من مفكرة سفير عربي في اليابان

كان متوسط عمر الإنسان في الغرب عام 1865 حوالي 45 سنة، ومع التقدم المجتمعي، والتحسن الغذائي، والتطورات الصحية، والاختراعات التكنولوجية، أرتفع هذا الرقم في عام 1900 إلى 60 سنة، ويصل اليوم في المجتمعات الغربية لحوالي 84 سنة، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 95 سنة في عام 2040. كما سيرتفع عدد الذين يعيشون في القرن الثاني من أعمارهم إلى أكثر من 800 ألف شخص، في الولايات المتحدة، مع بزوغ عام 2050. وطبعا ستختلف هذه الأرقام بين الدول والأفراد حسب تعاملهم مع التحديات الحياتية، ومدى صحة أكلهم، وتجنبهم التدخين والكحوليات، ومدى اهتمامهم بالرياضة، وبقلة جشعهم على الماديات، وزيادة ارتباطهم بالأخلاقيات الروحية، ومدى سيطرتهم على عواطفهم، لمنع القلق وأمراضه القاتلة، كجلطة القلب والسكتة الدماغية، والسرطان.
وقد بينت الأبحاث العلمية بأن هناك ثلاثة أنواع من الخلايا في جسم الإنسان، الخلايا الطبيعية، والخلايا المسنة، والخلايا السرطانية، وتؤدي الخلايا المسنة لتلف الخلايا الطبيعية، وشيخوختها، وتسرطنها بسرعة. وحينما يلتزم الإنسان بقواعد صحية صارمة في حياته، تقوى مناعته، فتقوم خلايا الدم البيضاء، بإفراز مادة بروتينية، تغلف الخلايا المسنة، والخلايا السرطانية، لتسهل التهامها من قبل كريات الدم البيضاء، لكي تتلفها. ومع سوء التغذية، وقلة الرياضة، وزيادة القلق، وكثرة التدخين، تضعف وظائف كريات الدم البيضاء، لتقل مناعة الجسم، فتزداد الخلايا المسنة، وتتكاثر الخلايا السرطانية، لتنتهي بمرض السرطان.
وقد بينت الأبحاث العلمية ارتباط طيلة العمر بمدى التزام الإنسان بالقواعد الصحية، ويرتبط ذلك بحدة الذكاء البشري. فالذكاء العاطفي يبعد الإنسان عن الحماقة والغضب، لكي يسيطر على عواطفه الحادة ويوجهها نحو نجاحه وتناغم مجتمعه، فيقل كثرة القلق، ليخلق لنفسه حياة سعيدة، قنوعة، وهانئة. كما أن الذكاء الذهني، يساعد الإنسان على التعامل مع تحدياته الحياتية، بدراسة، وتفحص، وتأمل، ليحاول معالجتها بجمع المعطيات، وتقيمها، وتحليلها. بينما يطور الذكاء الاجتماعي قدرات الإنسان على التواصل الاجتماعي مع أفراد مجتمعه، ليتعايش معهم في وئام، ويعمل معهم بتناغم الفريق، ليزيد إنتاجية المجتمع، وتنميته الاقتصادية والاجتماعية. ويساعد الذكاء الروحي الإنسان للاستفادة من عقائده الروحية ليسمو بسلوك الذات البشرية عن طمع الملذات المادية الحياتية، كما يلعب الذكاء الجسمي دورا في المحافظة على أجسامنا، التي أنعم الله علينا بها، لنحافظ على صحتها بأكل القليل من الدسم والسكريات، والتكثير من الخضروات والسلطات، وتناول نسبة متزنة من اللحوم البيضاء، بالإضافة للرياضة المنتظمة، وتجنب التدخين، والكحوليات.
ومن الجدير بالذكر، بأن نمو الطفل يعتمد على مادة كيماوية أساسية تسمى بهرمون النمو، يساعد على تنشيط تكاثر خلايا الجسم ونموها، وقد بينت الأبحاث الطبية بأن الرياضة المنتظمة، تساعد العضلات على إنتاج مادة كيماوية تشبه هرمون النمو، ينشط نمو خلايا الجسم وتكاثرها، كما يقي من تحول الخلايا الطبيعية إلى خلايا مسنة، التي تسبب شيخوخة الخلايا الطبيعية وتسرطنها. كما يساعد الذكاء العاطفي والذكاء الروحي الإنسان على الشعور بزيادة السعادة، بزيادة فرز مادة الأندورفين في المخ، التي تنعش الروح، وتحافظ على صحة الخلايا البشرية، وتقيها من الشيخوخة والتسرطن.
فتلاحظ عزيزي القارئ، بأن المواطنة الصالحة، وزيادة الذكاء البشري، تترافق بخفض نسب الأمراض في المجتمع، وزيادة إنتاجيته، لتنخفض نسبة الصرف على الرعاية المرضية، فتنخفض كلفة الطب، التي وصلت في الولايات المتحدة الأمريكية إلى 18% من الناتج المحلي الإجمالي، وترافقت بإرتفاع ديونها العامة إلى أربعة عشرة تريليون دولار. بل، من المتوقع أن ترتفع نسبة الصرف على الرعاية الصحية في منتصف هذا الفرن إلى 25% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي.
وقد أدت أزمة الديون في دول الغرب لمراجعة هذه الدول لبنود صرف ميزانياتها، والتي تلعب ميزانية الرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية بندا مرتفعا من مصاريفها. لذلك بدأت هذه الدول بزيادة التفكير في حكمة، مثقال وقاية خير من قنطار علاج. ومن أخطر السموم على صحة الإنسان، والأكثر كلفة على ميزانية الصحة، هو التدخين، بكلفة مصاريف شراء السجاير، وكلفة علاج مضاعفاتها المرضية الخطيرة، كالسرطان، والجلطة القلبية، والسكتة الدماغية. وقد خصصت صحيفة اليابان تايمز صفحة خاصة لمناقشة هذا السم القاتل، فكتب البروفيسور بيتر سنجر، أستاذ علم الأخلاقيات البيولوجية بجامعة برنستون الأمريكية، في السابع عشر من شهر نوفمبر الجاري، مقالا بعنوان: حان الوقت لحضر دواء المتعة الأكثر قتلا.
يعلق البروفيسور بيتر سنجر في مقدمة مقاله بالقول: quot;أكد أطباء الرئيس بارك اوباما، الشهر الماضي، بأن الرئيس الأمريكي لم يعد يدخن. فقد تجنب أوباما التدخين منذ عام 2006، ادعنا لرغبة زوجته، ميشيل أوباما، فاستخدم مادة النيكوتين لفترة، للتعويض عن إدمان التدخين، وتدريجيا استطاع التخلص من هذه العادة المرضية. وإذا أخذ من الرئيس أوباما، الرجل الملهم، الذي أستطاع أن يقود الشعب الأمريكية برئاسته، أحتاج لخمس سنوات، لكي يتخلص من إدمان التدخين، فليس من الغرابة أن يكون هناك مئات الملايين من شعوب العالم، التي لا تستطيع التخلص من هذا الإدمان القاتل. فمع أن عادة التدخين انخفضت بين السكان في الولايات المتحدة من 40% في عام 1970، إلى 20%، ولكن توقفت نسبة المدخنين عن الانخفاض منذ عام 2004. فهناك 46 مليون أمريكي يدخنون اليوم، ويقتل التدخين منهم 443 ألف سنويا، كما تقدر عدد السجاير التي تباع في العالم سنويا بحوالي ستة تريليون سيجارة، وتقتل حوالي ستة ملايين شخص سنويا، أي أكثر مما يقتله، مرض الأيدز والملاريا والحوادث المروية، معا. وتبين الاستقراءات الإحصائية بأن واحد من كل عشرة من سكان الصين، البالغ عددهم 1.3 مليار صيني، سيموت بسبب التدخين. لذلك أعلنت أدارة الغذاء والدواء الأمريكية بأنها ستنفق 600 مليون دولار خلال الخمس سنوات القادمة لتثقف الشعب الأمريكي عن خطورة التدخين ومضاره.quot;
وينتقد برفيسور جامعة ستناتفورد الأمريكية، روبرت بروكتور، صرف ملايين الدولارات على التثقيف الصحي ضد التدخين، بدون حضر بيعه في الأسواق. ويعتقد بأن استخدام التثقيف الصحي لمحاربة دواء مدمن قاتل كالتدخين، هي وسيلة غير مجدية، ولن يغفر المجتمع لمن يتناسى هذه التحذير. فمعظم الأنظمة المحاربة للتدخين، تركز على التثقيف الصحي، مع أن عليها التركيز على التخلص من هذا الدواء القاتل. فتصور عزيزي القارئ بأن هناك دواء قاتل في السوق الحرة المنفلتة، فبدل أن نوقفه، ونجرم من يزرعه، ويصنعه، ويسوقه، نضيع الوقت، والمال في تثقيف الشعب بالا يستخدموه، في الوقت الذي تدفع الشركات المصنعة للسجاير، ملايين الدولارات في الدعاية لتجميل متعة التدخين، وخاصة بين المراهقين والأطفال.
فمن العادة لا تطلب الدولة من الأمهات عدم شراء ألعاب الأطفال المطلية بالرصاص، بل تمنع صنع، وتسويق، وبيع هذه الألعاب، وتحاسب المخالفين. فمثلا، حينما تبين أن دواء الثلادوميد، المعالج لغثيان الحمل، يسبب تشوهات جنينية، لم تقم الدولة فقط بتثقيف الأمهات عن تجنبه، بل منعت، وأجرمت صناعته، وتسويقه، وبيعه، لتنتهي الشركة المصنعة للإفلاس. وقد وصى البروفيسور بركتور إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، بأن تقوم خفض كمية النيكوتين في السجاير، لمنع الإدمان. فالإدمان مرتبط بكمية النيكوتين في السجاير، فكلما كانت نسبته منخفضة، كلما تمكن المدخن التخلص من التدخين، إذا أراد.
كما وصى البروفيسور بروكتور أهمية الاستفادة من تاريخ التدخين. فلم يتم التدخين إلا في القرن التاسع عشر، حينما تمكنت الأبحاث الصناعية معالجة أوراق التدخين، لتحولها لأكثر قلوية، فتقل حموضتها، لتسهل استنشاق دخانها. وقد أدى هذا الاكتشاف لقتل ما يقارب 150 مليون شخص، وستستمر هذه الوفيات حتى يمنع هذا السم القاتل. ويؤكد البروفيسور بروكتور بأن على إدارة الغذاء والدواء الأمريكية أن تفرض على شركات التدخين أن تحول أوراق السيجار لأكثر حمضية، وأقل قلوية، ليصعب وصول الدخان للرئة، فتقل الرغبة للتدخين.
ويشرح البروفيسور بيتر سنجر أساليب تلاعب شركات التدخين بالدعاية الكاذبة لزيادة أرباحها، بمضاعفة مبيعات السجاير. فمع أن الأبحاث العلمية تؤكد، منذ عام 1940، بأن التدخين سببا مهما للسرطان، مع ذلك عملت شركات السجاير في اجتماعها في عام 1953، على نفي خطورة السجاير على الصحة. وحينما بدأت تنتشر أبحاث خطورة التدخين، حاولت شركات التدخين التشكيك في هذه الأبحاث. ويؤكد البروفيسور سنجر بأنه مع أن السجاير ليست قنابل ولا دبابات مدمرة، ولكنها من أكثر أسباب القتل في تاريخ الحضارات الإنسانية. ولو أردنا انقاد حياة البشر، وتحسين صحتهم، وخفض كلفة الرعاية الصحية، علينا حظر بيع السجاير دوليا. وسيكون التخلص من الفقر المفقع في العالم، هي الإستراتيجية الوحيدة التي قد تنافس حظر التدخين، لخفض نسب الوفيات، والتي هي أصعب بكثير للوصول لتحقيقها. وقد يناقش البعض بأن منع التدخين هو تعرض للحرية الشخصية، وتشجيع السوق السوداء، وهذا كذب فاقع، فشركات التدخين هي التي تشجع الأطفال عن التدخين، وتساعدهم على الإدمان بزيادة كمية النيكوتين عمدا فيها.
ويبقى السؤال لنواب البرلمانات العربية: هل سيقوم نواب برلماناتنا العربية الأفاضل بالعمل على إصدار قانون، يقلل نسب النيكوتين في السيجاير، ويزيد من نسبة حموضتها، للتهيئة لتشريع يمنع التدخين تماما، لخفض المعاناة البشرية، وزيادة الإنتاجية، وخفض الكلفة الصحية، والوقاية من موجة الإفلاسات الغربية؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان