من مفكرة سفير عربي في اليابان

منذ شهر فبراير عام 2011، أنكشف للعالم، مدى سوء بعض قيادات الشرق الأوسط الحاكمة والمعارضة، وخير مثل لذلك القائد المغوار الكولونيل معمر القذافي، الذي لم يعاني فقط شعب بلده منه، بل أيضا عاني من مغامراته شعوب العالم اجمع، في الدول الأوروبية والأمريكية والأفريقية، بل وحتى في العالم العربي. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: كيف يتحول جندي بسيط لهتلر صغير؟ وهل لذلك علاقة بالظروف المحيطة به؟ وما هي هذه الظروف؟ وهل هي ظاهرة متمركزة في القيادات فقط، أم هي ظاهرة منتشرة في مختلف السلم الاجتماعي، من هتلر صغير في قيادة شركة، إلى هتلر صغير في قيادة العائلة؟
لقد حاولت المجلة الاقتصادية البريطانية، الايكونوميست، في عددها الصادر، في الحادي من شهر أكتوبر الجاري، الإجابة على هذه الأسئلة في مقال بعنوان: كل سلطة معرضة للفساد، ولكن سلطة بدون مرتبة رسمية تفسد مطلقا. فبدأت المجلة بالقول: quot;قد أدخلت على اللغة الإنجليزية، خلال الحرب العالمية الثانية، تعبير جديد، الهتلر الصغير، لتعبر عن موظف بسيط حقير، يستخدم كل سلطته، لكي يزعج ويحبط الآخرين، لكي يرضي غروره الشخصي، ويكبر. وقد أنتشر طاعون الهتلر الصغير في القرن العشرين بين دجالي الملاهي الليلية، وحتى بين جنود القطاع الخاص لسجن أبو غريب، الذين عذبوا مساجينهم للتسلية. ومع الأسف، لم تعرض هذه الظاهرة المريضة، للدراسة العلمية حتى اليوم.quot;
لقد حاول ناثاتيل فاست، الباحث بجامعة جنوب كاليفورنيا تغير ذلك، بعد أن لاحظ وجود الكثير من التجارب النفسية حول تأثيرات السلطة أو المركز، ولكنه لم يجد أبحاث تعالج عقدة السلطة والمركز معا. لذلك قام فاست مع زميليه، البروفيسور نير هالفي، من جامعة ستانفورد، والبروفيسور ادم جالنسكي، من جامعة نورث وسترن بشيكاغو، لتصحيح ذلك، بالقيام ببحث لدراسة الظروف المحيطة التي تخلق الهتلر صغير، وما إذا كانت هناك أيضا ميزات شخصية، تجذب هذا الهتلر الصغير، للوصول لوظيفة، تسمح له التصرف بعنجهية مقرفة، لتهيئته لهذا الدور. وقد نشر بحث هؤلاء الباحثين بمجلة التجارب النفسية الاجتماعية.
لقد اختار البروفيسور فاست 213 شخص، للمشاركة في تجربة، لدراسة هذه الظاهرة، وتم ضمهم، بطريقة عشوائية، لأربعة مواقع، يستطيعون فيها التحكم من خلال مراكزهم وسلطتهم. وقد أخبر الجميع، بأنهم سيشاركون من خلال تكنولوجية الانترنت في دراسة حول مؤسسات وهمية، وسيتعاملون مع طلبة متدربين، يعملون في نفس هذه المؤسسات الاستشارية، من خلال التلفون والانترنت، بدون أن يقابلوهم شخصيا، وقد قسم المشاركين لمجموعتين: مجموعة تعرض الأفكار اللازمة لتطوير المؤسسة، ومجموعة أخرى تقوم بالتنفيذ العملي لهذه الأفكار. وقد بين استطلاع للرأي بعد انتهاء الدراسة، احترام وإعجاب المشاركين، لمسئولية واضعي الأفكار، واحتقارهم للوظيفة المتعلقة بتنفيذ العملي لهذه الأفكار.
ولكي يستطيع المشاركون التلاعب بسلطتهم ومركزهم الوهمي، عين البروفيسور فاست لهم جائزة قرعة، قدرها خمسين دولار، ويمكن المشاركة في هذه القرعة كل من يستطيع أن يفرض على شريكه النشاطات التي يجب أن يقوم بها. كما أخبرت المجموعة، التي أراد لها البحث أن تكون ذات سلطة عالية، بأن من مسئولياتها تحقير الشركاء، كما أن شدة درجة تحقيرهم، ستقرر فرص دخولهم القرعة للفوز بهذه الجائزة، كما أخبروا بأن الشريك لن يكون لها أية سلطة ضدهم، لكي لا يخافوا من انتقامه. وبالعكس أخبرت المجموعة الأخرى الأقل سلطة، بأنه، بالرغم من أن لهم الحق في اختيار وسيلة الاحتقار، ضد الشريك، ولكن للشريك سلطة أكثر لمنع دخولهم في القرعة، إن لم تعجبه وسيلة الاحتقار.
