حولت تكنولوجية القرن العشرين العالم لقرية عولمة صغيرة، وأدت ثورتها الصحية لتغيرات ديموغرافية هائلة. فقد زاد سكان العالم من 1.6 مليار في عام 1900، إلى سبعة مليارات في هذا العام، وأرتفع متوسط العمر من 30 سنة إلى أكثر من 65 سنة، لتزداد نسب القوى العاملة الشابة المنتجة. وقد أدت وفرة القوى العاملة في سوق العولمة المنفلتة لرخص رواتبها، وانخفاض سقف حقوقها، وسوء رعايتها. كما سببت المقامرة بأسعار الغذاء والشراب والعقار والطاقة، لارتفاع أسعارها بشكل جنوني، بالرغم من انخفاض دخل نصف شعوب العالم إلى أقل من دولارين يوميا للفرد. وقد زادت الطين بلة تلاعب المؤسسات المالية بديون الإسكان، لينتهي العالم في عام 2008 لأزمة اقتصادية خانقة، صرفت دول الغرب مئات المليارات من الدولارات لانقاد مؤسساتها المالية منها، لترتفع ديونها العامة، ونزداد صرامة سياساتها التقشفية، والتي أغضبت جماهير العولمة، وسببت انتفاضة حزب الشاي في الولايات المتحدة، ومظاهرات محاربة التقشف في الدول الأوروبية، ولتنتهي بانتشار انتفاضة العولمة في الشرق الأوسط. ويبقى السؤال: هل سيستمر رخص قيمة الإنسان في سوق العولمة، أم ستؤدي مراجعة الأزمات السابقة، والتغيرات الديموغرافية المستقبلية، لنموذج من الرأسمالية تحترم الموارد البشرية، لتحقق للإنسان رخائه وازدهاره، وتوفر للمجتمع أمنه واستقراره؟
ناقشت مجلة الايكنوميست البريطانية في شهر مايو الماضي ديموغرافية العالم حتى عام 2100، حيث قدرت إحصائيات الأمم المتحدة زيادة سكان العالم إلى سبعة مليار، وستستمر هذه الزيادة ببطء حتى عام 2100، وستتراوح بعدها حول 10 مليار. فزاد النمو السنوي لسكان العالم في نهاية الثمانيات إلى 88 مليون، وانخفض اليوم إلى 75 مليون، وسينخفض في عام 2050 إلى 40 مليون. وترتبط هذه التغيرات السكانية بدرجة الخصوبة، وهي متوسط عدد الأطفال المتوقع لكل امرأة في حياتها، والتي تتوقع إحصائيات الأمم المتحدة انخفاضها عالميا إلى 1.85، كما توقعت الأمم في عام 2008 تراوح نسب الخصوبة في 111 دولة بين 1.85 و 2.1، والتي انخفضت اليوم إلى 55 دولة، وترافقت بتغيرات في التوزيع المحلي. وفي عام 2100، سيرتفع عدد سكان نيجريا من 153 مليون اليوم إلى 730 مليون، بينما سينخفض عدد سكان الصين 450 مليون، من قمتها في عام 2025، ليصل إلى 941 مليون. وستتغير النسب العمرية، ففي عام 2025 سيكون عدد شباب العشرينيات في الصين 96 مليون، بينما سيقل عدد شابات العشرينيات إلى 80 مليون، وسيصل عدد شباب الهند 126 مليون، والشابات 115 مليون. وعلقت المجلة على هذه التغيرات السكانية بقولها: quot;فمع أن سكان العالم يبدو مستقرا على السطح، ولكن في الحقيقة هناك تغيرات مستقبلية خطيرة.quot;
