من مفكرة سفير عربي في اليابان
أنصدم العالم من ما شاهده من حرائق، وعنف، في وسط عاصمة الديمقراطية اللبرالية الغربية، لندن، وتساءلت شعوب العالم عن سبب ما حدث، في دولة ديمقراطية عريقة، وقد أختصر الجواب رئيس وزراء بريطانيا، ديفيد كاميرون، بقوله: quot;أجرام، ببساطة صرفة.quot; كما أكد جوابه أحد قيادات الشرطة البريطانية بقولة: quot;بصراحة مطلقة، ليس لهؤلاء الشباب أي سبب، للاحتجاج ضده.quot; ويبدو بأن الصحافة العالمية اختلفت مع وجهة النظر هذه، فعلقت مجلة النيوزويك، في شهر أغسطس الماضي، بمقال كتبه الصحفي ساسكيا ساسن يقول فيه: quot;في أي انتفاضة، هناك عناصر ممتزجة، تؤدي لتجاوز قمة الاستياء، والنزول للشارع. وفي بريطانيا، التقت ثلاثة قوى أدت للشغب: الأولى إحساس الشباب بأن الشارع هو الفضاء الخاص للاحتجاجات السياسية، للذين لا يملكون الأدوات السياسية التقليدية... والثانية الخسائر الاقتصادية التي تعرضت لها المناطق الفقيرة من المدن، كفقدان الوظائف، والاستحقاقات المرافقة، وفقدان خدمات الحكومة الاجتماعية والثقافية... والثالثة شبكات التواصل الاجتماعي. كما علق صحفي مجلة التايم الأمريكية، لنثان ثورمبرج، بقوله: quot;وخلف ما يبدو من فوضى، يكمن الاستياء في بريطانيا المعاصرة، ولنبدأ بمؤشر جني للتوزيع العادل للثروة، حيث تسجل بريطانيا أسوء توزيع للثروة، بين الدول الأوربية، فثلث الدخل البريطاني، ينحصر في يد 5% من المواطنين، ولا توجد دولة أوروبية أخرى تتركز فيها الثروة في يد قلة بهذا الشكل. وسجلت بريطانيا، مؤخرا، أسوء أرقام للتحرك الاجتماعي، فمن يولد في طبقة معينة، يبقى فيها عادة طوال حياته. وتشارك الولايات المتحدة بريطانيا هذا التباين، حيث أن ثلث الدخل الأمريكي يتركز بين 5% من المواطنين.quot;
ويرجع كل ذلك التباين المجتمعي في الدخل لفقدان الرأسماليتين البريطانية والأمريكية بعض من مسئوليتها الاجتماعية، بعد أن تحالفت رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، مرجريت تشر، مع الرئيس الأمريكي السابق، رونالد ريجن، ليناضلا معا في تنفيذ نظريات عالم الاقتصاد الأمريكي، ملتون فريدمان، المتعلقة بالرأسمالية الفائقة، وخصخصتها المتوحشة، وبسوقها المنفلتة عن الأنظمة والقوانين، مما أدى لفقدان القوى العاملة الكثير من وظائفها، وحقوقها، والقوانين المنظمة لهذه الحقوق. وقد برزت نتائج هذه النظريات، بعد ثلاثة عقود، بتباين شاذ للدخل، وزيادة الطبقات الفقيرة، مع انخفاض مسئوليات الرعاية الاجتماعية للفئات المحتاجة، وبدء تقلص الطبقة الوسطى، ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل انتهى العمر الافتراضي للرأسمالية الفائقة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بعد عقدين من انهيار النظام الشيوعي؟ وهل هناك حاجة لطريق ثالث، لتحقيق سوق عولمة حرة، منضبطة بالأنظمة والقوانين، توفر البضاعة والخدمة، بتنافس عادل، وتحافظ على حقوق الموارد البشرية، واحترامها، وسعادتها، لتزيد من إبداع إنتاجيتها، كما تلتزم فيها الدولة بمسئولياتها الأمنية والدفاعية، والرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية، وضمان التقاعد والتعطل؟
كتبت مجلة الايكنوميست البريطانية الاقتصادية، في شهر يناير الماضي، مقالا بعنوان الأثرياء والبقية، تقول فيه: quot;الرئيس الصيني، هيو جنتاو، ورئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كامرون، والمياردير الأمريكي، ورون بوفت، ورئيس صندوق النقد الدولي (السابق) دومينيك ستراوس كان، يجمعهم القلق العالمي من زيادة الفجوة بين الأثرياء والبقية. فبينما يركز السيد هيو على خفض فجوة الدخل لخلق مجتمع متناغم، يؤكد ديفيد كاميرون بأن المجتمعات المتباينة في الدخل، تسجل أسوء مؤشرات نوعية الحياة، بينما يطالب ستراوس كان بنموذج عولمي جديد، حيث أن هذه الفجوة في الدخل، تهدد الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، ويبدو بأن الكثيرين يشاركونهم هذا القلق.quot; ففي استفتاء لتجمع ديفوس في هذا العام، أعتقد المجتمعون بأن فجوة التباين في الدخل أولا، وفشل حكومات العولمة ثانيا، هما الخطران الرئيسيان في العالم للعقد القادم.
كما عرضت مجلة الأيكنوميست، في شهر أبريل الماضي، استفتاء عالمي عن درجة تراجع الأيديولوجية الرأسمالية، فأتفق 80% من الأمريكيين في عام 2008، بأن نظام السوق الحرة هو أفضل الأنظمة الاقتصادية في العالم، لتنخفض هذه النسبة اليوم إلى 59%. وكانتا الصين، والبرازيل، من أكثر الدول تأييدا لها، وبنسبة 68%، وتصدرت قائمة التأييد ألمانيا بنسبة 69%. وبقت فرنسا أكثر الدول عداءا للسوق الحرة، بدعم لا يزيد عن 6%، بينما انخفض التأييد في تركيا إلى 27%، وفي الهند من 73% إلى 58%. وهناك رضا شعبي بالنظام الديمقراطي اللبرالي، وبنسبة 90% بين الأمريكيين والأوروبيين، ولكن يطالبون بتطوير الديمقراطية، بعد انخفاض الثقة ببرلماناتها، لتحولها لمجالس أيديولوجية، بدل تركيزها على تحقيق الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية المرجوة.
يقول المثل الصيني: أعطني سمكة تغذيني اليوم، وتشتري كرامتي، علمني صيد السمك ستغذني مدى الحياة، وتحافظ على إنتاجيتي، وإبداعاتي، وإنسانيتي، وكرامتي. لذلك تعتبر الإعانة في المجتمع الياباني إهانة للإنسان، ففي نظر اليابانيين كرامة الإنسان لا تسمح بأن يكون عالة على الآخرين، كما أن كرامة الوطن، لا تسمح بأن يكون مواطن في حاجة للمساعدة من مواطن أخر. فالعمل كرامة للأنسان، ليوفر من خلاله حاجياته، ويبدع، وليلعب دورا في إنتاجية بلاده، وتطوير اقتصادها، كما يقيه من الإقصاء الاجتماعي. لذلك هناك حاجة لتطور القوى البشرية بالتعليم والتدريب المستمر، للتعامل مع تحديات سوق العمالة العالمية المتغيرة، ولتهيئة موارد بشرية متدربة، مرنة، تستطيع تحمل مختلف أنواع المسئولية، مع تغيرات حاجة السوق، والتطورات السريعة، بتنوع صناعة البضائع، والخدمات التكنولوجية المرافقة.
وقد ناقش البروفسور البريطاني، أنطوني جدنز، مدير كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، المعقل الأكاديمي للاقتصاد الرأسمالي، في كتابه الطريق الثالث، الحاجة لطريق آخر، بعد ما تجاوزت التطورات التكنولوجية، الحلول الاقتصادية والاجتماعية القديمة، التي طرحتها النظريات الرأسمالية والاشتراكية. وأقترح هدف عام لسياسة الطريق الثالث، لمساعدة المواطنين لاختيار طريقهم، من خلال الثورة الكبيرة التي نعيشها اليوم، بين العولمة، والتحولات في الحياة الشخصية، والعلاقة مع الطبيعة. ويعتقد البروفيسور بأن هناك حاجة لخلق التوازن بين العدالة الاجتماعية والحرية الفردية، وطالب بتعريف جديد للحقوق والواجبات، quot;فلا حقوق بلا واجبات، ولا سلطة بلا ديمقراطية.quot; كما أكد على ضرورة إعادة مجتمع القيم والأخلاق، والمحافظة على تناغمه مع الطبيعة، والحاجة لمعرفة كيفية التعامل مع العولمة، والتطورات العلمية والتكنولوجية المرافقة لها، بالإضافة لأهمية فلسفة المحافظة على الثقافة المجتمعية والتقاليد المنظمة، وأحترم الإجماع العالمي، وتجنب الشذوذ عنه. ويعتقد جدنز بالحاجة لرؤية مستقبلية، للتعامل مع التحديات القادمة، بتالف الحكومات مع عالم العولمة، واستيعابها للتحولات التكنولوجية في الإعلام والسياسة، وتجدد شرعية السلطة على اسس ايجابية، وديمقرطة الديمقراطية باللامركزية، وربط قرارات الحكومات بالوضع المحلي مع الأوضاع العالمية.
ويقترح البروفيسور بالحاجة لزيادة الشفافية، وتحديث الدساتير والأنظمة، وزيادة كفاءة الحكومة، باهتمامها بالتخطيط، وخفض مسؤولياتها التنفيذية، ونقل قطاع الخدمات للقطاع الخاص بقوانين منظمة صارمة، مع تنظيم تأمين الخدمات الاجتماعية في الرعاية الطبية والتعليمية والتقاعد وحالات البطالة المؤقتة، وبالا يحرم أي مواطن من هذا التأمين. كما أكد على أهمية التفكير المبدع، لاختراع مفهوم جديد للحكومة ومسؤولياتها، وطرق جديدة لرفع مستوى كفاءتها أمام سلطة السوق، وتطوير التواصل الاجتماعي المباشر بين الحكومة وافراد الشعب، وذلك بنوع من الديمقراطية المباشرة، والاستفتاء الالكتروني، لدراسة القرارات الحاسمة مع الشعب. كما أن هناك حاجة لديمقرطة القضاء، بتوفير محلفين من الشعب، وضرورة مشاركة المواطنين في مناقشات البرلمان وقرارات الحكومة، من خلال الانترنت، وتدريب المواطن على المناقشة والتعامل مع المعضلات المجتمعية المعقدة، وأعطاء المؤسسات الشعبية والمحلية دورا، للمشاركة في أيجاد الصيغ المناسبة للتعامل مع التحديات المجتمعية. وناقش البروفيسور تحديات العولمة، بعد أن بدأت تختفي الحدود بين الدول، بوسائل الإعلام، والانترنت، والفيسبوك، والتويتر، وبرزت الاتحادات الاقتصادية الكبيرة، كالاتحاد الأوربي، وبدأت تبرز على السطح ثقافة عولمة فسيفسائية ملونة، بدأت في الولايات المتحدة، وأخذت تنتشر من خلال إعلام التلفزيون، والإذاعة، والصحافة، والكتب، والأفلام السينمائية، والانترنت. ويعتقد البروفيسور بأن العولمة كانت السبب الرئيسي لفجوة تباين الدخل، كما أثبتت حرب العراق بأن زمن الامبرياليات قد انتهى، ومفهوم القوى العظمى قد بهت، وانتصار الحروب قد أصبحت خرافة أسطورية. ويبقى السؤال: هل سيختار العرب طريقهم الثالث حسب ظروفهم وقيمهم، لتنمية اقتصادهم، وتطوير مجتمعاتهم، ليتعاملوا مع تحديات العولمة بنجاح، مع المحافظة على استقرار وأمن بلدانهم؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان