من مفكرة سفير عربي في اليابان

ناقشت الصحافة اليابانية، بهدوء وحكمة، الانتفاضة العربية، وهي قلقة على الاقتصاد الياباني من نقص الطاقة، وخاصة بعد تسونامي شهر مارس الماضي، الذي أدى لزلازل شديدة، سببت أضرار خطيرة بمحطات فوكوشيما للطاقة النووية، وعطلت توفير الطاقة الكهربائية اللازمة لمناطق كثيرة في اليابان. وقد تكون صحيفة يوميوري شمبون اليومية مرآة لما تتضمنه الصحافة اليابانية عن الشرق الأوسط، فهي توزع عشرة مليون نسخة صباحا، وثلاثة ونصف مليون نسخة مساءا. وقد لفت نظري في هذه الصحيفة مقالين: أحدهما كتبه أستاذ العلوم الإسلامية وتاريخ الشرق الأوسط، بجامعة طوكيو، البروفيسور مسايوكي يماوشي، بعنوان، تغير الجغرافية السياسية مع الثورات العربية المتنوعة، والآخر مقال كتبه صحفي جريدة الواشنطون بوست، ديفيد اجناتيوس، وبعنوان، التحول العربي الحائر.
يبدء البروفيسور يماوشي مقاله بالقول: quot;الربيع العربي الذي بدء بخلع الرئيس المصري حسني مبارك، في شهر فبراير الماضي، تحول إلى صيف عربي حار، بانفجار تمرديين في ليبيا وسوريا. ويمتد الهلال الخصيب من الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، وحتى الساحل الشمالي الغربي للخليج، ويعرف بتاريخه ونظمه المعقدة، والذي أدى لتنوع الأحداث السياسية قي هذه المنطقة.quot; لقد جربت تونس ومصر منذ القرن التاسع عشر أنظمة دستورية برلمانية، وتحاول شعوب هذه المنطقة أجراء تغيرات سلمية لأنظمتها، بينما اشتعلت ثورات عنيفة في ليبيا وسوريا واليمن. ففي ليبيا ثار الشعب على القذافي للتخلص من أربعة عقود من الدكتاتورية، واستغلاله لشعبه ليكون ثروة شخصية طائلة، بينما انتفض السوريون على عائلة الأسد، بعد قمع عقود للأكثرية السنية من الأقلية العلوية، وفي اليمن، يحاول الشعب التخلص بقوة من علي عبد الله صالح.
وحتى الآن لم تنتصر موجة حركات الحرية والديمقراطية في العالم العربي، مع أنها لم تكن نتيجة للإيديولوجيات، كالنضال الفلسطيني أو القضية العربية، بل انطلقت هذه الثورات من مواطنين شعروا بالتضليل والأكاذيب التي خلقت باسم الأيديولوجيات العربية، ولم يعودوا يتحملوا إهانات عقود طويلة من قياداتهم الدكتاتورية، وتهدف انتفاضتهم التي انتشرت بسرعة لاستعادة الكرامة الإنسانية. ومن الطبيعي، أن يبدأ هؤلاء المتظاهرين انتفاضاتهم، بالمطالبة بالحرية وحكم القانون والتنمية، وجميعها قيم ديمقراطية. ومع ذلك لا تضمن الانتفاضات الشعبية والثورات عادة بزوغ نظام حكم محبوب، ولو تطورت الثورة العربية في طريق ثورة القرن التاسع عشر في أوروبا، أو انتفاضة إرجاع نظام الميجي في اليابان، أو ثورة شرق أوروبا في عام 1989، سيكون هناك فرصة جيدة لتونس ومصر أن تكمل نفس المشوار، بينما تنكمش انتفاضة سوريا وليبيا، كالثورة الإيرانية لعام 1979 أو بزوغ القومية العربية في الحرب الباردة. ولم يكن غريبا، في العالم العربي، أن تقمع الأنظمة شعوبها بجهاز أمني مرعب، أو زرع خوف الدكتاتورية بين شعوبهم. والحقيقة لم تبرز انتفاضة شعبية في معظم الممالك العربية، لأن شعوبها كانت راضية بدخلها المتواضع، وخدماتها الاجتماعية، ولم تكن مستاءة بشدة لكي تثور على أنظمتها، وهذه تقلب الفرضيات التي تصورت بأن الأنظمة الجمهورية جيدة والأنظمة الملكية سيئة.
