، وثلاثة بحارة برتغاليون، جلبوا معهم بنادق متقدمة على بنادق المغول المستخدمة في اليابان. وقد قام اليابانيون بتطوير تصنيعها للوردات الحرب اليابانية ... فوجد هؤلاء الأوربيون اليابان بلد منقسمة بحروبها الأهلية، بلد لوردات حرب، لا يعترفون بأية حكومة مركزية، ويستولون على ما تصل له أيديهم، بالغدر والخيانة، أو بالقوة. وقد وجد في ذلك الوقت في ملفات الموتى بيت شعر، كتب في حوالي عام 1500، خلال عهد سنجوكو، يقول، الطير بجسم واحد، ولكن بمنقارين، ينقر جسمه حتى الموت.quot;
هذا هو واقع التاريخ الياباني في القرن السادس عشر، طير بمنقارين ينهش في لحمه وحتى الموت، فقد كانت الصراعات الطائفية دموية بين الشنتو والبوذيين، وقد يتساءل عزيزي القارئ، وكيف تغير ذلك الوضع؟ يرجع الفضل لوحدة اليابان لثلاثة من قيادات عساكر السموراي وهم: اودا نوبونجا، وتويوتومي هديوشي، وتوكوجوا اياسون، ولكل من هؤلاء شخصية متميزة، وهناك مقولة يابانية توصفها: quot; إذا لم يغني الطير المغرد، فنوبناجا سيقتله، وهيديوشي سيقنعه ليغني، وأياسو سينتظره حتى يغني.quot; فبقوة وبأس فنوبناجا، وحكمة هيديوشي، وصبر أياسو، توحدت واستقرت اليابان، لتبدأ نهضة الإودو بالتعليم، من عام 1600 حتى عام 1868، وتبعتها نهضة الميجي بالتدريب والتصنيع، من عام 1868 حتى عام 1912. فتقدمت اليابان تكنولوجيا ونمى اقتصادها، لتزدهر البلاد، وحينما زادت حاجة اليابان للموارد الطبيعية النادرة فيها، توجهت للدول المجاورة، فغزا عساكر اليابان الدول الآسيوية، حالمين بإمبراطورية شاسعة من أستراليا وحتى روسيا، وقد انتهت هده الثقة الزائدة لدمار اليابان واستسلامها في الحرب العالمية الثانية، لتبدأ تاريخ جديد من التنمية بالتعاون مع عدوها الأمريكي لتصبح ثاني اقتصاد عالمي، وليعيش الشعب الياباني تناغم بين عقائده وطوائفه، وليعتقد بالشنتو في الولادة، والمسيحية في الزواج، والبوذية في الوفاة.
وفي نفس الوقت نلاحظ التفكك، والتشرذم، والتطرف، والعنف، والصراعات السياسية المختلطة بالتمزق الطائفي في الشرق الأوسط، لنتساءل ما نتيجة كل ذلك على عقول أجيال المستقبل، وخاصة بعد أن غزت البيوت من خلال الانترت والتيوتر والفيس بوك والتلفزيون الرقمي والصحافة الالكترونية. فبدل أن يستفاد من هذه الوسائل التكنولوجية للتعليم وتطوير العقل العربي، أصبح سبب خطر يحدق بعقول شباب المستقبل. ولنحاول عزيزي القارئ أن نتدارس تأثير بيئة التمزق الطائفي وثقافتها على عقول أجيال المستقبل الذين سيقودون التنمية والازدهار في المنطقة.
انشغل علماء النفس، في القرن الواحد والعشرين، بدراسة أسرار العقل البشري، ومدى ارتباط تطوره ببيئة البيت والمجتمع، وتساءل البعض عن تطور عقل طفل ولد في وسط غابة مختلط بالحيوانات، بعيد عن أبناء جنسه، فهل سيستطيع المشي؟ وهل سيستطيع التكلم؟ وهل سيستطيع التفكير والتحليل؟ وهل سيستطيع التواصل مع جنسه البشري حينما يكبر؟ وقد تؤدي هذه التساؤلات لأسئلة محيرة أخرى: هل يكفي أن يولد الجنس البشري بجهاز عصبي سليم ليكون إنسانا مكتمل العقل والذكاء، أم يحتاج هذا التكامل لبيئة تواصل بشري متناغمة، لتطوير شخصيته، وذكائه، وتفكيره، وذاكرته، وعاطفته، وحواسه، وكفاءة التعامل مع تحديات حياته؟ وما تأثير البيئة العائلية والمدرسية والمجتمعية المضطربة على تطور العقل البشري، وما هي انعكاساتها على سلوك التطرف والعنف في المجتمع، وعلى الأمن والاستقرار والسلام والتنمية الاجتماعية والاقتصادية في الدولة؟ وباختصار شديد، هل للإعلام الطائفي الموجه على الأطفال تأثير مستقبلي على عقولهم، وذكائهم، وشخصيتهم، وانتاجهم، وإبداعاتهم؟
ليسمح لي القارئ العزيز بمقدمة بيولوجية مبسطة، تبدأ حياة الجنس البشري من اندماج نصف خلية أنثوية وهي البويضة، مع نصف خلية ذكرية وهو الحيوان المنوي، ليتكون من هذا الاندماج خلية quot;مضغيةquot; تستطيع الانقسام والتميز. وتعتبر بيضة الدجاجة الملقحة، بدون قشرتها الكلسية، نموذجا مبسطا ومكبرا ملايين المرات، لهذه الخلية quot;المضغيةquot;. ويحيط بهذه الخلية، غشاء خارجي، يحتوي بداخله على سائل بروتيني لزج، وفي مركزه، كرة وراثية، تسيطر على وظائف الخلية، وعلى أطرفه، مصانع دقيقة، تقوم بصنع مختلف المواد التي يحتاجها الجسم لنموه، وتوازن وظائفه، وبقائه، ونشاطه العقلي. وتحتوي الكرة المركزية على ستة وأربعين مورثة جسمية، ومورثة جنسية أنثوية، ومورثة أخرى جنسية ذكرية. وتشبه هذه المورثات عصيات مختلفة الشكل، تتكون من جينات، مكونة من مادة بروتينية، هي نوع من الحمض النووي الريبي، والمعروفة، بالدي إن إيه، تنقل الصفات الوراثية، التي تسيطر على وظائف مصانع الخلية. وتنتقل هذه الجينات من جيل لآخر بالوراثة، كما تتعرض لتغيرات مستمرة متأثرة بالبيئة الطبيعية والمجتمعية التي تحيط بالإنسان. وتبدأ عملية الانقسام في هذه الخلية quot;المضغيةquot; بتكرار انشطارها لخليتين، لمليارات المرات، لتجتمع هذه الخلايا المنقسمة في ثلاثة طبقات، داخلية ومتوسطة وخارجية. وتتميز كل طبقة من هذه الطبقات بتكوين أعضاء مختلفة في الجسم، فمثلا تقوم الطبقة الخارجية بتكوين الجهاز العصبي. وتبدأ الخلايا العصبية بالتكاثر في الطبقة الخارجية لتكون الجهاز العصبي، المكون من الأعصاب، والنخاع الشوكي، والجدع المخي، والمخ، والمخيخ، وجهازي الودي ونظير الودي، والتي تحتوي على المليارات من الخلايا العصبية، والمتواصلة مع شبكة من تريليونات الألياف العصبية. وتتداخل الخلايا العصبية خلال نموها مع الطبقات الأخرى، كما تتواصل مع بعضها البعض، بشبكة معقدة من الألياف العصبية، لتنسق وظائفها بتناغم جميل.
وتبدأ الخلايا العصبية بالتكاثر في طبقة الجلد، لتنقل مختلف إحساسات اللمس، كما تتكاثر الخلايا العصبية في العين والأذن واللسان والأنف لتنقل حواس النظر والسمع والتذوق والشم لمراكزها المختلفة. وتنقل هذه الحواس الخمسة الواقع الطبيعي والاجتماعي المحيط بالإنسان، من خلال الألياف العصبية، إلى النخاع الشوكي، ومنه إلى الجذع المخي، فمراكز وسط المخ، وإلى القشرة المخية. وترتبط الألياف العصبية للحواس في الجذع المخي، بالألياف العصبية لمراكز أجهزة التنفس والقلب والهضم، وغرائز العطش والجوع والجنس، ثم تنتقل بعدها لمراكز العاطفة، المسئولة عن فهم هذه الحواس والتفاعل معها. وبعدها تنتقل هذه الحواس، لشبكات معقدة من الخلايا العصبية في وسط المخ وعلى قشرته، لتقوم هذه الخلايا، بمراجعة الذاكرة، لمعرفة مدى خبرته بهذه الحواس سابقا، وما هي نوع هذه الخبرة؟ وهل هي خبرة مفيدة أم مخيفة أو مضحكة؟ وتنتقل هذه الحواس بعدها إلى الخلايا العصبية المسئولة عن التفكير، لتقرر كيفية التعامل معها، ومنها تنتقل لمركز الذكاء، لكي تتفحص هذه القرارات وتتأكد من صحتها، واختيار الأسلوب المناسب للرد عليها. وتبدأ الخلايا العصبية المسئولة عن حركة العضلات، والموجودة في قشرة المخ، بتنظيم عملية الرد على هذه الحواس، وذلك بإرسال أوامر، من خلال موجات كهربائية في الأعصاب، لتنشيط عضلات الحبال الصوتية للرد بالكلام، أو بتنشيط عضلات اليد للرد بالكتابة، أو بتنشيط عضلات اليد والرجل للرد بالحركة.
ويحتاج الجهاز العصبي للتعليم والتدريب لكفاءة فهم البيئة المحيطة به، والتفاعل معها بمهارة عالية، وتؤدي مهارة التفاعل هذه لنمو الجهاز العصبي بتناغم جميل، لتكثر عدد خلاياه العصبية، ويكبر حجمها، وتتعدد تشابك أليافها العصبية، ويزداد دقة وكفاءة وظائفها، فكلما كان هذا التفاعل منظما ومتناغما، كلما نمت هذه الخلايا وشبكة تواصلها ووظائفها بشكل صحي سليم، وكلما كان هذا التفاعل مع البيئة الطبيعية والاجتماعية مضطربا وفوضويا أو طائفيا، كلما أضطرب نمو هذه الخلايا وشبكة تواصلها ووظائفها. ويبدأ نشاط الجهاز العصبي، عادة، في الأسبوع السادس من الحمل، ويكتمل نموه بعد ستة شهور من الولادة، ويستمر تطور وظائف خلاياه العصبية وتناسق عمل شبكات أليافه مدى الحياة، بعملية التواصل بين الإنسان ومجتمعه وبيئته.
فباختصار شديد، يحتاج التطور السليم للعقل البشري للتواصل المتناغم، والتفاعل المتزن، مع بيئة البيت، والمدرسة، والمجتمع. وقد بينت الدراسات العلمية بأن الأطفال الذين ولدوا في وسط الغابة، بعد أن توفت أمهاتهم، وعاشوا وسط الحيوانات، نمى جهازهم العصبي، متفاعلا مع بيئة التواصل الحيوانية المحيطة بهم، فتحركوا بالمشي على أربعة أطراف، وتفاعلوا مع الحيوانات بسهولة، ولا يفهموا لغة البشر، كما أن آلية تفكيرهم وتحليلهم بدائية، وعملية تفاعلهم مع البيئة المحيطة بهم انفعالية. ليؤكد كل ذلك، بأن الجهاز العصبي يتفاعل في تطوره مع البيئة التي تحيط به، ويحتاج لنموه السليم للتعليم والتدريب، لكي يطور مهارات المشي واللغة والتفكير والذاكرة وفهم العاطفة، والإحساسات الخمسة، وقدرة التفاعل معها. وبهذا التفاعل بين محيط الطفل، وجهازه العصبي، يتطور العقل، وتتقدم عملية التحليل الفكري، وتنتظم عملية خزن الخبرات والمعلومات في الذاكرة، وتنمو المهارات الأخلاقية، واللغوية، والعضلية، ونتفهم العواطف البشرية ونتعلم السيطرة عليها، والاستفادة منها، لكي نطور مهارات التواصل البشري وأخلاقيات سلوكه. ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان