من مفكرة سفير عربي في اليابان

احتفلت مدينة الثقافة والتاريخ اليابانية، كيوتو، في منتصف شهر نوفمبر الجاري باحتفالية جائزة نوبل اليابانية، والمسماة بجائزة كيوتو التي توازن بين العلوم التكنولوجية والعلوم الأساسية، وعلوم الفلسفة والآداب والفن. وقد فاز هذا العام بجائزة التقدم التكنولوجي بروفيسور جامعة واشنطون، الألماني الأصل، والأمريكي الجنسية، جون ورنر كان، عن اكتشافاته تطوير تكنولوجية علوم المعادن. كما حصل فنان التمثيل الياباني التقليدي، الكوبوكي، السيد تماسابورو باندو، على جائزة الفنون، بينما حصل على جائزة العلوم الأساسية، البروفيسور الألماني الجنسية، والسوفيتي الأصل، راشد علي فش سنيف، عن اكتشافاته في مجال الفيزياء الفضائية، وعلوم الكون. وليسمح لي القارئ العزيز أن اعرفه على هذه الشخصية النادرة، وعلى فلسفة جائزة كيوتو، وعلى بعض علماءها البارزين.
تكلم البروفيسور راشد علي فش، في خطاب قبوله لجائزة كيوتو، عن تاريخ حياته، والتحديات التي مر بها في محاولاته المخلصة لإثبات نظريات اكتشافاته، فقال: quot;ولدت في مدينة طشقند، أيام حكم الإتحاد السوفيتي، وخلال الحرب العالمية الثانية، حيث أخبرني بعد معارفي بأن الحياة كانت صعبة جدا، وكانت والدتي تعمل صيدلانية، لتستلم راتبها الضئيل، فتشتري به حليب لترضعني، فقد جف حليب صدرها لقلة توفر الطعام أبان الحرب. وفي السابعة عشرة من عمري، درست العلوم الفيزيائية، بجامعة موسكو، وحينما تعرفت على عالم الفيزياء الروسي المشهور، ياكوف زلدوقيش، تغيرت طبيعة حياتي تماما، بعد أن دعاني للعمل معه في مجال أبحاث الطاقة العالية في الفيزياء الفضائية وعلوم الفضاء. وقد رفضت طلبه في البدء، حيث أن أساتذتي السابقين، نصحوني بتجنب هذا المجال، لأنه مجال علوم غير مفيدة. وحينما أصر البروفيسور ياكوف زلدوقيش أن أساعده في بحثين عن اكتشافات علوم الفضاء، على الأقل لمدة قصيرة، بدأت العمل معه، وأحببت هذا المجال حتى اليوم. وقد كانت هذه الخطوة خطوة موفقة، حيث لم يكن يعرف عن علوم الفضاء الكثير في الستينات، لنبدأ معا، أنا والبروفيسور ياكوف زلدوقيش، عدة اكتشافات عظيمة في هذا المجال منها: إشعاعات الميكرويف في خلفية الفضاء، والمجرات المشعة، والنجوم النترونية. وقد انبهرت بقدرات التكنولوجيات الحديثة، في إثبات النظريات التي اكتشفناها عن علوم الكون والفضاء، كما يخالجني شعور عجيب، حينما أعرف بأن الموجات الصوتية، التي توقعنا وجودها بعد الانفجار الكبير، قبل 12.7 مليار عام، موجودة حقا في الكون، وستستمر مرئية، على مدى مرور مليارات السنين القادمة.quot;
تصور عزيزي القارئ، انفجار البيضة الكونية الكبير، الذي حدث قبل 12.7 مليار عام، بقت أصواته موجودة في الكون حتى اليوم، يمكن أثبات وجودها تكنولوجيا، وستستمر موجودة بعد مليارات السنين. كما أن هذا الفضاء الكوني العظيم الذي نراقبه من خلال النجوم ليلا، يوجد في فضائه تريليونات من الأجرام السماوية، والمكونة من مليارات من النجوم والكواكب، بل يعتقد العلماء الآن، بأن هناك مليارات من الأكوان الفضائية، وليس كون واحد، كما كنا نتصور سابقا. بل حتى ما يبدو لنا بالنظر للسماء، بأنه مساحات خالية من النجوم وطاقتها عظيمة، ثبت تكنولوجيا بأنها مليئة بالمادة القاتمة، والطاقة القاتمة، وهي طاقة كمياتها رهيبة، وبها جزيئات من البروتونات والالكترونات تتفاعل مع بعضها البعض، لتنتج مجالات مختلفة من الموجات الكهرومغناطيسة، ولتؤدي لظواهر فيزيائية مدهشة. ويحاول العلماء اليوم الاستفادة من الطاقة الشمسية، ولكن هناك طاقات كهرومغناطيسية هائلة في فضاء الكون الخارجي، على العلماء اكتشاف الطرق التكنولوجية المناسبة للاستفادة منها أيضا.
وقد اهتمت جائزة كيوتو بفلسفة الروحانيات الدينية، فأكدت على ضرورة العمل الصالح وقدسيته، وبأن يستفيد الإنسان من الحياة التي وهبها الخالق جل شأنه، ليعمل ويبدع، ليكتشف أسرار الطبيعة ويتفهم علومها الفيزيائية، ليطور العلوم التكنولوجية، وليوجههما من خلال العلوم الروحية والإنسانية، لازدهار البشرية وإسعادها. وقد أنشاء جائزة كيوتو، السيد كوزو ايناموري في عام 1985، من خلال تشكيل مؤسسة ايناموري العالمية، لتكون مسئولة عن اختيار ثلاثة من خيرة علماء العالم سنويا، في العلوم الأساسية الطبيعية، والعلوم التكنولوجية الصناعية، والعلوم الروحية الإنسانية. يحصل الفائز على شهادة تقديرية، وميدالية ذهبية مرصعة بالجواهر الثمينة، بالإضافة لجائزة نقدية قيمتها ستين مليون ين ياباني. ويشرح السيد إيناموري، مؤسس شركة كيوسيرا التكنولوجية العملاقة، أهداف هذه الجائزة بالقول: quot; تعتمد جائزة كيوتو على الفلسفة التي أؤمن بها، وهي بأنه لن نطمئن على مستقبل البشرية، إلا من خلال خلق التوازن اللازم بين تطور العلوم المادية، والعلوم الروحية. وأعتقد بأنه يجب علينا خلق التوازن في ذات الإنسان بين ذكاءه الذهني، والعاطفة، والإرادة. فالحضارة التي تهتم بالذكاء الذهني، وتبخس قيمة العاطفة، والإرادة الإنسانية، هي حضارة آفلة. فقد تقدمت العلوم الطبيعية والتكنولوجية بشكل مدهش في القرن العشرين، ومع بداية القرن الواحد والعشرين ستكون مسؤوليتنا الأساسية، أن نرفع العلوم الروحية، لنفس المستوى الذي حققته العلوم الطبيعية، لنستطيع التعامل مع اختراعاتها بحكمة. وستختار اللجنة سنويا، ثلاثة من خيرة علماء العالم، الذين خلقوا في نفوسهم التوازن بين الذكاء الذهني، والعاطفة وقوة الإرادة، والتي قدمت فلسفتهم وأرائهم العلمية للإنسانية اقتراحات فاضلة، لترفع من قدر أذهاننا وتشرفها.quot;
ومن خيرة من فاز بجائزة كيوتو في المجال الروحي والفلسفي هو الفيلسوف الكندي، شارلز تايلور، الأستاذ بجامعة ماجيل، عن دراساته حول الحداثة، والعلمانية، والدين. وشرح الفيلسوف تايلور في خطاب قبوله الجائزة، كيف أن عصر العلمانية الذي نعيشه هو عصر طغت فيه مدنية المجتمعات التكنولوجية المتفتحة، والمرتبطة بالمعلومة والإبداع الذهني، على ريفية المجتمعات الزراعية المنغلقة، والمترابطة عاطفيا، والمرتبطة بثقافة الأرض، وقوة السماء، والدعاء لنزول المطر. ويناقش فلسفته في كتابه، عصر العلمانية، ثقافة الحداثة وما بعدها، وتحدياتها في الصراع القائم بين المؤسسات الدينية، والمؤسسات العلمية. كما يؤكد على أهمية دور العلوم الحديثة في تنوير الذهن لفهم التعاليم الروحية للأنبياء، بل اعتبر دورها أكبر من دور المؤسسات الدينية في ذلك. وعرف العلمانية بأنها الوسيلة التي يحاول الإنسان الاستفادة من العلوم الفيزيائية والاجتماعية، لتطوير الحياة، لكي يستنير بها لفهم الفلسفة الروحية للأديان. ويرفض البروفيسور الفرضية التي تدعي بأن العلم يضعف ألإيمان، بل يؤكد مقولة ألبرت أينشتين، عبقري القرن العشرين، والفيزيائي الحاصل على جائزة نوبل، بأن quot;علم بلا دين هو علم كسيح، ودين بلا علم هو دين ضرير.quot;
ويؤكد البروفيسور تايلور بضرورة التعامل بحكمة مع الصراع المصطنع بين العلم والدين، والذي يعتبره مرتبط في حقيقته، بالصراع بين المؤسسات العلمية، والمؤسسات الدينية. ويعتقد بأن هناك حاجة للتعامل مع هذا الصراع بتفهم واقع ما بعد الحداثة، الذي نعيشه، والمرتبط بالعقلانية، والديمقراطية، والتصنيع، والعمران المدني، والتقدم الاجتماعي، وبيئة عالم العولمة الجديد. فقد انتشرت كلمة الحداثة في القرن السابع عشر مع التطورات العلمية والاختراعات الصناعية، وتعرضت مفهومها الإنساني، لصدمة شديدة، مع المحرقة اليهودية، ودمار قنبلتي هيروشيما ونجزاكي. بينما انتشر مفهوم ما بعد الحداثة في مرحلة العولمة الجديد، بتطور البيئة العالمية للمجتمعات المدنية الديمقراطية، والتي ترافقت بالتطورات التكنولوجية في عالم المواصلات والاتصالات. وتعبر كلمة المدنية عن البيئة المجتمعية، التي تشمل تقدم البنية التحتية للمدن، من توفر المياه، والكهرباء، والمجاري، والمدارس، والمستشفيات، وحتى المواصلات والمطارات، والمسارح، والمطاعم، والفنادق. كما ارتبطت بتطور الثقافة الاجتماعية، المعتمدة على احترام حقوق الإنسان، والالتزام بالأنظمة والقوانين، مع ما يرافقها من إصلاحات سياسية، واجتماعية، واقتصادية.
ويعتقد البروفيسور تايلور بأننا نحتاج لثقافة توازن بين حقوق الفرد ومصالح المجتمع، وبأن تهتم باحترام الوقت، والالتزام بالقانون، لخلق شخصية مجتمعية تجمع بين الواقعية والمثالية، ولتتوسطهما أخلاقيات السلوك. وستكون تحديات الألفية الثالثة هو خلق هذا التوازن بين العقل والروح، بين العلوم الطبيعية والعلوم الدينية، بين الإبداع المادي وبين الثقافة الروحانية، بين العبادات وأخلاقيات السلوك. كما تحتاج مجتمعاتنا للتعامل مع تحدي آخر، وهو تحدي خلق التناغم بين المؤسسات العلمية والدينية، وذلك بتحديد مسئوليات كل منها في مجالات الدين، والتعليم، والاقتصاد، والقانون، والسياسة، الآداب، والفنون، والطب، والهندسة، والصناعة، والتجارة، والتكنولوجيا. كما يبدو بأن هناك خلافات حول مفهوم العلوم الروحية، فالبعض يربطه بالعبادات والسلوك، بينما يضمه البعض الآخر تحت رايته، جميع العلوم الإنسانية، وبالإضافة للآداب والفنون.
والجدير بالذكر بأن مؤسس جائزة كيوتو، السيد أناموري، أكتسب فلسفته الحياتية في السلوك من إيمانه بالبوذية، وهو ملتزم بفلسفة قداسة الداليلاما في السلوك، الذي وصفه في كتابه، أخلاقيات للألفية الثالثة، بأنه السلوك الأخلاقي الملتزم بسلوك يراعي شعور، وإحساس، ومصالح الآخرين، كما عرف العلوم الروحية بأنها، القيم المرتبطة بالعمل الصالح، والأخلاقيات، ودراسة الخيارات الأخلاقية، للتعامل مع وقائع الحياة، على مستوى العائلة، والعمل، وفي الحياة العامة، بالإضافة لتعامل مع الطبيعة. وتواجه مجتمعاتنا الحديثة اضطراب في التوازن، بين المادة والروح، بين الواقعية والمثالية، فنحن على طرفي نقيض بين أحلام المثالية المستحيلة، وبين حقيقة الواقعية اللاأخلاقية أحيانا. لذلك دعا الداليلاما لثورة سماها: quot;بثورة روحية، ولكنها ليست دعوة لثورة دينية، ولا حتى لدعوة للعيش بطريقة حياتية حالمة، ولكنها دعوة للتوجه بالبعد عن انشغالنا بذاتنا، دعوة لنحول انشغالنا للمجتمع الإنساني، المرتبطين به فطريا وبقوة، وبتوجيه سلوكنا نحو مصالحنا المشتركة مع مصالح الآخرين.quot; ويعتقد الداليلاما بأنه من الممكن تحقيق ذلك بتطوير سلوكنا الإنساني، وذلك بإغناء قلوبنا بالمحبة، والرحمة، والعطف، والسماحة، لنستطيع التعامل مع الآخرين، بطريقة إنسانية فاضلة. كما نحتاج للسيطرة على العاطفة، حينما نتعرض للظلم والاضطهاد، وذلك بالتوجه للعفو، والرحمة، والابتعاد عن الحقد، والانتقام، وبتهذيبها بثقافة الأدب، الفن، والمعرفة. والسؤال لعزيزي القارئ: هل سنربي أجيال الوطن العربي القادمة، للبحث في العلوم الطبيعية، والتكنولوجية، مع التمتع بثقافة الأدب، والفن، والمعرفة، والتمسك بأخلاقيات سلوك الاستقامة، وتقدير المسؤولية، والالتزام بالقانون، والانضباط في الوقت، ودقة العمل، وتقديسه، والإبداع فيه؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان