من مفكرة سفير عربي في اليابان
لو تأملنا بدقة لأهداف ما يسمى بالربيع العربي، لنجدها أهداف بعيدة عن الأيديولوجيات السياسية الشرق الأوسطية، وقريبة من حاجيات الحياة اليومية، والتي تتمثل في حاجة المواطن للمشاركة في إنتاجية بلده، بعمل مبدع، يرضي به ذاته، ويشارك به في تنمية اقتصاد بلده، وليوفر الشرب، والمأكل، والملبس، والمسكن، والتعليم، والرعاية الصحية، والأمن لعائلته. ولنتوقف عزيزي القارئ قليلا، ونتصور، بأن هماك نظام صحي حكومي يجمع بين الطب العام والطب الخاص، وبأن هناك مستشفى حكومي، يعمل به مجموعة من خيرة الأطباء المتفرغين، مقتنعين بما توفره لهم الحكومة من مردود مالي. وهناك مجموعة أخرى من الأطباء، اختاروا طريقة مغايرة لخدمة بلادهم، فقرروا المشاركة في بناء مركز طبي خاص، لمعالجة مرضاهم. كما أن هناك مجموعة ثالثة، تجمع بين ضمانة العمل الحكومي، وربحية الفرص في الطب الخاص، فقررت فتح مركز طبي خاص، لتعالج مرضى الحكومة صباحا ومرضى الطب الخاص مساءا.
ومع الأسف، ومع مرور الوقت، تكتشف الدولة مساوئ جمع الطب الحكومي والطب الخاص من غير ضوابط، بأن تلاحظ بعض الأطباء الذين يجمعون بين الطب الحكومي وعياداتهم الخاصة، بدءوا التقاعس في علاج مرضى الطب الحكومي، ليتركوهم في يد الأطباء المتدربين بدون مراقبة، كما استغلوا الفرصة ليجروا عملياتهم الخاصة في المستشفى الحكومي، وبمطالبة المرضى بأجور كبيرة تختفي في جيوبهم. كما تستغل هذه الفئة الثالثة كل فرصة، لكي تزيد من شعبيتها، وتكثر عدد مرضاها، فهي في أوائل الصفوف في صلاة الجمعة والمأتم، كما أنها متواجدة سنويا في الحج والعمرة، ومع أية فرصة شعبية سياسية غير مضرة.
ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل ممكن تطوير كفاءة الرعاية الصحية، وخفض كلفتها، بخلط الطب العام مع الطب الخاص؟ ألن يؤدي ذلك لتنافس غير عادل بين أطباء الحكومة العاملين في عياداتهم الخاصة، وأطباء القطاع الخاص الذين جازفوا بالكثير من أموالهم، ليستثمروا في تطوير خدمات الرعاية الصحية في بلادهم؟ وهل لدي طبيب الحكومة الوقت الكافي لكي يجمع بين العمل الحكومي والطب الخاص، ويستمر في متابعة الأبحاث الطبية، وتدريب الأطباء، ويشارك بدراساته وأبحاثه؟ ألا يشجع الخلط بين الطب الخاص والطب العام البعض على الجشع، والممارسات اللاأخلاقية؟ أليست الرعاية الصحية جزءا من دعائم الأمان المجتمعي، مع التعليم، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية؟ وهل من الممكن الاستفادة من التجربة الصحية اليابانية، التي اعتبرتها مجلة النيوزيوك الأمريكية هذا العام، بأنها الأولي في مستوى نوعية الرعاية، وشمولية الخدمة، وقلة الكلفة، بالرغم من أن ربع سكان اليابان من المسنين، وتفوق كلفة علاجهم عشرة أضعاف كلفة علاج الفئات الشابة؟
لقد استفادت اليابان من ماسي خلافاتها وحروبها، ووعت بعد معاناة طويلة بأن التطور الاقتصادي يحتاج للأمان الداخلي والسلام الخارجي، وبأن الأمان الداخلي يتحقق بتوفير العمل المنتج للمواطنين، لضمان حاجياتهم الفيزيولوجية، من مأكل، ومسكن، ورعاية صحية وتعليمية واجتماعية، مع حرية التعبير، وديمقراطية السلطات الثلاث، التنفيذية، والقضائية، والتشريعية. كما يحتاج السلام الخارجي لاحترام حقوق الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، والعمل المتناغم معها، من خلال الأمم المتحدة.
وقد نجحت اليابان بتقدم شعبها، بالعمل على مسارين مرتبطين بالمواطن والاقتصاد. فوفرت للمواطن حاجياته المادية والمتمثلة بالغذاء والجنس والمسكن، وضمان الصحة، والتعليم، والتعطل، والتقاعد. ووفرت حاجياته النفسية، والمتمثلة بالأمان، وبالعمل المنتج الذي من خلاله يبدع المواطن، ويخدم الآخرين، ويشبع حاجيات الأنا العليا النفسية والروحية. كما طورت اقتصادها بالتكنولوجية الحديثة، وربطت نجاحها الاقتصادي بسعادة شعوبها.
وربطت اليابان تطور مجتمعها وسعادته بصحة المواطنين، ولذلك اهتمت بالرعاية الصحية، وأمنت بأن العقل السليم في الجسم السليم، وبأن تكنولوجية الإبداع المرتبطة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية تحتاج لهذا العقل المبدع. وعمل شعب اليابان مع حكومته لتوفير رعاية صحية متميزة. فأهتم شعبها بالوقاية، وعملت الدولة بتوفير الرعاية الصحية المتطورة تكنولوجيا. كما خلقت اليابان تناغم جميل بين القوى الفاعلة في الرعاية الصحية، والممثلة بالمواطن من جهة، والقوى الصحية العاملة وتجار صناعة الأجهزة والأدوية من جهة أخرى، وتتوسطهما سلطات التنفيذ وبنود القوانين ونشاطات البرلمان.
وقد أدى نجاح اليابان في تجربتها الصحية لارتفاع متوسط عمر الفرد للخامسة والثمانين بين النساء والتاسعة والسبعين بين الرجال، ولانخفاض وفيات الأطفال الرضع إلى 2.6 لكل ألف من الولادات الحية. كما استطاعت أن تحافظ على انخفاض تكلفة الرعاية الصحية الشاملة للفرد، والتي لا تتعدى الإلفين ومائتي دولار سنويا، والتي تعتبر أقل بثلاث مرات من التكلفة بالولايات المتحدة. والسؤال لعزيزي القارئ كيف استطاعت اليابان أن تحقق هذه المعجزة مع أن 21% من شعبها يتجاوز الخامسة والستين، ومن المعروف بأن كلفة الرعاية الصحية لهذه الفئة العمرية ترتفع لعشرة أضعاف كلفة الفئات الشابة؟
لقد حاولت اليابان أن تستفيد من تجارب دول العالم في تطوير خدماتها الصحية. فقد طورت تكنولوجيتها الطبية بالاستفادة من خبرات الولايات المتحدة، كما استفادت من التجربة البريطانية في الرعاية الوقائية، وحسنت رعايتها العلاجية بدمج الخبرات الألمانية مع طبها التقليدي الذي أخذته من الصين في القرن السادس. واعتمدت فلسفتها الصحية على مبدءا ديمقراطية الرعاية الصحية، والممثلة بأهمية دور المواطن في التخطيط والوقاية والانضباط في الاستفادة من الرعاية الصحية، و باهتمام الدولة بتوفر الرعاية الصحية الشاملة والعادلة لكل مواطن وبحرية اختيار المواطن طبيبه ومركز علاجه، بالإضافة للتعاون بين الشعب والدولة لتوفير المال اللازم لتمويل الضمان الصحي الوطني لجميع المواطنين. كما نظمت الحكومة مسؤوليتها في الرعاية الصحية بتنفيذ الأنظمة والقوانين، وحافظ القضاء على صرامة المحاسبة للمخالفين والمخطئين، ولعب البرلمان دورا هاما في وضع التشريعات اللازمة لتنظيم الرعاية الصحية، كما حولت مسؤولية توفير الرعاية الصحية للمتخصصين في المراكز العلاجية المختلفة.
وقد لازمت اليابان الاهتمام بالوقاية مع توفير الرعاية العلاجية. فطورت الثقافة الصحية المدرسية، واهتمت بتوفر الغذاء الصحي في الأسواق والمطاعم، وحافظت على الثقافة التقليدية بقلة الأكل وغناء محتوياته، ووفرت الفرص اللازمة لممارسة الرياضة المباشرة والغير مباشره. وتقدم المنشآت الصحية والطبية الرعاية اللازمة وتحافظ على أخلاقيتها، واستقلاليتها عن الدولة، وتستلم تكلفة العلاج من مشاركات الضمان الصحي. وتغطي مصاريف الرعاية الصحية من خلال الضمان الصحي الوطني أو الضمان الصحي المرتبط بالعمل. ويجبر القانون الياباني جميع المواطنين بالمشاركة في الضمان الصحي الوطني، كما يجبر الشركات وأرباب العمل بتغطية تكاليف الضمان الصحي للعمال والموظفين. وقد استطاعت اليابان بهذه السياسات أن ترضي المواطن والأطباء والمستشفيات والشركات التجارية. كما تخلصت الحكومة من مسؤولية أدارة الخدمات الصحية ومشاكلها المعقدة، وأوجدت البيئة التنافسية لتوفير الخدمات الطبية المتميزة. مع أنها وحدت وحددت أسعار تكلفة العلاجات الطبية والأدوية والتشخيصات المختبرية والشعاعية، مما شجع المؤسسات العلاجية للعمل بجد لتوفير الخدمات المتميزة بأسعار منافسة.
وسر نجاح التجربة الصحية اليابانية هي إيمانها وتنفيذها للمقولة الصينية، الطبيب الصغير يعالج المرض، والطبيب المتوسط يعالج المريض، أما الطبيب الكبير فيعالج المجتمع. وقد أصبحت اليابان رائدة بالاهتمام بالوقاية، كما أمنت الدولة بأن مواطنيها هم الاستثمار الأكبر، وبأن الاستثمار في الصحة هو أفضل استثمار اقتصادي. والمعروف بأن المورد الطبيعي لليابان هو الإنسان، وتعتمد على إنتاجيته وإبداعاته لتطوير تكنولوجيتها واقتصادها. كما زرعت اليابان الطب الحديث في جسم الطب التقليدي الصيني، والذي يعتمد على نظرية الالتئام الطبيعي للجسم مع مساعدة هذا الالتئام بالأعشاب الطبيعية، وتجنب التدخل الدوائي أو الجراحي إلا في الحالات القصوى. وهناك مراكز جامعية متخصصة في العلاجات الصينية التقليدية كالإعشاب والإبر الصينية. وتتميز الرعاية الصحية باليابان بكثرة استعمال التكنولوجية التشخيصية الغير جراحية، وبقلة التدخل العلاجي الجراحي. فمثلا تقدر نسب العمليات القيصرية التي تجرى في اليابان بنصف ما تجرى بالولايات المتحدة. كما تتميز الرعاية الصحية في اليابان بقلة دخول المستشفيات والاعتماد على عياداتها الخارجية.
وتقدر نسبة الوفيات السنوية ب 8.5 لكل ألف من السكان، والسبب الرئيسي للوفاة هو السرطان بنسبة 2.6 لكل ألف، ويليها أمراض القلب والشرايين. ويقدر عدد الأطباء بحوالي 270 ألف، أي بنسبة 1.6 طبيب لكل ألف مواطن. وهناك حوالي 94 ألف طبيب أسنان، و124 ألف صيدلي، و1.2 مليون ممرضة، أي بنسبة 9 ممرضات لكل ألف مواطن. وتقدر عدد المؤسسات الطبية بحوالي 173 ألف مؤسسة، وعدد الأسرة في المستشفيات بحوالي 1.8 مليون سرير، أي بنسبة 15 سرير لكل إلف مواطن. وقد ارتفعت تكلفة الرعاية الصحية عام 2004 إلى حوالي 278 مليار دولار، أي بنسبة 8.89% من الدخل الوطني لليابان.
وبالمقارنة مع الولايات المتحدة، فأن عدد الأسرة العلاجية في اليابان مرتفعة لثلاث أضعاف نسب الولايات المتحدة، مع انخفاض عدد المواطنين الذين يدخلون المستشفيات اليابانية. كما أن فترة بقاء المريض في المستشفى باليابان وبمتوسط خمسين يوم هو رقم مرتفع نسبيا. ومتوسط مدة زيارة المريض للطبيب هي 6.9 دقيقة، وهي مدة قصيرة بالمقارنة للولايات المتحدة التي تصل لعشرين دقيقة. وهناك أسباب عديدة لانخفاض مدة الزيارة، ومنها التنظيم الدقيق للوقت، ولاستعمال التكنولوجية في أدارة العيادات. فمن المعروف عن المريض الياباني احترامه للوقت وقلة كلامه وإحساسه بمسؤولية عدم إضاعة وقت الطبيب. كما يدرس المريض كل ما يتعلق بمرضه قبل زيارة الطبيب، وذلك بسبب توفر تكنولوجية الانترنت والمعلومات الطبية باللغة اليابانية. كما أن عدد الأطباء منخفض نسبيا، فهناك 2.3 طبيب لكل ألف مواطن في الولايات المتحدة، بينما ينخفض العدد في اليابان ل 1.6. وترتفع نسب أجراء العمليات في الولايات المتحدة لأكثر بأربع مرات من نسب اليابان. وتعتبر اليابان أعلى الدول في العالم في نسب توفر الأجهزة التكنولوجية التشخيصية والعلاجية.
وباختصار مفيد، فأن أحساس المواطن الياباني بمسؤوليته الوطنية هو السبب الرئيسي لتميز التجربة الصحية اليابانية. فيحافظ المواطن على صحته بالغذاء المتوازن والنشاط المستمر. وحينما يزور الطبيب يكون جاهزا بخلفية معلوماتية جمعها من الانترنت، لتكون استفساراته دقيقة محددة ومختصرة. كما يستطيع المواطن التعامل مع كثير من مشاكله الطبية بالتزام دقيق، وبمساعدة ممرضة المجتمع، وبدون الحاجة لدخول المستشفى. والخدمات العلاجية اليابانية متطورة جدا تكنولوجيا، فيد الطبيب هو الكومبيوتر والالتراساوند، وشرحه محدد ودقيق، ويتجنب مناقشة التشخيص قبل أن تكمل جميع الفحوصات اللازمة، ويتجنب صرف دواء أو إجراء عملية إلا بعد أن يستنفذ جميع الوسائل الأخرى في الرعاية الصحية. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان