يبدو أن الأوضاع في منطقة الخليج العربي أخذت منحى تطورات جديدة، بعد الإنذارات الإيرانية بغلق مضيق هرمز، ورجوع البوارج الأمريكية لمياه الخليج العربي. كما سيكون للإسلام السياسي دورا مهما في التطورات المستقبلية لإرهاصات ثورات، ما يسمى، بالربيع العربي، وعلى قياداتها مسئولية القرار في اختيار نموذجا لنظام حكم معاصر، يحقق لشعوب بلادها التنمية الاجتماعية والاقتصادية والروحية، وهي أمام نموذجين للاستفادة منهما لتطوير تجربتها العربية، وهما النموذج الثوري الإيراني، والنموذج الإصلاحي التركي. وهنا سنكمل مناقشة التجربة الإيرانية، لنكرر طرح الأسئلة التالية: هل هناك بوادر حرب جديدة بين الغرب وإيران؟ وكيف ستكون نتائجها على مجتمع العولمة الكبير؟ وما السبب وراء تكرار الحروب المزمنة في الشرق الأوسط؟ ولماذا يصر النظام الإيراني تصدير ثورته للخارج بالقوة؟ ألم تفشل عملية تصدير الثورات بالقوة في القرن العشرين، بل أدت لإفلاس دولها، وانهيارها؟ أليس الأسلوب المعاصر للتصدير الديمقراطي لتجربة بلد ما، هي القوة الناعمة، بعد إعجاب شعوب العالم بنجاحاتها في تحقيق الحرية، والرخاء، والسعادة، والأمان، لشعبها؟ ولو عاش الأمام الخميني، رحمه الله، هل سيعتبر الجمهورية الإسلامية نموذج لثورات الربيع العربي؟ أم سيفضل النموذج التركي للإصلاحات الدنيوية؟ وهل سيقبل بأن يدير شؤون دولة معاصرة القيادات الدينية؟
خير من درس التاريخ المعاصر لمنطقة الشرق الأوسط، وأهتم بدراسة الثورة الإيرانية بتعمق، هي المفكرة والبروفيسورة الغربية، روبن وايت، وقد جمعت نتائج دراساتها المستفيضة في كتابها، الأحلام والظلال، معضلة الثورات في الشرق الأوسط، ولنكمل هنا مناقشتها عن الثورة الإيرانية، حيث عرضت توقعات الإمام الخميني عن المجتمع الجديد، والذي وصفه في مقابلة مع صحيفة، دير شبيجل، الألمانية، في عام 1978، بقوله: quot;مجتمعنا المستقبلي سيكون مستقبل حرا، وسيقضي على جميع آليات القمع، والوحشية، والفرض.quot; وقد عانت الثورة الإيرانية، منذ البداية، صراعات مختلف القوى الوطنية، وأستاء الإمام الخميني، بالأخص، من صراعات بعض رجال الدين السياسيين على السلطة، ووبخهم بقوله: quot;توقفوا عن عض بعضكم البعض، كالعقارب.quot; وحينما تفاقمت نزعاتهم على السلطة، زاد انتقاده لهم بالقول: quot;زرع النزاعات بين علماء الدين من أسوء الذنوب.quot; فلم يكن راضيا، رحمه الله، بأي دور لرجال الدين في السلطة، لإيمانه بأن إغراءات السلطة الدنيوية قد تفسد، وبأن استلام بعض رجال الدين لهذه السلطة، وبإدارتهم للسياسة باسم الدين، قد يحول حكمهم مع الوقت لسلطة مطلقة، قد تعيد تجربة استبداد الشاه من جديد. وقد صرح الأمام الخميني لصحيفة الليموند، الفرنسية، في عام 1979، خلال رجوعه لإيران بالقول: quot; نيتنا بأن لا يستلموا رجال الدين الدولة.quot; وحينما زادت النزاعات حول المراكز، وقوت مواقع بعض رجال الدين السياسية، اضطر الأمام الخميني رفع الحضر عنهم للمشاركة في السلطة، ليؤدي ذلك لانتخاب خامنئي رئيسا في عام 1981، بل وليخلف الأمام الخميني، بعد وفاته، في عام 1989، كالمرشد العام للثورة.
وبعد أن تصاعدت الأصوات المعارضة ضد الدور السياسي المتشدد لبعض رجال الدين السياسيين، استاء الرئيس خامنئي غضبا وانفعالا، من تزايد هذه الأصوات، لينتقدهم في عام 1995 بقوله الفوقي المطلق: quot;يحزنني أن أرى الذين يعتبرون جزءا منا، يتفهمون الحقيقة بطريقة ملتوية، وينشرونها. فتفسير الدين، ليس علما يستطيع فهمه الجميع، فالفقه هو العلم الرئيسي لرجال الدين، وما يواجهه بعض رجال الدين من معارضة، يفرح الصهاينة والأمريكيين، لأنهم وجهوا قلوبهم لتحطيمهم. وسيصفع النظام الإسلامي هؤلاء، بالقوة على وجوههم.quot; وقد تبين هذه المقولة شخصية هذه القيادة السياسية-الدينية، حيث يبدو بأنه تناسى بأن الناس تناقشه في أمور الدنيا والسياسة، وليس في أمور الدين والآخرة. وقد استمرت الخلافات في تفاقم متصاعد بين القوى السياسية الوطنية، وبعض رجال الدين السياسيين المتشددين، لينتقد الثورة وتصرفات حكومتها في عام 1989، أحد أعمدة النظام والثورة، وهو آية الله علي منتظري، الذي سماه الإمام الخميني بثمرة حياتي، وعينه خليفة له في بدايات الثورة، بقوله: quot; لقد فشلت الثورة في تحقيق وعودها، وتحتاج الحكومة لإصلاح حالها. ولا يجوز لها أن تحارب الأفكار المعارضة بالقتل، لأنه لا يمكن حل أية مشكلة بتلك الطريقة، بل يجب الرد عليها بأفكار أقوى. وإذا استمرت الحكومة بتجاهل المعارضة فستتحول كلماتها لرصاصات قاتلة.quot;
كما أختلف علماء الثورة على فلسفة ولاية الفقيه، فالبعض أيدها بشدة، بينما تحفظ عليها البعض الآخر، لاعتقاده بأنها تخالف الفلسفة التقليدية للدين الإسلامي. ومن أوائل ثوار، ومفكري الثورة، الذين تحفظوا على هذه الفلسفة، هو المفكر الإسلامي الإيراني محسن كاديفار، والذي شرح تصوراته بالقول: quot;كل فرد في المجتمع، وكل فرد في الحكومة محكوم بالقانون، ولا يمكن أن يكون أحدا فوق القانون، فالجميع لهم حقوق متساوية. وتعتمد جذور فلسفة ولاية الفقيه على عدم المساواة، وتفرض بأنها فوق القانون. فجاء الوقت لكي يلزم مركز المرشد العام للثورة بالدستور، فهذا المركز ليس لرسول من الله، ولا لإمام معصوم عن الخطأ، بل هو مركز لبشر مثلنا. فقد حول هذا المركز القوة المطلقة لولاية الفقيه، لقوة غير عادلة وغير شرعية، كمثل سلطة الشاه الغابرة. وفي الحقيقة، من واجب رجال دين التبحر في الدين، ونشر أخلاقياته الروحانية الدائمة، لا أن يتنازعوا في متاهات سياسة، لمصالح دنيوية فانية. وسيرجعون هؤلاء بأفكارهم الجمهورية الإسلامية الإيرانية للوراء، بدل أن يدفعوها للأمام، في اتجاهه المستقبل.quot;
وحينما زادت أوضاع الثورة تعقيدا، ولاحظ آية الله حسين كاظماني بوروجيردي، خطورتها، على سمعة الدين الإسلامي، علق بقوله: quot;أن أكثر الضحايا إصابة من هذا النظام هو الدين الإسلامي نفسه، فيصر النظام أن يلتزم الشعب بالإسلام السياسي، أو يدخل السجن أو ينفى أو يقتل. ويبدو بأن الشعب قد مل من الدين السياسي، ويطالب بالرجوع لدينه التقليدي الروحاني.quot; وقد امتد هذا الخلاف حتى ضم عائلة المرشد العام نفسه، فأخوه الأصغر الشيخ هادي quot;ثائر غير عادي،quot; وقد سجل اسمه كمرشح لانتخابات عام 1998 لمجلس الخبراء، الذي من اختصاصه اختيار المرشد العام للثورة ويراقب أدائه، فرفضته السلطة بحجة عدم تأهله، وقد علق على الأوضاع السياسية في البلاد بقوله: quot;أهم شيء ننظر له اليوم في إيران هو تطبيق القانون. ويعني ذلك بأن لا أحد منا، مهما يكون مركزه، فوق القانون. ومع الأسف، الموجودين في القمة، لا يريدون قبول هذا الحق الأساسي، ويعتبرون أنفسهم فوق القانون، مع أن غالبية رجال الدين ليسوا في السلطة، وهم مقتنعين بما أقوله، ويعارضون الحكم السياسي الديني.quot;
كما علق أكاديمي جامعة طهران، هادي صيمتي، بقوله: quot;هناك، على الأقل 95% من رجال الدين، الذين لم يستفيدوا من الثورة، فبعضهم حصل على المال والسمعة، ولكن الأغلبية فقراء، ولم يكونوا يوما جزءا من تركيبة السلطة.quot; ويبدوا بأن الحقد قد انتشر بين الشعب الإيراني، ضد بعض رجال الدين السياسيين المتشددين، لذلك بدأ الفقراء من رجال الدين البعيدين عن السلطة، بالإحساس بالإهانة في المجتمع الإيراني، ويعكس ذلك رواية أحدهم بقوله: quot;تركت قريتي، وذهبت بقرب الشارع، وانتظرت التاكسي، تحت ظلال شجرة، في عز حر الصيف، وحينما وصلت السيارة، وأخذني السائق معه، وإذا به فجأة يتوقف، ويطلب مني النزول، فحينما سألته عن السبب، قال: لأحرم عليك التظلل بظلال الشجرة، ولكي تعاني هنا من حرارة الشمس الحارقة، في وسط الشارع، قبل أن تحرقك نار جهنم.quot; وتعكس هذه الحادثة مدى شدة الصراع في المجتمع الإيراني حول أيديولوجية الدين السياسي، وانشغال بعض رجال الدين السياسيين، بالنزاعات الدنيوية، وعدم تفرغهم لأمور دينهم، وممارسة اختصاصهم، بنشر قيم، وأخلاقيات والسلوك الروحاني، بين أفراد المجتمع، والذي في أشد الحاجة له مجتمعات عالمنا المادي اليوم. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان