من مفكرة سفير عربي في اليابان

بعد الأزمة الاقتصادية العالمية لعام 2008، وخسارة العالم 40% من ثرائه، وضياع الترليونات من الدولارات لانقاد المؤسسات المالية، ارتفعت نسب البطالة، وزادت نسب الفقر، وتجاوزت ديون الغرب الخطوط الحمراء، لتبدأ انتفاضة العولمة في عام 2009، بثورة حزب الشاي في الولايات المتحدة، ولتمتد للدول الأوربية بعد إعلان حكوماتها سياسات التقشف، ولتنتشر مؤخرا في العالم العربي. ويبدو بأن تقيم إرهاصات هذه المرحلة من تاريخ وطننا العربي أصبحت ضرورة ملحة، وخاصة بعد أن تضاعفت تحديات العولمة، بالتزايد السكاني الذي تجاوز 350 مليون، وترافق بقلة الإنتاجية، وتصاعد نسب البطالة، وارتفاع نسب الفقر إلي حوالي 40%، بالإضافة لتحديات التفكير التكلسي، والتطرف الفكري، وإرهاب العنف.
فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، أعلن المفكر ألأمريكي، البروفيسور فرانسيس فيكوياما، عن انتهاء التاريخ، بانتصار النموذج الأمريكي للديمقراطية، برأسماليتها الفائقة، وأعتبره النموذج النهائي لحركة تطور التاريخ، ليفتخر رجال السياسة الأمريكية بسوقهم الحرة المنفلتة، وبمدى انتشار الخصخصة في مجتمعاتهم. وقد نشطت الشركات الأمريكية العملاقة، من خلال لوبياتها في الكونجرس، للدفع بالحكومة الأمريكية، لنشر ديمقراطية السوق المنفلتة، بأنظمة خصخصتها الواسعة، في مختلف أرجاء العالم، لترويج بضائعها، وضمان حماية رأسمالها. وقد سهلت التطورات التكنولوجية، والمؤسسات المالية الغربية، تطور سوق عولمة حرة منفلتة، كما شجعت نظريات عالم الاقتصاد الأمريكي، ملتون فريدمان، على نشر الرأسمالية الفائقة، وأحيانا بالقوة، لتنتهي بالأزمة الاقتصادية العالمية لعام 2008.
وقد تحمست بعض الدول لتقليد ديمقراطية الغرب، برأسماليتها الفائقة، فنشطت في خصخصة مسئوليات الدولة، لتزداد نسب البطالة، وتقل حقوق العمالة، ولترتفع أسعار الغذاء، والسكن، والدواء بشكل غير مسبوق، ولتنتهي أيضا بإرهاصات برلمانية، مزقت نسيج المجتمع وتناغمه، وأضعفت أداء الحكومة وفعاليتها. بينما قاومت دول أخرى هذا التقليد، فطورت تجربتها تدريجيا، وبصدق، ضمن ثقافتها وتاريخها، ومن خلال إصلاحات اقتصادية وسياسية هادئة، وبتطوير مؤسساتها الحكومية والمدنية، كما حاولت الاستفادة من التجربة التنموية الأسيوية في اليابان وسنغافورة وماليزيا. والسؤال لعزيزي القارئ: هل انتهى العمر الافتراضي للديمقراطية الغربية برأسماليتها الفائقة، بعد قرنين من صراعاتها وتناقضاتها؟ وهل اقتنعت الشعوب العربية بعدم فاعليتها لمعالجة تحديات مجتمعاتهم المعقدة؟ وهل ستعمل العقول العربية على تطوير تجربة خاصة بواقعهم، تحقق الحداثة المعاصرة، وتوفر للإنسان العربي حريته، وكرامته، وإنسانيته، وازدهار مجتمعه، مع التنمية الاقتصادية المرجوة؟
يناقش البروفيسور البريطاني، جون كين، حقائق الديمقراطية الغربية في كتابه، حياة وموت الديمقراطية، بالقول: quot;لقد قطعت الممارسات السياسية في القرن الحادي والعشرين كالمنشار في جسم الديمقراطية، وهي لن تغفر للشعوب والسياسيين والأحزاب والبرلمانات تحويلها للعبة غير مؤثرة. فلم تعد آلية تدافع عن مصالح الشعب، كما زاد حجمها وتكلفتها أكثر بكثير من فعاليتها الحقيقية، وأصبحت أحزابها وبرلماناتها متحجرة، وبقايا لزمن مضى.quot; وعرض الكاتب تاريخ الديمقراطية، وناقش الصراعات الأوربية في القرن التاسع عشر والعشرين، التي حاولت تحقيق ديمقراطية توفر الحرية والرخاء لشعوبها، فعانت من أصحاب النفوذ بمحاولة إفشالها، باستخدامهم أنواعا مختلفة من الشيطنة والحيلة، كالمجالس الوراثية، ورفع نسب تمثيل أصحاب الأملاك والمتعلمين، والضغط على القوى العاملة للتصويت العلني أمام ممثلي شركاتهم. وضعفت المؤسسات البرلمانية بتدخل العسكر، كما هاجمها بعض المفكرين، ليعتبرها بسمارك حضانة يقيدها الأطفال، ووصفها توماس كريل بأنها متوحشة وصارخة وسافرة وصوت للفوضى، وانتقدها اوسكار وايلد بأنها ديمقراطية الضرب بالمضرب الشعب بالشعب وللشعب.
ويبدو بأن ديمقراطية التمثيل الحزبية قد قلت شعبيتها في القرن الواحد والعشرين، بعد أن ضعفت فعاليتها، وابتعدت عن تمثيل مصالح جماهيرها، وزادت فضائح نوابها. ففي عام 2000، قدرت نسبة المواطنين المنضمين للأحزاب في الهند وجنوب أفريقيا ب 10% من مجموع المواطنين، الذين يحق لهم التصويت في الانتخابات، وتعتبر هذه من أعلى النسب في العالم، بينما انخفضت هذه النسبة في الدول الأوروبية إلي 5%، بعد أن كانت 15% في عام 1960. فقد خسرت الأحزاب السياسية الفرنسية حوالي مليون من أعضائها، أي ثلثي مجموعها الكلي، خلال الفترة من عام 1980 وحتى عام 2000، كما خسرت الأحزاب الهولندية 50 % من أعضائها في نفس الفترة. وقل منتسبو الأحزاب البريطانية خلال الفترة من عام 1950 وحتى عام 2000، لينخفض عدد أعضاء حزب العمال من مليون إلى مائتي ألف، وحزب المحافظين، من مليونين ونصف إلى ثلاثة مائة ألف. وقد عانت هذه الأحزاب السياسية من الإفلاس المالي بعد فقدان شعبيتها، فاضطرت الاعتماد على طرق غير شرعية لجمع الأموال للدعاية لمرشحيها، لتتحول ديمقراطية التمثيل النيابي تدريجيا، لديمقراطية تمثل مصالح الأحزاب، والشركات الخاصة التي تمول حملات الدعاية الانتخابية الباهظة الكلفة.
وقد أدت ديمقراطية الغرب في القرن الواحد والعشرين، برأسماليتها الفائقة، لارتفاع تباين الدخل بين فئات الشعب لدرجة لم تشاهد منذ عشرينات القرن الماضي، لتختفي حقيقة الطبقة المتوسطة، وتزداد نسبة الطبقات الفقيرة، وترتفع نسب البطالة. فقد ارتفعت نسب البطالة في الولايات المتحدة من 5% إلى أكثر من 10%، وأنحصر 21.2% من الدخل ألأمريكي لعام 2005، في يد قلة لا تتجاوز 1% من مواطنيها، كما أرتفع الدخل السنوي للرئيس التنفيذي لأسواق quot;الول مارتquot; لما يعادل دخل تسعمائة من موظفيه، وزاد ثراء عائلة quot;الول مارتquot; إلى 90 مليار دولار، ليعادل مجموع ثراء 40% من المواطنين الأمريكيين الأقل دخلا. ولينتهي كل ذلك في عام 2008 بانهيار المؤسسات المالية، وانفجار فقاعة أسهم الوول استريت، والتي سببت خسارة الملايين من المواطنين لمنازلهم، وتقاعدهم ووظائفهم، وتأميناتهم الصحية والاجتماعية. وقد انخفض ثراء العالم إلي 40% عما كان قبل هذه الأزمة، فهيئ الظروف المناسبة لانتفاضة العولمة، لتفقد ديمقراطية الغرب مصداقيتها، بعد أن تحولت إلى أداة تشترى ممثلي برلماناتها الشركات العملاقة والمؤسسات المالية الخاصة، ولم تعد تقي من الفقر أو الحروب، ولا تحمي التلاعب في الانتخابات، ولم تعد تحقق التنمية المرجوة.
ويناقش مفكرو الغرب ضرورة تطوير ديمقراطية الألفية الثالثة، بالرغم من quot;موتquot; النظام السياسي اللبرالي الغربي بتمثيله النيابي، فيؤكد البروفيسور جون كين بأن: quot;الديمقراطية عملية مستمرة ومتغيرة، وتمثل حكم عدالة المتساوين، والتحرر من التسلط، والعنف، والظلم، والمطالب الميتافيزيقية.quot; ويبين المفكر الايرلندي سي أس لويس سبب هذه الضرورة بقوله: quot;أنا ديمقراطي، لأنني أومن بسقطة الإنسان لإغراءات السلطة، بينما يؤمن الآخرين بالديمقراطية لأسباب معاكسة. فالتفاؤل بالديمقراطية هو نتيجة للاعتقاد الشائع بأن الإنسان حكيم وجيد، لذلك يجب أن يكون لكل موطن سلطته في الحكم، وهنا تكمن الخطورة، فالحقيقة هي أن سقطة الجنس البشري لا تسمح بالثقة بأي إنسان لتسلمه قوة السلطة بدون محاسبة ومراقبة. وقد لا أخالف أرسطو في قوله، بأن بعض البشر لا يصلحون إلا عبيد، ولكني ارفض العبودية، لأني لا اعتقد بأن هناك إنسان يصلح لأن يكون سيد للعبيد.quot; وحيا الكاتب البريطاني، أي ام فوستر، الديمقراطية بقوله: quot;فتحيتي للديمقراطية، لأنها تتقبل الاختلاف، وتسمح بالانتقاد، وتوفر مشاركة ديمقراطية للسلطة، وهو خير سلاح بشري اخترع ضد الحماقة والكبرياء، الناتجة عن مركزية السلطة الغير محاسبة.quot;
ويتفق سياسيو الشرق مع الحكمة الغربية، بأهمية الديمقراطية، للمحافظة على استقرار مجتمعاتهم، واستمرار التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ليعلق نائب برلمان هونج كونج، مارتين لي، بقوله: quot;في الحياة كما في السياسة، لا نستطيع التأكد من أن القرار المتخذ هو القرار الصحيح، لذلك نحتاج لضمانة بأن من يقرر قرارات خاطئة يمكن أن يقال من مركزه.quot; وقيم الرئيس الصيني السابق، دينج، فعالية الأنظمة السياسية بقوله: quot;في النظام السياسي الجيد، يمكن أن يوقف الرجل الشرير عن عمله الشيطاني، بينما تكون المشكلة أعظم في النظام السيئ، حيث ينشط الشياطين، ليمنعوا الكفاءات من العمل الطيب، بل يدفعونهم أحيانا للعمل الشيطاني.quot;
فيبدو بأن النظام الديمقراطي الغربي قد أستنزف عمره الافتراضي، ليفقد تمثيله البرلماني فاعليته ومصداقيته، وخاصة بعد التطورات التكنولوجية للأعلام، والانترنت، والتلفون الرقمي، لتصبح quot;التلي بوليتكسquot;، باستفتاءاتها الشعبية، واستطلاعات الرأي، آلية ديمقراطية الألفية الثالثة. والسؤال لعزيزي القارئ: هل سيستفيد العرب من انتفاضة العولمة للعمل لتحقيق إصلاحات تنموية ملموسة؟ أم ستتحول هذه الإنتفاضة، مع الوقت، لحركات انقلابية، تبرز فيها دكتاتوريات مهوسة؟ وهل سيبدءا العرب من حيث انتهى الغرب لا من حيث بدأ تجربته الديمقراطية، ليتجنبوا أخطائهم، ويستفيدوا من نجاحاتهم؟ وهل حان الوقت للاستفادة من quot;أعمدة الحكمة الغربية السبع: ثقافة السلم، البرغماتية الواقعية، الكفاءة والأداء، القانون والتعليم، اقتصاد السوق الحرة، والعلوم والتكنولوجيا، وتتجنب التقليد الأعمى لليبراليتها السياسية المضطربة؟quot;
سفير مملكة البحرين في اليابان