وناقش نيكولاس ابيرستات، في مجلة الفورن أفيرز، لشهر نوفمبر الماضي، ديموغرافية المستقبل، فقال: quot;إذا كانت ثورة القرن العشرين هي ديموغرافية الانفجار الصحي، فستكون بصمات القرن الحادي والعشرين، انكماش ديموغرافي لمعدلات الخصوبة. فقد بدأ انخفاض عالمي لنسب الولادات، وتوجه إرادي لخفض عدد العائلة. فإنخفضت نسب الخصوبة في أوروبا الغربية منذ فترة، لتصبح ظاهرة عالمية بعد الحرب العالمية الثانية. فانخفضت نسبة الخصوبة من 4.9 ولادة لكل امرأة في الستينات، إلى 2.5 اليوم، ويعيش نصف سكان العالم في دول عدد الولادات فيها أقل من الوفيات. ولتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة، يحتاج العالم لعدد من الولادات تزيد عن عدد الوفيات، وبنسبة معينة، لتوفير عمالة تتراوح أعمارها بين 15 وحتى 64، ولتحقيق ذلك، نحتاج لنسبة خصوبة قدرها 2.1 ولادة لكل امرأة. ومع انخفاض هذه النسبة سيقل عدد السكان، وهي المشكلة التي تعاني منها جميع الدول المتقدمة، والدول الصاعدة كالصين، وجنوب شرقي آسيا، وأمريكا اللاتينية، وحتى الدول العربية والإسلامية.quot;
فانخفاض نسب الخصوبة اليوم، تعني بطئ نمو الموارد البشرية العاملة، وزيادة نسب المتقاعدين غدا، وستكون تبعاتها الاقتصادية خطيرة. فستنخفض نسب زيادة سكان العالم، في الفئة المهيأة للعمل (15-64 سنة)، خلال العقدين القادمين، إلى 900 مليون، لتقل عن ما كانت عليه قبل عقدين، بحوالي 400 مليون. وسيتغير التوزيع الإقليمي لهذه الزيادة، ففي العقدين الماضيين تركزت الزيادة السكانية في الصين والهند، بينما ستوفر أفريقيا الوسطى ثلث وباكستان وبنجلاديش ثمن العمالة التي سيحتاجها العالم في العقدين القادمين، بينما سينخفض عدد السكان في الدول المتقدمة والصاعدة. وسيعاني العالم من انخفاض العمالة الشابة (15-29 سنة)، فستزداد هذه الفئة بنسبة 4%، أي بحوالي 70 مليون، وليمثل خمس نمو العقدين الماضيين، وستتركز في أفريقيا الوسطى. وستنخفض العمالة الشابة في اليابان ودول أوروبا الغربية بنسبة 25%، وفي الصين بنسبة 30%، بينما ستتضاعف العمالة المتوسطة العمر (50-64 سنة)، لتمثل 50% من القوى البشرية المهيأة للعمل.
ومن المتوقع استمرار نمو الصين الاقتصادي بنسبة 7% سنويا خلال العقدين القادمين، ولكنها ستواجه انخفاض نسبة الخصوبة إلى 1.5، وهي أقل 30% عن النسبة اللازمة للاستقرار السكاني. وسيؤدي ذلك لانخفاض نسب العمالة الشابة، وانفجار سكاني للمتقاعدين فوق 65 سنة، ليرتفع عددهم من 115 مليون اليوم إلى 240 مليون في عام 2030. كما سيؤدي نظام الطفل الواحد، لأن لا يستطيع 25% من شبابها الزواج في عام 2030، بسبب تغير نسبة جنس الولادات من 103 ذكر/100 أنثى، إلى 120 ذكر/100أنثى.
وتتوقع روسيا زيادة نموها الاقتصادي بنسبة 6% سنويا خلال العقد القادم، ولكنها ستواجه مشكلة تجاوز عدد الوفيات عدد الولادات بنسبة 50%، لينخفض السكان من 148.6 مليون في عام 1993، إلى 141.9 مليون اليوم. وسيستمر انخفاض السكان إلى 131.9 في عام 2030، وستنخفض الموارد البشرية المهيأة للعمل بنسبة 20%، وسترتفع نسبة المتقاعدين إلى 21%. كما تتوقع الهند استمرار نموها الاقتصادي بنسبة 9% خلال ربع القرن القادم، وسيزداد سكانها بنسبة 1% سنويا، وسيكون خمسة أسداس هذا النمو بين الموارد البشرية المهيأة للعمل، مع نسبة عالية من الشباب. ولكن، هناك مشكلة الاختلاف المحلي لنسب الخصوبة، فسترتفع إلى 5 في الشمال، وتنخفض إلى 2.1 في الجنوب. ويتمتع جنوب الهند بنمو اقتصادي متفوق، وسيحتاج مستقبلا لهجرة القوى العاملة من الشمال إلى الجنوب، والمشكلة هي أن معظم العمالة الشمالية هي عمالة ريفية، وقليلة الخبرة التكنولوجية.
وستواجه الدول المتقدمة تحدي خطير، بانخفاض حاد في السكان، وزيادة المسنين، وستكون اليابان خير مثل لذلك. فقد انخفضت الولادات في اليابان خلال الستة عقود الماضية بنسبة 40%، وهي اليوم أقل 35% عن نسبة الاستعاضة، كما زادت نسبة السكان التي تتجاوز أعمارهم 65 سنة إلى 23%. وسينخفض عدد السكان من 127 مليون اليوم، إلى 114 مليون في عام 2030، وسيقل عدد القوى البشرية المهيأة للعمل من 81 مليون إلى 67 مليون، بينما ستزداد الفئة العمرية فوق 64 بنسبة 30%، وسيحتاجون لرواتب تقاعدية وعلاجات مكلفة. كما سيتوقف النمو السكاني في أوربا الغربية، وسترتفع الفئة العمرية فوق 64 بنسبة 40%، بينما ستنخفض نسبة القوى البشرية المهيأة للعمل إلى 12 مليون. كما ستعاني ألمانيا وإيطاليا من انخفاض سكاني، وقد تتجنب الولايات المتحدة هذه المشكلة، بسبب قرب نسب الخصوبة من نسب الاستعاضة، واستمرار الهجرة، ليزداد سكانها من 310 مليون اليوم، إلى 374 مليون في عام 2030، ولكنها ستعاني من ضعف مستوى التعليم الابتدائي والثانوي، وزيادة كلفة الرعاية الصحية، واحتمال توقف الهجرة.
وعرض الكاتب نتائج هذه التغيرات الديموغرافية وقال: quot;لقد أرتبط زيادة الدين العام في الدول المتقدمة طرديا مع زيادة نسبة السكان المسنين خلال العقدين الماضيين، وسترتفع هذه النسبة لضعف ما كانت عليه في العقود الماضية، لتؤدي لضغوط اقتصادية هائلة، بقلة الإنتاجية، وزيادة كلفة الرعاية الصحية ونظام التقاعد. وفي مجتمع العولمة الجديد، سنحتاج لجهود مدروسة ومتناغمة ومتآزرة، لخفض ضغوط الشيخوخة على مجتمعات القرن الحادي والعشرين، وذلك بزيادة الاستثمار في الموارد البشرية، بالتعليم والرعاية الصحية، وخلق بيئة اقتصادية تحقق مردود إيجابي لها. وسنحتاج لمراجعة قوانين التقاعد، وإيجاد وسائل لتشجيع الاستمرار في العمل مع تقدم السن، وسن تشريعات اقتصادية وتجارية تعزز كفاءة الموارد البشرية. ويجب أن تقدر جهود البحث والتطوير والإصرار على الإصلاح والإبداع، لكي نحقق الازدهار. وستزداد التحديات الديموغرافية تدريجيا، وستكون نتائجها مذهلة، وعلينا تفهم ضخامتها والتكيف معها.quot; ويبقى السؤال: كيف سيتعامل العرب مع التحديات الديموغرافية المستقبلية؟ وهل سيطورون تعليما يخلق كفاءات عربية منافسة في سوق العولمة؟ وهل ستشرع برلماناتهم قوانين تجذب الكفاءات العالمية، لتساعد على تنمية المنطقة تكنولوجيا واقتصاديا واجتماعيا، لتحقق الأمن والاستقرار؟
سفير مملكة البحرين في اليابان