من مفكرة سفير عربي في اليابان
ناقشنا في الجزء الأول من هذا المقال، ما كتبته الصحفية ألأمريكية رنا فوروهار في مجلة التايم الأمريكية عن انهيار اقتصاد الغرب، بعد أن أصبحت بريطانيا كالولايات المتحدة، مركز لخلق ثراء عظيم، مع تزايد الفجوة في تباين هذا الثراء، خلال العقدين الماضيين، ومشاركتها المعاناة مع الدول الأوربية، بخفض كبير في الميزانية، للسيطرة على ديونها المتراكمة، والذي خفض الدعم المالي للسكن والمؤسسات التعليمية، ليخرج أفقر سكان أوروبا، وفي دولة بها أكثر فجوة تباين في الدخل، لانتفاضة الشوارع. ولنكمل عزيزي القارئ مناقشة الأسئلة التالية: ما الذي أدى لارتفاع ديون الغرب بهذه الطريقة المفاجئة؟ وهل الخصخصة المنفلتة والصرف المترف على الرعاية التشخيصية والعلاجية، وإهمال الرعاية الوقائية، له دور في كل ذلك؟ وهل حان الوقت لمراجعة خطط الغرب الصحية، برفع الشعارات التالية: كفاءة الصرف، مثقال وقاية خير من قنطار علاج، وفرط الصرف على الرعاية الصحية يعني صحة أسوء للمواطنين وإفلاس الدولة؟
لقد حددت مجلة النيوزويك الأمريكية صفحة غلافها في 22 من شهر أغسطس الماضي، لطرح تحدي فرط الصرف على رعاية صحية فوضوية، وناقشت شارون بجلي في مقالها، العالم الذي قد ينقذ حياتك، مقولة للبروفيسور الأمريكي، ريدبرج، يقول فيها: quot;كلما كانت الفحوصات والعلاجات أقل، كلما كانت النتائج والصحة أفضل.quot; وقد أكدت هذه المفاهيم الأبحاث المتكررة المنشورة في مجلة الجمعية الطبية الأمريكية، فقلة الرعاية العلاجية، وكثرة الرعاية الوقائية، تؤدي لصحة أفضل، وبالعكس التفريط في الرعاية العلاجية، وخفض الرعاية الوقائية تضر بالصحة، فتعارض هذه الأبحاث الرأي الذي يكرر بأن كثرة المسح الطبي والعلاجات تؤدي لزيادة الفائدة الصحية. وقد حاولت صناعة التكنولوجية الطبية والدوائية، خلال العقود الثلاثة الماضية، نشر فكرة التفريط في الفحوصات والعلاجات للتشخيص المبكر للأمراض لإطالة العمر. وقد لا نعارض فحص طبي قد يكشف سرطان مخفي أو انسداد شريان قلبي، وقد نكرر المنطق الذي يقول: quot;من الأفضل أن تعرف وتعالج، بدل أن تعرض نفسك لخطر المرض.quot; والحقيقة بأن الفحوصات لمعظم الأشخاص الأصحاء، تؤدي لفحوصات أكثر تعقيدا وخطرا، وقد تنتهي بتدخل جراحي، لمشكلة يمكن أن تحل نفسها بنفسها، بقوة المناعة، أو قد لا تكون مضرة أصلا.
وقد علق طبيب القلب الأمريكي، مايكل لور، بقوله: quot;من السهل أن نوهم المرضى، حينما نكتشف بفحص مسحي، أو تدخل جراحي، تشوه، ويتحسن المريض، مع أن ذلك التشوه قد لا يكون سبب المشكلة، ولا خطر على الصحة المستقبلية للمريض، وكل ما عملناه هو صنفنا خطأ، من ليس به مرض، بأنه مريض. وتجرى سنويا فحوصات وعلاجات كثيرة في العالم مكلفة وبدون فائدة، بل قد تكون مضرة، كفحص الدم لسرطان البروستات، الذي يجرى لحوالي 20 مليون رجل سنويا في الولايات المتحدة، وجراحة ألم الظهر المزمن التي تجرى للملايين في مختلف أرجاء العالم، وحتى المضادات الحيوية التي تستخدم بدون تميز. فهناك عدد هائل من الفحوصات والأدوية والتدخلات العلاجية والدوائية تأثيرها وهمي، وأضرارها حقيقة.quot;
وقد برزت هذه الحقائق مؤخرا بعد أن أدى فرط الصرف على الرعاية الصحية الأمريكية (مديكر) لزيادة الديون الأمريكية وتخلخل اقتصادها. ويقدر الخبراء بأن الولايات المتحدة تخسر سنويا مئات المليارات من الدولارات على فحوصات وعلاجات دوائية وجراحية، لا تفيد المرضى، بل تؤدي لمضاعفات خطيرة، مكلفة علاجاتها، كما ينصح هؤلاء بوقف هذه التدخلات، لحماية المواطنين، وخفض الصرف على الرعاية الصحية. ويؤكد البروفيسور ستيفن نيسن بأنه: quot;ليس هناك فائدة من صرف الولايات المتحدة ضعف ما تصرفه الدول المتقدمة على الرعاية الصحية، بدون ربحية في صحة المواطنين، ولا طيلة في العمر.quot; وتعلق الصحفية بجلي بالقول: quot;لا شك بأن كثير من التقدم الطبي أنقذ حياة الملايين من البشر من الموت وأختلاطات الأمراض، وخاصة بفحص الثدي الشعاعي للسرطان المبكر، والتنظير لاكتشاف سرطان القولون، والمشكلة أنه حينما تقدم هذه الخدمات للجميع بشكل فوضوي، تعرض الكثيرين لمضاعفات قاتلة، وتزيد من كلفة الرعاية الطبية.quot;
لقد تم مقارنة خمسة أبحاث، من مراكز عالمية مرموقة، لمرضى قلب، لا يشكون سوى من الم صدر بسيط، وقد أجريت لهم توسيع شريان القلب ببالون القسطرة، أو بعملية جراحية في القلب، ولم يلاحظ أي تحسن في مستوى نوعية حياة المرضى، أو أطالة في أعمارهم، أكثر من لو أنهم مارسوا الرياضة والتزموا بتغذية صحية والأدوية، ومع ذلك زادت هذه التدخلات الكلفة 1.6 تريليون دولار على ميزانية الصحة الأمريكية. والمشكلة هو أنه حينما توسع الشرايين الضيقة، تنتقل حبيبات مادة الكولسترول المتكلسة إلى شرايين أخرى، لتؤدي لمضاعفات خطيرة، كجلطة القلب والشلل الدماغي. ويؤكد البروفيسور نورتون هدلر، أستاذ الطب بجامعة نورث كارولينا الأمريكية، بأن: quot;هناك نصف مليون عملية توسيع الشرايين بالبالون، تجرى سنويا، قد تؤدي لمضاعفات خطيرة ومكلفة، في حين يمكن علاج هؤلاء المرضى، ببساطة، بالأدوية والتغذية الصحية والتمارين الرياضية.quot;
وينصح البروفيسور نيسن مرضاه الأقل تعرضا لخطورة أمراض القلب، بعدم أجراء التصوير المقطعي لشرايين القلب، لأنه قد يعطي نتائج كاذبة عن تضيق غير حقيقي، ويؤدي لمضاعفات وعمليات قاتلة، فيزيد من فوضى الرعاية الطبية، وكلفنها الفاحشة. كما يتعرض المرضى المصابين بألم الظهر الشائع، لفحوصات شعاعية ومغناطيسية مقطعية، تكلف الواحدة منها حوالي ثلاثة آلاف دولار، وقد تبين كثير من التشوهات في مفاصل الظهر، تدفع بالكثير من الجراحيين لإجراء عمليات خطيرة، ومكلفة، ونتائجها غير مضمونه، مع أن الراحة وتمارين الظهر، يمكن أن تخلص المريض من ألمه بدون خطر التدخل الجراحي. وقد حذرت الجمعية الأمريكية الطبية في العام الماضي من أن التصوير الشعاعي الروتيني لألم الظهر السفلي، لا يترافق بفائدة للمرضى، بل بالعكس قد يؤدي لأضرار خطيرة. لأن كثير من التشوهات التي تلاحظ في التصوير المغناطيسي المقطعي لا علاقة لها بألم أسفل الظهر، حيث أن الأشخاص الذين لا يشكون من أية أعراض يمكن أن تلاحظ نفس التشوهات في أشعتهم. ويعلق البروفيسور هادلر بقوله: quot;المشكلة حينما يلاحظ الطبيب أي تشوه في التصوير المغناطيسي المقطعي، يحاول الطبيب والمريض التخلص منه، وهناك اعتقاد خاطئ بين الأطباء، بأن ملاحظة أي شيء يختلف عن الطبيعي، يجب أن يكون هو السبب، وراء أعراض المريض.quot;
ويعرض البروفيسور جيمس جودون، الأستاذ بجامعة تكساس، قصة مريضة في 84 من عمرها، حيث أجرى لها أحد الأخصائيين، بالخطأ، فحص منظار للقولون، مع أن فحص المنظار السابق كان طبيعيا، وهي لا تشكي من أي مرض، مما أدى لانفجار القولون وموتها. مع أن الأخصائيين ينصحون دائما، بعدم إجراء هذا الفحص في مرضى تتجاوز أعمارهم 75 سنة، إذا لم يشكوا من أي أعراض، وكان فحص المنظار طبيعيا، حتى قبل عشر سنوات. والمعضلة الأخرى التي تعاني منها الرعاية الصحية، هي اعتقاد بعض الأطباء بأن أي تدخل طبي يفيد في الحالات المرضية الشديدة، قد يكون مفيد في الحالات البسيطة. والحقيقة بأن ذلك قد لا يكون صحيحا، فمثل ذلك مرض الاكتئاب النفسي الشديد، الذي تفيد أدوية الاكتئاب في علاجه، ولكنها لا تفيد في الحالات البسيطة والمتوسطة الشدة. وبالرغم من ذلك، يوصف الأطباء بانتظام هذه الأدوية لحالات القلق النفسي البسيطة والمتوسطة الشدة، ليزيدوا كلفة الرعاية الطبية مليارات الدولارات.
كما أن هناك تفريط في استخدام الأدوية المخفضة للأحماض المعدية، فقد تكون مفيدة في علاج الرجوع المعدي للمريء وقرحة الإثنى عشر، ولكنها تستخدم بإفراط في حالات لا تفيد في العلاج. فهناك أكثر من 70%، من 113 مليون أمريكي من مستخدمي هذا الدواء، لحالات يجب أن لا تستخدم، لعدم فائدته، بل قد يسبب مضاعفات كثيرة، ككسور في العظام، والتهابات جرثومية، والتهاب رئة حاد، فيعرض الملايين من البشر للخطر بدون معنى، ويكلف الولايات المتحدة علاج مضاعفاته 200 بليون دولار. وقد تفيد أدوية خفض الكولسترول بعض المرضى المصابين بمرض شرايين القلب، ولكن لا يوجد أي دليل علمي عن فائدته في المرضى الذين لديهم زيادة في الكولسترول بدون مرض في شرايين القلب، بل قد تؤدي استخدامه لمضاعفات خطيرة، فحوالي 20% من المرضى الذين يستخدمون هذه الأدوية يصابون بمرض مرض عضلي خطير.
وقد نصح مجموعة من الأطباء الباحثين، برئاسة الدكتور برون سميث، بعدم أجراء فحوصات روتينية، بدون أسباب مهمة، ومع ذلك، لم تصل هذه الرسالة عن الرعاية الصحية الغير مفيدة والمضرة، للأطباء الممارسين. فمثلا، مع أن تنظير الركبة لالتهاب المفاصل المزمن غير مفيد، وقد يكون مضر، ولكن هناك 650 ألف عملية منظار ركبة تجرى سنويا لهذا المرض في الولايات المتحدة، وتكلف المليارات من الدولارات. كما بينت الأبحاث، بان توسيع شرايين القلب بعد 24 ساعة من الجلطة القلبية، لا تمنع جلطة أخرى، ولا تزيد من العمر، ولا تفيد أكثر من العلاج بالأدوية، ومع ذلك تبين أبحاث البروفيسور جوديت هوجمان، أستاذ أمراض القلب بجامعة نيويورك، بأن هناك مائة ألف عملية قسطرة تجرى سنويا لهذا النوع من المرض، وتكلف ملايين الدولارات، بدون فائدة بل مع مضاعفات إضافية. وقد علق بروفيسور جودون، الأستاذ بجامعة تكساس بقوله: quot;ببساطة شديدة، إننا نقتل عدد من المرضى، أكثر من المرضى الذين ننقدهم بهذه العمليات.quot;
ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: لتطوير مجتمعات عربية متقدمة، ومستقرة، هل نحتاج لكفاءة الأداء وحكمة الصرف لميزانية الدولة، بتجنب التقليد الأعمى للخصخصة الرأسمالية الغربية الفائقة، وخططها الصحية المكلفة؟ وهل سنرفع شعارات جديدة للرعاية الصحية تضم فلسفة: بساطة التقشف، وكفاءة الصرف، ومثقال وقاية خير من قنطار علاج، وبأن الإفراط في التشخيص والمعالجة، يعني صحة أسوء للمواطنين، وإفلاس الدولة؟ ولنا لقاء.
د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان
التعليقات