ومنذ حرب العراق في عام 2003، تغير المشهد الجغرافي السياسي في الشرق الأوسط بشكل بارز، ففي العقد الماضي، حوفظ على التوازن الاستراتيجي بين كتلتين متنافستين، الأولى تحالف المعتدلين بقيادة مصر والسعودية، مع الولايات المتحدة، والثانية التحالف السوري الإيراني باتفاقية تعاون استراتيجي لعام 2004. وفي الفترة الأخيرة عاش الشرق الأوسط ثلاثة تغيرات كبيرة، قد تغير توازن القوة في المنطقة: الأولى، فقد الإستراتيجية الشرق أوسطية للرئيس أوباما فاعليتها، بقرار الانسحاب في عام 2011، والثانية، انتشار الربيع العربي إلى سوريا وشعوب الخليج العربي، في حين تحرك مجلس التعاون الخليجي ليعزز قوة منظمته، والثالثة، قوت المبادرات الدبلوماسية التركية الإقليمية، في الوقت الذي أنكمش التأثير الإقليمي الإيراني. وقد برز قرار مجلس التعاون الخليجي بتضافر جهوده ضد التدخل الإيراني السافر في مملكة البحرين، بعد تحول المظاهرات السلمية للإصلاحات السياسية والاقتصادية، إلى ثورة عنيفة ترفض المملكة الدستورية، وتنادي بجمهورية أسلامية، بسبب التدخل الإيراني.
وقد حركت دول مجلس التعاون قواتها لمنع ثورة تحاول الانقلاب على الدولة، ولتؤكد لإيران قوة التضامن الخليجي للدفاع عن مصالح بلدانها. كما وافق المجلس على انضمام الأردن، ودعا المغرب للانضمام، لتشكيل قوة موحدة رادعة ضد أي تدخل خارجي، بتطوير إستراتيجية موحدة، لمعالجة أي تطورات سلبية خارج منطقة الخليج. وتحاول إيران أن تحافظ على موقعها كقوة إقليمية، في لعبة القوى في الشرق الأوسط منذ بدء حرب العراق، بالرغم من الهزائم التي تعرضت لها مؤخرا في سوريا والبحرين. فللقيادة الإيرانية رؤية طموح لإيران العظمى، والذي يذكرنا بالإمبراطورية الفارسية القديمة، لخلق هلال شيعي يمتد من الخليج، وحتى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، لتحافظ على هيمنتها، بالتعاون مع العراق وسوريا وجنوب لبنان، ومع ذلك يبدو بأن النظام السوري معرض للانهيار، ومعنى ذلك تعرض المصالح الإيرانية وطموحاتها للخطر. بالإضافة بأن فشل الرئيس الإيراني أحمد نجادي، للتعامل مع التطورات في سوريا والبحرين ستخدم كنبتة غير منظورة، لتكثيف صراع القوى بينه ومع القائد الأعلى آية الله علي خامنائي، مما سيؤدي لتعمق الخلافات الإيرانية الداخلية.