وعرض الباحثون على المشاركين، عشرة وسائل إحباط، يمكن أن يختاروا درجات منها، بين الواحد وحتى العشرة، لاحتقار زملائهم، كما قام الباحثون، بدراسة مدى الإحباط، والإهانة، والاحتقار، والحرج، التي ممكن أن تسببها هذه الوسائل العشرة. ودرجت هذه الوسائل بترتيب من الواحد إلى العشرة، فدرجة واحد تصرف يسبب قلة من الاحتقار والحرج، بينما ترتيب العشرة، تصرف يسبب أعلى نسبة من الحرج والاحتقار. واعتبرت الدرجات من الخمسة وحتى العشرة، مرتبطة بأكثر الوسائل تحقيرا، كالطلب من المشارك بأن يقول بأنه قذر خمس مرات، أو بأن ينبح كالكلب ثلاثة مرات، بينما اعتبرت درجة الواحد وحتى الخمسة مرتبطة بوسائل غير محقرة، كالطلب من المشارك أن يقول نكتة قذرة، أو أن يصفق خمسين مرة.
وقد تبين من هذه الدراسة بأن المجموعة الأولى المتمتعة بالمركز والسلطة معا، لم تحتقر الشركاء بدرجة شديدة، ولم تصغر من شأنهم، بل اختارت نشاطات متوسط درجتها 0.67 في التحقير. كما تصرفت المجموعة الثانية المتمتعة بالسلطة القليلة والمركز البسيط، والمجموعة الثالثة المتمتعة بالسلطة القليلة والمركز الكبير، كالمجموعة الأولى، فاختاروا لشركائهم نشاطات محقرة، تتراوح درجاتها بين 0.67 و 0.87، بينما اختارت المجموعة الرابعة المتمتعة بالسلطة القوية والمركز البسيط، quot;الهتلر الصغيرquot;، نشاطات محقرة لشركائهم متوسط درجتها 1.12، أي أكثر من درجة عشرة للتحقير والإهانة. وقد أثبتت نتائج هذه الدراسة إحصائيا، والجدير بالذكر بأنه لم يتصرف بشكل سيئ، كل من كان في مجموعة الرابعة المتمتعة بالسلطة القوية والمركز المتواضع، فالشخصية الذاتية لها دورها أيضا، ولكن نتائج البرفيسور فاست تؤكد، كما أكدتها الأبحاث السابقة، بأن الكثير من الأشخاص العاديين، يمكن أن يستسلموا لسلوك سيئ، حينما تكون الظروف مواتية.
تلاحظ عزيزي القارئ خطورة المجموعات التي تتمتع بالسلطة القوية والمراكز المتواضعة، وهي من أكثر الشخصيات خطرا على فرض الدكتاتورية في المجتمع، وتبرز هذه الشخصيات خاصة في الثورات التي تنتهي بجمهوريات دكتاتورية، والتي أمثلتها كثيرة في تاريخ الشرق الأوسط في القرن العشرين، بينما الشخصيات التي تتمتع بالمراكز الرفيعة، كالملوك والأمراء، تحاول أن تتصرف بحكمة أكثر نسبيا، من المجموعات التي تستلم السلطة والقوة، وهي من مراكز بسيطة، كالجندي الذي يصبح رئيسا، ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل ستستوعب شعوب منطقة الشرق الأوسط، مقولة: quot;لا يلدغ المؤمن من جحر مرتينquot;، بحذرها من ظاهرة الهتلر الصغير، التي عانى منها تاريخها في القرن العشرين، لتحذر من قيادات المعارضة السياسية المتطرفة، التي تحاول بنشاطاتها المضطربة تغير ملكيات الشرق الأوسط، لجمهوريات طائفية، بدل مشاركتها بنشاطات فاعلة، تبعث الثقة فيها، لتحقق إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، تحول هذه الأنظمة تدريجيا إلى ملكيات دستورية متقدمة فاعلة؟ أليس على قيادات هذه الملكيات، أيضا، الحذر من القيادات السياسية المنافقة، لخطرها على هذه الأنظمة، بتشجيعها ظاهرة الهتلر الصغير، بين مسئولي مؤسساتها الرسمية، وخاصة ذوي النفوس الضعيفة؟ ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان