من مفكرة سفير عربي في اليابان
مع بزوغ فجر الألفية الثالثة، يستمر العرب في المعاناة من تحديات كثيرة: تزايد سكاني يتجاوز 350 مليون، تباين الثراء، قلة الإنتاجية، تصاعد نسب البطالة، ارتفاع نسبة الفقر إلي 40%، بالإضافة لتحديات التطرف الفكري، وإرهاب العنف. وقد دقت فوضى التجربة الصومالية ناقوس الخطر، فنبهت دول المنطقة لإيجاد صيغ برغماتية، للتعامل مع هذه التحديات، مع المحافظة على استقرارها، وفعالية حكوماتها. كما تخوف الغرب على مصالحه النفطية، فحاول فرض وصايته بنشر ديمقراطيته اللبرالية، برأسماليتها الفائقة، لحماية وصول الطاقة لمصانعه، والدفاع عن رأسمال مستثمري بلاده في السوق العربية، لينتهي بحروب فاشلة في غزة، ولبنان، والعراق، وإفغانيستان، وبفضائح سجني غوانتينامو وأبو غريب.
وقد قاومت بعض دول المنطقة أي محاولة لمحاربة الفساد، وعرقلت الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، لتنتهي بانهيار أنظمتها، بينما أرغمت دول أخرى لتقليد ديمقراطية الغرب، فانتهت بإرهاصات برلمانية، مزقت نسيج المجتمع وتناغمه، وأضعفت أداء الحكومة وفعاليتها. في حين تعاملت دول أخرى بحكمة واتزان مع ضغوطات الغرب، فحاولت أن تعالج الفساد المستشري، كما رفعت من دخل شعوبها، وطورت بصدق تجربتها تدريجيا، ضمن ثقافتها وتاريخها، وبإصلاحاتها الاقتصادية والسياسية، وبتطوير مؤسساتها الحكومية والمدنية، واستفادت من التجربة التنموية الأسيوية في الصين، واليابان، وسنغافورة، وماليزيا.
وقد ارتفعت ديون الغرب بشكل حاد، مع نهاية عام 2011، بعد أن خسرت هذه الدول المليارات في الأزمة الاقتصادية لعام 2008، وصرفت أموال طائلة لانقاد مؤسساتها المالية من الإفلاس، ومنع انهيار رأسماليتها الفائقة، مما أدى للحاجة لخطة تقشف ضرورية، أدت لخفض الصرف على التعليم، والرعاية الصحية، والرعاية الاجتماعية، وترافقت بزيادة سن التقاعد، وخفض المخصصات التقاعدية، بالرغم من استمرار زيادة نسب البطالة، ليؤدي كل ذلك لتفاقم انتفاضة الشارع الغربي من نيويورك وحتى لندن، ولتمتد في الشارع العربي من اليمن وحتى المغرب. وقد بدأت نتائج هذه الانتفاضة العربية بارزة، ببدء الانتخابات النيابية في تونس ومصر، وستستمر في ليبيا واليمن، وقد تمتد لسوريا مع من حولها. ويبقى السؤال المحير: هل ستؤدي هذه التطورات الجديدة لتغيرات جذرية؟ أم ستدخل المنطقة في إرهاصات ثورات تأكل أطفالها؟ وهل سيبدأ العرب تجربتهم الجديدة من حيث ما بدء الغرب، أم سيستفيدوا من أخطاء الغرب، ليبدءوا من حيث ما انتهى؟ وهل ستؤدي التكنولوجية الحديثة لإنهاء العمر الافتراضي للتمثيل النيابي للديمقراطية، لتستبدلها بصيغ جديدة من التمثيل المباشر؟
ليسمح لي عزيزي القارئ وقفة أمام الإعلام الغربي، وديمقراطيته المضطربة، فقد عرض التلفزيون خبر مظاهرات غربية تطالب بقوانين تحمي التزاوج بين الجنس الواحد، في الوقت عرض تلفزيون غربي آخر مقابلة لسعادة رئيس جامعة الدول العربية السابق، أستاذنا الفاضل عمر موسى، ينتقد فيها المذيع القوانين العربية الصارمة ضد الشذوذ الجنسي، ليستغرب أستاذنا الفاضل من أولوية هذا السؤال، أمام التحديات الهائلة المنشغلة مصر في التعامل معها. كما راجعت مقال مجلة النيوزويك الصادرة في الحادي والعشرين من شهر نوفمبر الماضي، الذي ناقش الخلل الذي تعرضت له الديمقراطية الغربية في معقل دارها. فقد قام الباحث بجامعة ستانفورد الأمريكية، بيتر شويزر، بدراسة التصرفات الاستثمارية لنواب الكونجرس الأمريكي. ففي عام 2003، حينما كان الكونجرس يناقش تشريع للرعاية الصحية، لتغطية تكلفة الدواء لكبار السن والأطفال، والذي سيوفر لبعض شركات الدواء فرص ذهبية، كان رئيس اللجنة الفرعية للدواء في الكونجرس، منشغل في الاستثمار بأسهم شركات الأدوية، وقد حقق أرباح تقدر بمئات آلاف من الدولارات، حينما وافق الكونجرس على هذا القرار، فارتفعت سعر أسهم بعض شركات الأدوية، وترافق برفع كلفة الرعاية الصحية بشكل غير مسبوق. كما كان رئيس الأقلية في الكونجرس يستثمر الآلاف من الدولارات في أسهم شركات التأمين الصحي، خلال مناقشة الكونجرس لإصلاح الرعاية الصحية، وقد حقق أموال طائلة حينما نجح حزبه في منع مرور تشريعات الإصلاح الصحي ضد شركات التأمين، وحقق أحد أعضاء اللجنة المالية للكونجرس، أموال طائلة من التعامل في سوق الأسهم، في الوقت الذي كان الكونجرس يناقش كيفية إنقاذ البنوك من الإفلاس في عام 2008. وقد علقت المجلة على ذلك بالقول: quot;لقد أنصدم الباحث، بيتر سشيوزر بحقيقة أن نواب الكونجرس يستطيعون التعامل بحرية في شراء وبيع الأسهم بشركات تحدد مصيرها بشكل مباشر تشريعات الكونجرس. وتساءل: هل يعتبر ذلك تجاوز لقوانين سوق الأسهم؟ وقد أكدت أبحاثة مخالفة هذه التجاوزات الأنظمة والقوانين الأمريكية للشركات، بل تؤدي فعلا لدخول المواطن العادي للسجن.quot;
وقد ناقش البروفيسور البريطاني، جون كين، أزمة الديمقراطية اللبرالية الغربية في مقدمة كتابه، حياة وموت الديمقراطية، فقال: quot;لقد قطعت الممارسات السياسية في القرن الواحد والعشرين، كالمنشار في جسم الديمقراطية، وهي لن تغفر للشعوب، ولا للسياسيين، ولا للأحزاب، ولا للبرلمانات، لتحويلها للعبة غير مؤثرة. فلم تعد الديمقراطية آلية تدافع عن مصالح الشعب، كما زاد حجمها وتكلفتها، أكثر بكثير من فعاليتها الحقيقية، وأصبحت أحزابها وبرلماناتها متحجرة، وبقايا لزمن مضى.quot; وناقش الكاتب الصراعات الأوربية في القرن التاسع عشر والعشرين، التي حاولت تحقيق ديمقراطية لتوفر الحرية والرخاء لشعوبها، لتنتهي بالمعاناة من أصحاب النفوذ بمحاولة إفشالها، باستخدامهم أنواعا مختلفة من الشيطنة والحيلة، كالمجالس الوراثية، ورفع نسب تمثيل أصحاب الأملاك والمتعلمين، والضغط على القوى العاملة للتصويت العلني أمام ممثلي شركاتهم. كما ضعفت المؤسسات البرلمانية بتدخل العسكر، وهاجمها البعض، ليعتبرها بسمارك حضانة يقيدها الأطفال، ويوصفها توماس كريل بأنها متوحشة، وصارخة، وسافرة، وصوت للفوضى، وأنتقدها اوسكار وايلد بأنها ديمقراطية الضرب بالمضرب، الشعب، بالشعب، وللشعب.
ويبدو بأن ديمقراطية التمثيل الحزبية قد قلت شعبيتها في القرن الحادي والعشرين، بعد أن ضعفت فعاليتها، وابتعدت عن تمثيل مصالح جماهيرها. ففي عام 2000، قدرت نسبة المواطنين المنضمين للأحزاب في الهند وجنوب أفريقيا، بحوالي 10% من مجموع المواطنين الذين يحق لهم التصويت في الانتخابات، وتعتبر هذه من أعلى النسب في العالم، بينما انخفضت هذه النسبة في الدول الأوروبية إلي 5% بعد أن كانت 15% في عام 1960. فقد خسرت الأحزاب الفرنسية مليون من أعضائها، أي ثلثي مجموعها الكلي، خلال الفترة من عام 1980 وحتى عام 2000، كما خسرت الأحزاب الهولندية 50 % من أعضائها في نفس الفترة. وقل منتسبي الأحزاب البريطانية خلال فترة 1950- 2000، لينخفض عدد أعضاء حزب العمال من مليون إلى مائتي ألف، وحزب المحافظين من مليونين ونصف إلى ثلاثة مائة ألف. مع أن استطلاعات الرأي تؤكد زيادة مشاركة المواطنين في منظمات المجتمع المدني، بالرغم من يأسهم من فعالية المشاركة في الأحزاب السياسية.
وقد عانت هذه الأحزاب السياسية من الإفلاس المالي بعد فقدان شعبيتها، فاضطرت للاعتماد على طرق غير شرعية لجمع الأموال للدعاية لمرشحيها، لتتحول ديمقراطية التمثيل النيابي تدريجيا، لديمقراطية تمثل مصالح الأحزاب، والشركات الخاصة، التي تمول دعاياتهم الانتخابية الباهظة الكلفة، ولتتحول صورة رجل السياسة في المجتمعات الغربية quot;لرجل أبيض الشعر، بثياب أنيقة، محارب لمصالحه الشخصية، وذي سمعة قريبة من سمعة بائعي السيارات ودلالي العقارات.quot;
وقد ترافقت ديمقراطية الغرب في القرن الواحد والعشرين برأسماليتها الفائقة، والتي أدت لارتفاع تباين الدخل بين فئات الشعب لدرجة لم تشاهد منذ عشرينات القرن الماضي، لتنكمش الطبقة المتوسطة، وتزداد نسبة الطبقات الفقيرة، وترتفع نسب البطالة. فقد أنحصر 21.2% من الدخل ألأمريكي لعام 2005، في يد قلة لا تتجاوز 1% من مواطنيها. وأرتفع الدخل السنوي للرئيس التنفيذي لأسواق الول مارت لما يعادل دخل تسعمائة من موظفيه، وزاد ثراء عائلة الول مارت لي 90 مليار دولار، ليعادل مجموع ثراء 40% من المواطنين الأمريكيين، الأقل دخلا. ولينتهي كل ذلك بانهيار المؤسسات المالية وانفجار فقاعة أسهم الوول استريت، والتي أدت لخسارة الملايين من المواطنين لمنازلهم، وتقاعدهم، ووظائفهم، وتأميناتهم الصحية. وانخفض ثراء العالم إلي 40% عما كان قبل هذه الأزمة. فقد فقدت الديمقراطية الغربية مصداقيتها بعد أن تحولت إلى أداة تشترى ممثلي برلماناتها الشركات العملاقة، والمؤسسات المالية الخاصة، ولم تعد ديمقراطية الغرب تقي من الفقر أو الحروب، ولا تحمي من التلاعب في الانتخابات، كما لم تعد تحقق التنمية المرجوة.
ويؤكد مفكرو الغرب ضرورة تطوير الديمقراطية بالرغم من quot;موتquot; النظام السياسي اللبرالي الغربي بتمثيله النيابي، فيعلق جون كين: quot;الديمقراطية عملية مستمرة ومتغيرة، وتمثل حكم عدالة المتساوين، والتحرر من التسلط والعنف والظلم والمطالب الميتافيزيقية.quot; ويبين المفكر الايرلندي سي أس لويس سبب هذه الضرورة بقوله: quot;أنا ديمقراطي، لأنني أومن بسقطة الإنسان لإغراءات السلطة، بينما يؤمن الآخرين بالديمقراطية لأسباب معاكسة. فالتفاؤل بالديمقراطية هو نتيجة للاعتقاد الشائع بأن الإنسان حكيم وجيد، لذلك يجب أن يكون لكل موطن سلطته في الحكم، وهناك تكمن الخطورة، فالحقيقة هو أن سقطة الجنس البشري لا تسمح بالثقة بأي إنسان لتسلم قوة السلطة، بدون محاسبة، ومراقبة. وقد لا أخالف أرسطو في قوله، بأن بعض البشر لا يصلحون إلا عبيد، ولكني ارفض العبودية، لأني لا اعتقد بأن هناك إنسان يصلح لأن يكون سيد للعبيد.quot; وحيا الكاتب الانكليزي أي ام فوستر الديمقراطية بقوله: quot;فتحيتي للديمقراطية، لأنها تتقبل الاختلاف، وتسمح بالانتقاد، وتوفر مشاركة ديمقراطية للسلطة، وهو خير سلاح بشري اخترع ضد الحماقة والكبرياء، الناتجة عن مركزية السلطة الغير محاسبة.quot;
ويتفق سياسيو الشرق مع الحكمة الغربية، بأهمية الديمقراطية للمحافظة على استقرار مجتمعاتهم، وتنميتها الاجتماعية والاقتصادية، ليعلق نائب برلمان هونج كونج، مارتين لي بقوله: quot;في الحياة كما في السياسة، لا نستطيع التأكد من أن القرار المتخذ هو القرار الصحيح، لذلك نحتاج لضمانة بأن من يقرر قرارات خاطئة يمكن أن يقال من مركزه.quot; كما قيم الرئيس الصيني السابق دينج فعالية الأنظمة السياسية بقوله: quot;في النظام السياسي الجيد، يمكن أن يوقف الرجل الشرير عن عمله الشيطاني، بينما تكون المشكلة أعظم في النظام السيئ، حيث ينشط الشياطين ليمنعوا الكفاءات من العمل الطيب، بل يدفعونهم أحيانا للعمل الشيطاني.quot;
فيبدو بأن النظام الديمقراطي الغربي قد أستنزف عمره الافتراضي، ليفتقد تمثيله البرلماني لفاعليته ومصداقيته، بعد التطور التكنولوجي للأعلام والانترنت والتلفون الرقمي، لتصبح quot;التلي بوليتكسquot; باستفتاءاتها الشعبية واستطلاعات الرأي، آلية ديمقراطية القرن الواحد والعشرين. ويبقى السؤال المحير: هل سيتجنب العرب في تجربتهم الديمقراطية في القرن الواحد والعشرين، مما عاني منه الغرب في القرون الماضية؟ وهل سيبدأ العرب إصلاحاتهم الاقتصادية والاجتماعية من حيث انتهى الغرب، فيتجنبوا أخطائهم، ويستفيدوا من نجاحاتهم؟ وهل حان الوقت للاستفادة من أعمدة الحكمة الغربية السبعة: ثقافة السلم، البرغماتية الواقعية، الكفاءة والأداء، القانون والتعليم، اقتصاد السوق الحرة، والعلوم والتكنولوجيا؟

سفير مملكة البحرين في اليابان