عانى النظام الرأسمالي العالمي صدمة كبيرة في عام 2008، وقد صرفت دول الغرب مئات المليارات من الدولارات لانقاد مؤسساتها المالية، خوفا من انهيار النظام الرأسمالي. ولم تمضي ثلاثة أعوام حتى تفاقمت إرهاصاتها بانتفاضة العولمة، والتي بدأت بثورة حزب الشاي في الولايات المتحدة، وامتدت لاضطرابات التقشف في أوربا، وانتهت بانتفاضات البطالة وارتفاع أسعار الغذاء في الشرق الأوسط. وقد شككت هذه الأزمة ثقة العالم بإمكانية تعامل رأسمالية الغرب الفائقة مع تحديات العولمة في قريتنا الكونية الصغيرة. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: ما هو مستقبل الرأسمالية الفائقة في الألفية الثالثة؟ وهل ستودي انتفاضة العولمة لتطور نموذج جديد منها؟ وما دور الدول النامية في تطوير هذا النموذج؟ وهل سيترافق ذلك بنظام عولمة يسمو بمصلحة الإنسان فوق ربحية السوق؟ وما دور التغيرات الديموغرافية القادمة في ذلك؟ أليست التنمية الاقتصادية وسيلة لسعادة الإنسان ورفاهيته ورخائه، وطريق لأمن المجتمع واستقراره؟
كتبت المجلة البريطانية الاقتصادية، الايكونوميست، في افتتاحيتها في الرابع عشر من شهر مايو الجاري تقول: quot;حينما انفجرت فقاعة شركات الدوت كوم في عام 2000، برزت ملصقات تخفيف الصدمة في السيلكون فالي، وتوسلت للرب إنزال فقاعة جديدة. وقد تحققت هذه الأمنية، فبالنسبة لباقي أمريكا، تحس السيلكون فالي بأنها مدينة منتعشة اقتصاديا، فهناك زيادة الطلب على الرؤساء التنفيذيين، وارتفاع مستمر في إجارات المكاتب، ونافست رواتب الفنيين رواتب هوليود، لذلك، ليس عجبا، أن نجد ارتفاع في أسعار أسهم شركات الشبكة العنكبوتية. فتقدر سوق الأسهم قيمة quot;الفيسبوكquot; اليوم بحوالي 76 مليار دولار، أي أكثر من قيمة شركة بوينج لصناعة الطائرات، أو شركة فورد لصناعة السيارات، بينما تقدر قيمة quot;التيوترquot; بحوالي 7.7 مليار دولار، وتتمنى quot;اللينكيدنquot;، شبكة التواصل الاجتماعية للمهنيين، أن تصل قيمتها في البورصة الأمريكية لحوالي 3.3 مليار دولار. كما أعلنت شركة الميكروسوفت بشرائها quot;السكايبquot;، خدمة الاتصالات بالانترنت، بقيمة 8.8 مليار دولار، أي بقيمة تزيد عشرة أضعاف مبيعاتها في السنة الماضية، وأربعمائة ضعف لقيمة إيراداتها التشغيلية. وفعلا هذه الشركات لها شهرة عالمية، ولها زبائن في كل مكان، ولكن هل سيعيد التاريخ نفسه، بخطر انفجار فقاعة عالمية جديدة؟quot;
ذكرتني هذه الافتتاحية بتعليقات صحيفة الفينانشيال تايمز، في العام الماضي، عن إنفجار فقاعة أزمة الديون الإسكانية لعام 2008، حيث كتبت تقول: quot;لقد كرر التاريخ نفسه، فقد أدى عمى الجميع، وفشل تنظيم السوق، لفشل بنية نظامنا الاقتصادي. وقد يكون قاتلي الرأسمالية مخطئين، فسبب الأزمة ليس فشل السوق، بل سببها فشلنا في خلق سوق منظمة، ومنضبطة، وملتزمة. كما لم يعكس هذا الفشل إفلاس نظام اجتماعي، بل هو نتيجة الفشل الذهني، والأخلاقي، لمسئولي هذا النظام، فشل بغير عذر.quot; وقد أنتقد الصحفي مارتين ولف السوق المنفلتة في نظام الرأسمالية الفائقة بقوله: quot;إله إيديولوجي آخر قد انهار، فالفرضيات التي اعتمدت على أن الحكومات سيئة وأنظمة تحرير السوق من القيود جيدة، والتي حكمت السياسات والسياسة خلال العقود الثلاثة الماضية، قد انتهى عمرها الافتراضي، كانتهاء عمر الثورية الاشتراكية... وستقرر تحركاتنا القادمة أين سنستقر بعد هذا الطوفان المالي، كما سيغير العالم تلازم الانهيار المالي مع الكساد الكبير، فستضعف شرعية السوق، وستتأثر مصداقية الولايات المتحدة، وستتصاعد سلطة الصين، وقد تعرج العولمة. فكيف حدث كل ذلك؟ ويشمل الجزء الأكبر من الجواب، في أن عصر الحرية الفردية والاقتصادية أحتوى بذرة انهياره، وكانت فترة نمو هائلة في ربحية القطاع المالي، والإبداعات المالية المسعورة، وتزايد فقد توازن العولمة الاقتصادي، وتصاعد كبير في القروض الإسكانية، وفقاعة أسعار الأصول.quot;
وتساءل البروفيسور امارتيا سن، أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد: quot;هل سنحتاج لرأسمالية بنظام اقتصادي يجمع مؤسسات برغماتية مختارة، وقيم نستطيع الدفاع عنها بالمنطق؟ وهل سنبحث عن رأسمالية جديدة، أم لعالم جديد قد لا يكون بشكل رأسمالي؟ وفي الحقيقة، لم يستعمل آدم سميث عبارة الرأسمالية في كتاباته، ولم يفترض أية فكرة تؤيد كفاءة اقتصاد السوق، أو الحاجة لقبول هيمنة رأس المال. بل تحدث في كتابه، ثروة الأمم، عن ضرورة القيم في سلوك الفرد، وعن أهمية المؤسسات المجتمعية، بينما أكد في كتابه الأول، نظرية الوجدان الأخلاقي، عن الدور المهم للقيم الغير ربحية، كالحكمة والحصافة في النجاحات الفردية، والعدالة والروح الجماعية في تقدم المجتمعات البشرية. ومع أن تعريف الرأسمالية اعتمد على الملكية الخاصة، ودافع الربحية في التجارة، وأهمية السوق الحرة في المعاملات الاقتصادية، ولكن اعتمدت معظم الدول الغنية في تطورها على تعاملات خارج ربحية السوق الحرة، كالضمان الحكومي للتقاعد، والبطالة، وتوفير الرعاية التعليمية والصحية. فيبدو بأن الاقتصاد يحتاج لقيم إضافية غير الربحية، كالتزامات الثقة المتبادلة، والعمل بكفاءة. وقد أعتقد البعض بأن انجازات الرأسمالية، ارتبطت بتواجد مؤسسات فاعلة، تجاوزت الاعتماد فقط على زيادة الربحية. وقد دافع آدم سميث عن مسئولية الدولة في القيام بما قد تفشل السوق القيام به، كالرعاية الصحية والتعليمية، ومعالجة الفقر. وطالب بخيارات مؤسساتية تعالج المعضلات المجتمعية، بدل ربطها بصيغ ثابتة، كترك الأشياء مطلقا لحرية السوق. ولا تحتاج المعضلات الاقتصادية اليوم لرأسمالية جديدة، بل يلزمها ذهن منفتح لفهم محدودية اقتصاد السوق، والحاجة لآلية تنظم تفاعل منظمات السوق بمؤسسات الدولة، لخلق اقتصاد عالمي محترم.quot;
وعلق بروفيسور روبرت شيلر، أستاذ الاقتصاد بجامعة يل الأمريكية، على الأزمة الاقتصادية لعام 2008 بالقول: quot;قد ثبت في هذه الأزمة فشل الادعاء بأن الرأسمالية المنفلتة تؤدي لأفضل النتائج. كما عرف الاقتصادي البريطاني، جون مينارد كينس، من أهل زوجته الروسية مآسي الاشتراكية، ومن كساد التراجع الاقتصادي البريطاني لعام 1929، مآسي الرأسمالية المنفلتة، ليختار طريق وسط لاقتصاد معاصر. وقد أدت أزمة عام 2008 لولادة الطريق الوسط لجون كنيس من جديد، للوقاية من بطالة، ورعب، وهوس الرأسمالية، وتجنب السيطرة السياسية والاقتصادية للشيوعية. فنحتاج لحكومات قوية، وفاعلة، لزيادة الصرف على مشاريع جديدة، حينما تزداد نسب البطالة، وفي أوقات انخفاضها، تجمع الضرائب لدفع الديون المتراكمة، وبتغيرات طفيفة، وبأنظمة ملزمة، يمكن أن يستقر النظام الرأسمالي.quot;
ويعتقد بروفيسور العلوم الاقتصادية، شيلر، بأن: quot;هناك حاجة لحكومة قوية، وفاعلة، لكبح الغريزة الحيوانية للبشر في المخاطرة. فمعلوماتنا لتقدير الربحية، بعد عقد من الزمن، قليلة أو معدومة، ومع ذلك نشتري الأسهم بغريزة عفوية للمخاطرة. فعلى الحكومة تنظيم سوق الأصول، لمنع الأفراد من شراء أصول خاسرة، وعليها أيضا توفير ظروف مناسبة في الأزمات، لكي ينتج البعض ما يريد أن يشتريه البعض الآخر.quot; وطالب اللورد لوسون، وزير المالية البريطاني السابق، بفصل البنوك الاستثمارية عن البنوك التجارية، وتركها لانضباط السوق. وانتقد الاقتصادي فرانسيسكو جيوريرا تقارير الربحية المباشرة الربع سنوية، التي تعتمد عليها الشركات الخاصة لإرضاء المساهمين، والتي اعتبرها نظرة قصيرة الأمد للربحية، وبأن خير طريقة لخلق القيمة للمساهمين هي الطريقة الغير مباشرة، بتطوير منتجات الشركة، وتشجيع عمالتها، وإرضاء زبائنها، والتي ستؤدي بالثقة بها، وزيادة ربحيتها، بشكل غير مباشر. ويتوقع الاقتصادي، مارتين سوريل، بولادة رأسمالية بوجه إنساني أكثر مسئولية من حطام هذه الأزمة، وذلك بتطوريها المسئولية الاجتماعية للشركات لحماية الإنسان والبيئة.
ويعتقد الدبلوماسي السنغافوري ووزير الخارجية السابق، البروفيسور كيشور مهبوباني، بأن تجربة السوق الحرة في شرق آسيا كانت هائلة، فأدت لزيادة إنتاجية العمالة، وطورت كفاءة الاستفادة من الموارد الطبيعية، وأثرت الاقتصاد، وأنقذت مئات الملايين من براثن الفقر. وتعلمت شعوب شرق آسيا من أزماتها المالية السابقة بأن تدخر لليوم الأسود، لتزداد مدخرات الصين المالية من 145 مليار في عام 1998 إلى اثنين تريليون في عام 2008، كما زادت مدخرات الهند من 27 مليار في عام 1998 إلى 315 مليار في عام 2008، وقد حمت هذه المدخرات المجتمعات الأسيوية من عواصف الأزمات. ويعلق البروفيسور مهبوباني على ذلك بقوله: quot; وحينما تنتهي العاصفة سيكتشف العالم بأن خير المؤمنين بالرأسمالية هم الأسيويون، وستكون رأسمالية أسيوية لا غربية، وستسيطر في مجتمع العولمة ليتوازن فيها اليد الخفية للسوق الحرة، مع اليد المرئية لحكومات فاعلة. وبالطريقة الآسيوية، خطوتين إلى الأمام، وخطوة للوراء، ستنهار تدريجيا جدران المتاجرة بين الدول. وفي منتصف قرن الواحد والعشرين ستتجاوز التجارة بين الدول الآسيوية المناطق الأخرى في العالم، وبالرغم من ذلك فلن يلحن الأسيويون على إيديولوجية فضائل الرأسمالية الأسيوية، فهم حذرون من الإيديولوجيات بعد قرن من الخبرة، ويفضلون التعلم من برغماتية الخبرة العملية، وسينتبهون لنصيحة آدم سميث، بأن التعقل والحكمة هي أسمى الفضائل المفيدة للأفراد، والتي قد تكون مفيدة للأمم أيضا. quot;
وعلق البروفيسور ادمون فيلبس، الاقتصادي الحاصل على جائزة نوبل بقوله: quot;سنحتاج لإعادة التأهيل والتعليم لمعرفة فوائد الرأسمالية الفاعلة وأخطارها، كما ستحتاج بنيتها لإصلاحات جذرية، فهي ليست نظام سوق حرة منفلتة من سيطرة الدولة وقوانينها. وفي الحقيقة تقل جدارة أداء الأنظمة الرأسمالية حينما تنعدم حماية الدولة للمستثمرين والدائنين والشركات، ضد الاحتكار والمكر والاحتيال. وتفقد الحكومات الغير فاعلة دعمها السياسي، لتسبب قلق اجتماعي بغياب إعاناتها المالية لضم الأقل حظا في اقتصاد تجارة المجتمع. ولا يضر بالرأسمالية نظام تأمين اجتماعي كبير، وبضرائب عالية، ودخل شخصي، وثراء منخفض. فالأنظمة الرأسمالية هي آلية لتنمية المعرفة الإبداعية، ليستفيد منه العمل الحر لصناعة منتجات جديدة، تزيد الدخل، وترضي العمالة، كما تعرض الحيرة في اقتناص الفرص الفجائية لتحولات سريعة في الاقتصاد، والتي لا تعرف عنها الحكومات الكثير لكي تستثمر فيها، لذلك نحتاج لرأسمالية السوق لحل هذه المعضلة.quot;
لقد شجعت نظريات عالم الاقتصاد البريطاني، جون كنيس، تناغم العمل بين القطاعين العام والخاص، والتي ساعدت الشركات الخاصة لتحويل الإبداعات، والاختراعات التكنولوجية، لمنتجات مفيدة للمجتمع، ومربحة لاقتصاده، وضامنة لأمنه واستقراره. فتطورت صناعة الغرب، ووفرت لقواها العاملة الوظيفة، وشبكة من الحماية الصحية، والتعليمية، ونظام تقاعد وتعطل. بينما دفعت نظريات اقتصادي جامعة شيكاغو، ملتون فريدمان، الولايات المتحدة لتحرير السوق من الأنظمة والقوانين، وشجعتها على أخلاقيات الربحية السريعة. وقد كشفت أزمة عام 2008 مدى خطورة نظريات فريدمان على أموال المستثمرين، وعلى الأصول البشرية للشركات، ليخسر العالم 40% من ثرائه. ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان