من مفكرة سفير عربي في اليابان
دعا جلالة ملك مملكة البحرين، الملك حمد بن عيسى آل خليفة، حفظه الله، لحوار التوافق الوطني، كما شكل جلالته لجنة دولية من خبراء دوليين في مجال حقوق الإنسان والقانون الدولي، للتحقيق في الأحداث التي وقعت في شهري فبراير ومارس الماضي. ولا شك بأن تقيم دولي للمرحلة الماضية، وتحقيق حوار لوضع أسس دولة حداثة معاصرة للمرحلة القادمة، سيكون مهم لمستقبل شعب مملكة البحرين وأجياله القادمة، في مجتمع العولمة الجديد، وفي قريتنا الكونية التكنولوجية الصغيرة، ولكن: كيف سيكون مستوى هذا الحوار بين الأطياف السياسية المختلفة؟ وهل ستنشغل الأطراف المتحاورة بايديولوجيات القرن التاسع عشر الحالمة، أم سيركزون على تحديات العولمة، ببرغماتية واقعية، لتحقيق التنمية المرجوة؟ وهل ستلعب الحكمة دورا في خلق حوار متنوع، يتجنب الانفعال والتطرف، يحترم الاختلاف، يهتم بنقاط الاتفاق، ويبتعد عن نقاط الخلاف؟ وهل ستستخدم أطراف الحوار دبلوماسية الصفر، بفوز فريق لكل شيء والخسارة الكاملة للفريق الآخر، أم دبلوماسية فوز جميع الأطراف المتحاورة وبثقة؟ وهل سيستفيد المتحاورون من مآسي تاريخ الشرق الأوسط، بعد أن حولت الصراعات حضارات عريقة، ودول نفطية ثرية، لبلدان فوضى دموية؟ وهل سيركز أعضاء لجنة الحوار الأفاضل على مستقبل الأجيال القادمة، لخلق مجتمع متناغم مستقر وآمن، ليتحقق الازدهار المستقبلي؟
خلق الخالق، جل شأنه، الإنسان بجسم وعقل وروح، فجمع العقل مختلف أنواع الذكاء، والتي من أهمها، في العمل السياسي، خلطة من الذكاء الذهني والاجتماعي والعاطفي والروحي. فالذكاء الذهني يوفر للسياسي قدرات التفكير للبحث والتحليل في المعضلات المجتمعية، والذكاء الاجتماعي يساعده على العمل المتناغم بمشاركة مجتمعية لمعالجة هذه المعضلات، وأما الذكاء العاطفي يوفر الحكمة للتوجيه الانفعالات والعواطف لخدمة تناغم الحوار، بينما يبعد الذكاء الروحي المتحاور عن التركيز على المصالح الشخصية القصيرة الأمد، ليتفرغ للمصالح المجتمعية المشتركة والطويلة الأمد. وقد درس البروفيسور تشارلز كوبشان، أستاذ الشؤون الدولية بجامعة جورج تاون الأمريكية، تاريخ الخلافات في العالم والحوار الناجح، ولاحظ أهمية دبلوماسية حكمة التنازل واعتراف كل طرف بالآخر، واحترامه، وتفهم ظروفه، ليعزز بذلك التكيف، والتوافق الاستراتيجي، اللازمين لتبادل الثقة لخلق مجتمع مسالم، ليتحقق الاستقرار، ويقبل كل طرف بقاء الآخر، ويتبعه علاقات تقارب، يهيئ لتعاون اقتصادي، وود اجتماعي. كما أكد على ضرورة التعامل مع الأعداء كوسيلة مهمة لإنهاء العداء المزمن، المترافق بالعزلة والتطويق، وتغيره لحوار التكيف والمواءمة، وبقدر ما تكون مهارات حوار الدبلوماسية متمكنة، بقدر ما تستطيع أن تحول أعداء الماضي لأصدقاء المستقبل. ويقسم البروفيسور آلية نجاح الحوار لأربع مراحل، تبدأ بالمواءمة من طرف واحد، تتبعها التوافق من الجهة المقابلة، وتجمعها أمل الشراكة، لتبدأ مرحلة تبادل الحكمة وضبط النفس، وتقييم كل طرف حوافز الطرف الآخر، لغرس الثقة وبدأ التعاون المبرمج، لتتحقق مرحلة التالف الاجتماعي، باختلاط مواطني طرفي الخلاف وإعجاب كل منهما بمميزات الآخر، وتكتمل المرحلة النهائية بتعمق التكامل الاجتماعي، لتتولد هوية عامة، تشرع مؤسسات مشتركة للحكم، وتهيئ الطريق لدولة حداثة عصرية.
وتؤكد أبحاث البروفسور أدوارد ديبونو، الطبيب النفسي، وأستاذ العلوم الذهنية والتفكير والذكاء بجامعتي كمبريج وهارفرد، أهمية آلية التفكير المتوازي في الحوار الناجح، ويعرفه بقوله: quot;تعبير مغاير للطريقة التقليدية في النظر للأشياء والمعضلات، ودراستها، وتخطيط مستقبلها، وهو مرتبط بالإدراك (الطريقة البصرية والنفسية التي ينظر بها العقل البشري للوقائع التي أمامه)، وهو تفكير تنفيذي منتج ومبدع، يدرس المعطيات، وينظم المعلومات، ويربطها بالخبرات السابقة، ليخطط لاحتمالات التعامل مع المعضلات العلمية والاقتصادية والسياسية.quot; وترتبط آلية التفكير في الحوار بالذكاء، ولو دققنا بدراسة تاريخ العلوم لوجدنا بأن الكثير من الاختراعات هي نتيجة تغير طريقة التفكير عن الطريقة التقليدية، فحينما يفكر الإنسان في المعلومات والمعضلات المتواجدة حوله بطريقة مختلفة ومبدعة يتولد مفهوم الاختراع الجديد. فكلنا نشاهد قشرة الموز تسود بنقط تتزايد يوميا، ولكن لا احد منا فكر لماذا يحدث هذا الاسوداد، وحينما فكر شخص في هذا السؤال حصل على جائزة نوبل، لأن تفكيره أدى لاكتشاف الفيتامين quot;سيquot;، والذي يسبب نقصه مرض الإسقربوط.
ويعتقد البروفيسور دي بونو بأن آلية التفكير الغربية لم تعد مناسبة اليوم فيقول: quot;سبب فشل طريقة التفكير الغربية التقليدية لأنها لم تهيئ للتعامل مع التغير، بينما يتجنب التفكير المتوازي الإحكام المسبقة للتفكير التقليدي، لينتقل لتفكير الاحتمالات الكثيرة والمتوازية. تفكير يدرس ماذا يمكن أن يكون لا ما هو كائن ألان، يهتم بالتصميم والاختراع، ولا ينحصر فقط بالاكتشاف والبحث. التفكير التقليدي يعتمد على إحكام متحجرة أنية (نعم/لا، صح/خطاء، حقيقة/كذب)، التفكير المتوازي يتقبل احتمالات بدون أحكام مسبقة. التفكير التقليدي يهتم بالمنطق المتحجر، الذي تترسب فيه الأفكار بعضها على البعض كطبقات متكلسة، لا يمكن تحريكها بسلاسة. بينما يهتم التفكير المتوازي بالمنطق المائي، كموجات الماء تتحرك بسلاسة متغيرة تحرك أفكارها حين تحتاج الاستفادة منها. التفكير التقليدي يضع الانقسام والإنكار ليفرض الاختيار، التفكير المتوازي يتقبل الإطراف المتناقضة ليكتشف الاحتمالات، التفكير التقليدي يعتقد بأن المعلومة حقيقة والأحكام أحكام كافية، بينما يبحث التفكير المتوازي من خلال المعلومة على الابتكار والإبداع. التفكير التقليدي يؤمن بأنك حينما تزيل الأشياء السيئة تبقى الروائع، التفكير المتوازي يعمل ليصمم الروائع. التفكير التقليدي يستعمل الجدل المتناقض والتفنيد للاكتشاف، التفكير المتوازي يستعمل التقارب والتعاون.quot;
وما أحوجنا اليوم في حوار التوافق الوطني لتفكير مبدع ومنتج، يدرس المعطيات بميزان متوازي ويستنبط الاحتمالات الممكنة بصدق وتجرد، ويعلق دي بونو على ذلك بقوله: quot;وقد نقبل بأن ما حولنا من فقر وتلوث بيئي وحروب متكررة وفوضى محلية هي نتيجة طبيعية للتغير والسلوك الإنساني، وسنتعامل معها كما تعاملنا مع غيرها من قبل. ولو تجاوزنا هذه الطاعة وتساءلنا: هل سبب مشاكلنا هو تفكيرنا الناقص؟ وهل هو السبب في صعوبة تعاملنا مع التحديات الحياتية؟ وهل ستتغير النتائج بتغير طريقة تفكيرنا.quot; ويعتقد البروفسور بأن طريقة التفكير الغربية التي حددها سقراط وأفلاطون وأرسطو، كانت مهولة لتقدم الحضارة البشرية، ولكن قد لا تكون الطريقة المناسبة لعالم العولمة المعقد والمتغير بسرعة هائلة. فيتساءل: ما هي الحقيقة السقراطية المتكلسة التي نبحث عنها؟ وكيف نعرف بأننا وجدناها؟ ولنتذكر بأن كل منا في مجتمعاتنا العربية يملك الحقيقة، ونقاتل بعضنا البعض لان كل منا يعتقد هو الذي يملكها والغير، على خطأ وضلالة. ويخالف التفكير المتوازي كل ذلك، فلا يعتقد بأن أحد يملك الحقيقة، وليس بين البشر حقيقة، بل احتمالات يستفاد منها لتجاوز المعضلات، ويعني ببساطة بأن نضع الأفكار بجنب بعضها البعض، وبدون تناقض، وبدون اختلاف، وبدون الحكم المسبق بالحقيقة/الكذب، بل برغبة صادقة لدراسة الاحتمالات، وتجاوز الأزمات. الطريقة التقليدية السقراطية لحل المعضلات هي جمع المعطيات، تحليل المشكلة، اكتشاف السبب، والتخلص منه؟ ولكن لنتساءل ما العمل إن لم نكتشف السبب، أو إن لم نستطع إزالته؟ وهنا يؤكد التفكير المتوازي على تجاوز الأسباب والبحث عن طريقة أخرى للتحرك للأمام.
ومع الأسف، جميعنا لا نحب الجديد ونخاف منه ونقلق من نتائجه، لأننا نعتقد بأن الحلول الغير مترافقة بالتخلص من الأسباب هي حلول مؤقتة. كما أن هناك سبب أخر للقلق من أهمية التحرك للأمام، وهو الحاجة لمفاهيم الإبداع، فخيار الإبداع صعب لأننا لم نتدرب عليه، بل تعلمنا بان تحليل المشكلة كافي لإيجاد حلها، ومنهج تعليمنا يعتمد على التحليل ولا مكان للإبداع فيه. والتفكير المتوازي يقترح لكي نتعامل مع المعضلة نحتاج للتصميم والأصرار للتحرك للإمام. فهدفنا البناء، ولن نستطيع البناء إذا لم نتحرك للأمام في التعامل مع العوائق والمعضلات. فحينما نفكر في الإصرار للتحرك للأمام نتجاوز الأسباب وحلولها. وهذا ما عمل من خلاله الشعب الياباني بعد الحرب، فالأرض محتله ودستور الحلفاء غريب على الشعب، ولا توجد موارد طبيعية، والمدن محروقة، والبنوك خالية من الأموال، والجزر الشمالية quot;محتلةquot;، ومع ذلك قرر أن يعمل من خلال جميع هذه العوائق، لا أن يزيلها، ويتحرك للأمام، ويتعاون مع عدوه ليبني بلاده.
ويؤكد البروفسور دي بونو بأنه: quot;من الجنون أن نستمر في الاعتقاد بان تحليل المشكلة يكفي لحلها، ونحن نطبق نظرية إزالة السيئ لتبقى الروائع. وقد كانت هذه الأفكار كافية لإزالة شاه إيران، والرئيس ماركوس في الفلبين، ونظام التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا، والشيوعية في الاتحاد السوفيتي. فنحن قادرون على العمل ضد شيء نعتقد بأنه خطئ، ومعظم الثورات عملت ضد شيء معين تعتقد بخطئه، ولكن ماذا حدث بعد ذلك، فوضى ووضع أسوء من قبل، لذلك يجب أن نطور التفكير التنفيذي البناء.quot; ومع الأسف الشديد تعليمنا في الوطن العربي يدرب على الوقوف ضد الأشياء وانتقادها، فنحن منتقدون بارعون ونستطيع أن نقف ضد شيء ما وندمره، ولكن لدينا العجز وكل العجز في أصلاح الشيء وتطوير بناءه. فالهدم سهلا جدا، ولكن البناء يحتاج لكثير من المهارات الذهنية والخبرات الحياتية، وحكمة التصرف. ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين باليابان