وقد حاولت إيران أن تملئ الفراغ الذي ستتركه الولايات المتحدة، بعد انسحابها من العراق وأفغانستان، ولكنها ستضطر الآن التعامل مع الدبلوماسية التركية المسلمة العثمانية العصرية. فقد بدأت تركيا إستراتيجيتها الخارجية الجديدة، لمواجهة الهيمنة الإقليمية الإيرانية، بالتركيز على منطقة تمتد من بحر القوقاز وشمال أفريقيا حتى البلقان ومضيق هرمز. ففي الماضي، كانت تركيا تدعم النظام السوري، مع سياستها الخارجية، quot;بلا مشاكل مع الجيران،quot; ولكنها اليوم تطالب الرئيس السوري بشار الأسد بالتوقف عن اضطهاد الشعب السوري. وينهي الكاتب مقاله بالسطور التالية: quot;وستقرر نتائج الأزمة السورية مستقبل الأمن القومي لإسرائيل، ومستقبل الجغرافية السياسية، والتوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط، فهذه المنطقة معرضة لشد الحبل بين إيران وتركيا، ومواجهة خطيرة بين مجلس التعاون الخليجي وإيران. ولو حاولت إيران أن تخفف من أبراز طموحاتها في المنطقة، لن يصدقها الكثيرون، بعد أن عملت على تطوير قدراتها النووية، وتحاول تصدير ثورتها المضطربة لباقي دول المنطقة، فكما يقول المثل الإيراني: لن يحزنني كذبك علي، ولكني حزين لأني لم أعد أثق بك.quot;
وكتب الصحفي الأمريكي ديفيد اجناتيوس، في نفس الصحيفة يقول: quot;ترجع تحليلات المخابرات الأمريكية انتفاضة الشرق الأوسط للربيع العربي، لتعكس رسالة واضحة بولادة انبعاث الديمقراطية والحرية في المنطقة من جديد. وقد ناقش بعض المحللين السياسيين تعبيرا أكثر تواضعا، كالتحول العربي، لأنه لا يمكن لأحد أن يتوقع نتائج هذه الانتفاضة. فمثلا في سوريا، لا نعرف ما هي نهاية هذه الانتفاضة، كما لا يبدو بأن هناك قيادات لتوجيه هذه الانتفاضة، كما ركضت إيران لمساعدة حكومة الأسد، والتي تدعم محاربي حزب الهر في لبنان. وبانتقال التحول العربي من الصيف إلى الخريف، سيكون الوقت مناسب للتذكر بأنه لن يكون التحرك اوتوماتيكيا نحو الازدهار وحكم القانون، مع أن الثورة الشعبية التي بدأت في تونس هي موجة ايجابية، وغير ممكن وقفها، ولكن هذا التحليل يحتاج لملاحظة التحذيرات التالية: أولا، ستؤخر الانتفاضة العربية الإصلاحات الاقتصادية، والتي بدأت في دول كمصر. فقد شجع الرئيس السابق مبارك إصلاحات السوق الحرة، لينمو الاقتصاد المصري 5% سنويا، خلال العقد المنصرم، وفي نفس الوقت تم اعتقال مهندسي هذا الإصلاح بتهمة الفساد، كرئيس الوزراء السابق، احمد نظيف، ووزير التجارة السابق، راشد محمد راشد. وطبعا، نتفهم الغضب الشعبي العارم، ولكن لن يساعد هذا الغضب مصر لحصولها على استثمارات خارجية إضافية، والتي هي في أتم الحاجة إليها.
ثانيا، من المحتمل ان تخيب الديمقراطية أمل المتظاهرين، فقد نزلوا للشارع مطالبين بحياة أفضل، وبالوظائف، والحرية من شرطة الأمن، والكرامة الإنسانية، ويريدونها الآن، ونأمل أن تستطيع شعوب مصر وتونس وسوريا واليمن انتخاب حكومتهم، ولكن الديمقراطيات الوليدة، تاريخيا، لا تستطيع تحقيق جميع مطالب المتظاهرين. لذلك، بدأت آسيا إصلاحاتها الاقتصادية أولا، وإصلاحاتها السياسية لاحقا، وبالتدريج، بينما قررت الانتفاضة العربية البدء بالعكس، وبنتائج غير مضمونة. وينهي الكاتب مقاله بالقول: quot;على التحول العربي أن يحتضن تحمل المجتمع العلماني، لا عدم تحمل الأنظمة الدينية، وهو الدرس الذي يمكن أن يتعلمه العرب من النهضة العربية في القرن الماضي. فمع أن حركتي البعث والناصرية مرفوضتين اليوم، ولكنهما احتضنتا القومية العربية، ليعطوا المواطن العربي هوية متقدمة على الدين والقبيلة، بروحانية هوية شاملة أساسية، لمستقبل عربي سعيد. وقد أكد الرئيس أوباما، في مراجعة الانتفاضة العربية، بضرورة الوقوف في الجهة الصحيحة من التاريخ، ولكن التاريخ ليس له جهات، فهو ليس بخط مستقيم يتحرك نحو التقدم، بل الحركات التي تبدأ بالمطالبة بالتحرر، تنتهي عادة بالعكس، والذي يجب أن يرشد السياسة الأمريكية هو أن تكون في الطرف الصحيح، الذي يخدم المصالح الأمريكية وقيمها، وأحيانا قد تتضارب القيم مع المصالح، ولكنها تتوافق في رحيل الرئيس الأسد.quot; ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان