اندلعت الثورة الليبية، كما هو معلوم، بشكل سلمي مثل كل الثورات العربية التي سبقتها، غير أن ردود فعل النظام التي اتصفت بالعنف والهمجية قادت الشباب إلى ردود فعل اتسمت بالعنف دفاعاً عن النفس، لذلك فإن مناكبة الشباب للسلاح لم يكن خياراً أملته إرادة حرة وإنما كان اضطرارا أملته حالة الضرورة. لم يكن هؤلاء الشباب منظمين فى أحزاب أو جمعيات أو أي شكل من أشكال التنظيم، فكانت هذه الانتفاضة عفوية لا قادة لها، وكانت مطالبها مطالب وطنية عامة بامتياز. وخلال الأيام الأولى للثورة لم نر أي شعارات أيديولوجية، إنما حالة من النشوة الرومانسية نابعة من إمكان تحقق الحرية والانعتاق من ربقة الاستبداد.
كان يسود الاعتقاد لدى هؤلاء الشباب أن المجتمع كله أو جُله سوف يحتضن هذه الثورة ويعطيها زخماً سياسياً واجتماعياً وثقافياً بحيث تبلغ ذروتها فى إنشاء مجتمع جديد بعد تحرر كامل التراب الليبي بفعل هذه الثورة التي استجاب لها نظراؤهم في بقية مدن البلاد وقراها.
ومن سمات هؤلاء الشباب الذين قاموا بالثورة لا فى ليبيا فحسب وإنما فى كافة الأقطار العربية التي انتفضت أنهم ليسوا من الأجيال التي اعتنقت أيديولوجيات بعينها، أو ناضلت من اجل فكرةٍ سياسيةٍ محددة. إنّهم يمثّلون جيلا شب وترعرع فى زمن سقطت فيه كل الأيديولوجيات بعد اكتشاف بؤسها المعوق لفكرة الحرية، بل إن أكثر هؤلاء الشباب يكرهون الشعارات الفضفاضة والكلمات السياسية المؤدلجة، ويرتابون من الخطابات المتخشبة لأنهم يعتبرونها جزءا من الماضي الذي يحاولون التخلص منه . فهم يضعون خطاب النظام الذي يودون إزاحته وخطاب معارضي هذا النظام الذين يستعملون نفس هذا المنهج فى سلة واحدة تضم مهملات التاريخ المؤدلج.
الشباب الذي أشعل الثورة يريد أن يرى خططاً تحقق الأهداف الواقعية وبأسلوب تقني وبلغة أرقام مجردة لا بلغة الآراء المطاطة المخادعة.
وهو يريد أن يسمع كلاماً موضوعياً عن مشاكله اليومية مثل القضاء على البطالة أو امكانية نشوء مجمتع خالٍ من الظلم والإقصاء، وكلاما عن أقصر الطرق الواقعية للخروج من التخلف الثقافي والاقتصادي، وأنسب الوسائل لترشيد الإنفاق ومحاربة الفساد وأنجع المسارات التي من شأنها أن تؤسّس لتنميةٍ مستدامة .
أما الجيل السابق الذي وقع تحت تأثير الأيديولوجيات، فهو جيل لا يعرف ماذا يريد، وفي خطابه من الإبهام ما يمتنع على فهم الشباب. هؤلاء الشباب لا يحبّون فى إضاعة الوقت بالدخول فى المماحكات النظرية، وليست لهم رغبة في ولوج معارض العقائد وأسواق الدّغمائيّات السياسية البالية. فماذا يعني لشباب اليوم الدخول فى مناقشات حول فكرة ملكية الدولة لوسائل الإنتاج، أو اضمحلال الدولة، أو إشكالية الثورة الدائمة، أو ميزات ومساوئ ديموقراطية البروليتاريا، أو مصداقية شعار quot;الإسلام هو الحلquot;، أو التنظير لجدوى ولاية الفقيه، أو إمكانية قيام الدولة الدينية على غرار ما تمّ في أفغانستان وإيران، وغير ذلك من المقولات التي عفا عليها الزمن؟
بعبارة واحدة نستطيع ان نجزم أن الشباب الليبي والعربي عموماً وفي سواده الأعظم يرفض النماذج والشعارات القديمة والإجابات الجاهزة، ويرفض الارتهان بعبادة الأسلاف عن طريق إسقاط أحداث تاريخيّة ماضية على كل مشكلاته اليومية، او عن طريق إيجاد الحلول الواهمة لمعضلاته الحياتية بأجوبة تفوه بها آباؤه وأجداده فى زمن مختلف. هذا الجيل لا يؤمن بمقولة إعادة إنتاج التاريخ نفسه، فهو يرى أن ثمة جديد كل يوم تحت الشمس وأن هذا الجديد يطرح سؤالا جديدا ويحتاج الى إجابة جديدة.
غير أن ربيع الشباب الليبي لم يدم طويلا، لأن المتأدلجين ما فتئوا أن قفزوا على خشبة مسرح الأحداث بانتهازيةٍ سافرة، محاولين ربط هذه الثورة إلى ذيول جيادهم وجرجرتها الى كهوف التاريخ المظلمة.
من هنا يبرز التناقض بين وجدان رومانسي منبهر بحلمه الذي بدأ يتحقق، مشرئباً الى المستقبل بعقلية علمية واقعية وبين انتهازية أيدلوجية ترى فرصتها سانحة بالاستيلاء على عربة الثورة التي لم تساهم فى صنعها، محاولة تغيير مسارها فى الاتجاه المعاكس.
والسؤال هنا : من سينجح فى قيادة العربة؟
ونحو أيّ وجهة سوف يتّجه؟
قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، يجب أن نستقرئ التاريخ الحديث والمعاصر الذي يعطينا جواب يقينياً بأن التجارب المجتمعية التي قامت على اساس أيديولوجي قد انتهت نهاية مأساوية مدوية. والشّواهد التي نذكرها على سبيل المثال لا الحصر تجربة الإتحاد السوفيييتي وتفكّكه، ودول أوروبا الشرقية وسقوطها، وتجربة ايطاليا الفاشية، وتجربة ألمانيا النازية ونهايتها المروعة، وسقوط تجربة العراق وسوريا البعثيّة وتجربة إمارة أفغانستان سيئة الذكر والتجربة الإيرانية، وهي آيلة إلى السقوط.
إنّ كافة التجارب السابقة قد أثبتت أن الأيديولوجيات ذات الحلول الجاهزة لكافة المعضلات المتجددة اعتمدت نظرية نهاية التاريخ وخُيل إليها أنها وجدت الإجابة على كافة الأسئلة، هذه التجارب قد فشلت وأي محاولة تريد أن تكرّرها فى التاريخ ستقود حتماً الى نفس النهاية التاريخية، بل ربّما إلى ما هو أسوأ.
هذه الدروس التاريخية المستفادة تصب فى مصلحة الشباب الثائر وبرامجه المستقبلية، وتضع صعوبات جمة على طريق الطرف الآخر لإقناع الناس بإعادة تجربةٍ قد أصدر عليها التاريخ حكمه الصارم.
غير أن شباب الثورة اليوم وبالرغم من مساندة التاريخ لأفكارهم قد لا يربحون المعركة فى المستقبل المنظور وذلك لسببين :
1.السبب الأول أن الأنظمة المستبدة التي يحاولون التخلص منها هي أنظمة قد وضعت خططها منذ أمد بعيد فى الثنائية التّالية : إما أن تحكم الى الأبد من خلال التوريث الذي لم يعد إيديولوجياً فحسب بل جينياً أيضاً، وإما أن يتفّتت المجتمع ويجرّ الى حروب أهلية مدمرة. ومما زاد الطين بلة أن هذه الأنظمة خلقت معارضات مشوهة على شاكلتها، معارضات ستحاول ان تسلب شباب الثورة مكتسباتهم، وذلك بالاستيلاء على الدولة وتكريس أيديولوجيتها التي لا تفضي إلا إلى تكرار الاستبداد.

2.ان الشباب الثائر ليست لهم تنظيمات يستطيعون من خلالها تجميع قواهم المتناثرة، بحيث يمكنهم إقناع الأغلبية الصامتة بالانضمام اليهم. لذلك تبقى التنظيمات الأيديولوجية هي الأكثر فاعلية وجعجعة بالرغم من كونها أقلية بالنظر الى جميع مكونات الشعب التي لا رابط بينها. والسبب فى ذلك ان الأنظمة البائدة منعت ولمدة طويلة أي شكل من أشكال التنظيم المدني وخربت كل المؤسسات المجتمعية التي كانت قائمة قبل وصولها الحكم.
ولذلك فإن حسم الصراع بين هاتين الفئتين المتنافستين على قيادة المجتمع الجديد يبقي سؤالا تصعب الإجابة عليه فى الوقت الراهن.فأي الفئتين سوف تنتصر وتسوس جياد عربة التاريخ؟
نستطيع أن نتنبأ فقط بأن الثوار غير المؤدلجين ربما يقدرون على حسم الصراع لمصلحتهم فى حال بقيت هذه الأوطان أوطانا متماسكة، وذلك بمحاولة تنظيم أنفسهم على أساس جبهوي وليس على أساس حزبي ضيق، على الأقل فى المرحلة الأولى من إنشاء الدولة. فإن اشتراك كافة الأحزاب الجديدة وكل الفاعلين السياسيين الذين يرتبطون بقاسم الحد الأدنى المشترك فى عمل جبهوي من شأنه أن يحمي المقاصد العليا للثورة ويبعدها عن الأفكار الخلافية التي تنشأ بسبب تباين الوسائل المكرسة لتحقيق هذه الأهداف.
فإن أي حزب أو فرد أو جمعية أو مؤسسة تؤمن بالحرية والمساواة وحقوق الإنسان والديموقرطية، وتؤمن بضرورة إقامة الدولة المدنية والعدالة الاجتماعية وحرية السوق، يجب ان تلتئم فى جبهة سياسية يكون من أول اهدافها إنشاء الدولة الجديدة على هذه الأسس، وكتابة دستور حديث وإرساء قواعد للّعبة الديموقراطية. أما اذا لم يحصل هذا ولم تستطيع هذه القوة الحداثية التجمع فى جبهة واحدة فإن قوى القدامة والظلامية سوف تسيطر على الدولة والمجتمع، وسوف تؤسس ديكتاتورية جديدة، قد تستمر عقوداً من الزمان، ويخسر هؤلاء الشباب ثورتهم بانغماسهم فى رومانسية الثورة التي لن يستفيقوا منها الا على واقع مأسوي استبدادي جديد، وسوف يورثون هذه التركة الثقيلة لأحفادهم، ويوكلون مهمة التخلص منها للأجيال القادمة، ولن يذكر التاريخ من هذه التضحيات الجليلة لهذه الثورات غير كونها انتفاضات ساذجة أزاحت طاغية واستبدلته بآخر.
وأتمنى أن يتذكّر الشباب تضحيات الإيرانيين وأنهار الدماء التي سفكوها على مذبح الحرية فى آواخر سبعينيات القرن المنصرم، وكيف استبدلوا ديكتاتورية الشاه بنظام الملالي الشمولي، فهم اليوم ليسوا فى مواجهة ديكتاتور يحكم باسمه وإنما فى مواجهة نواب لله على الأرض، تعتبر معارضتهم خروجا عن الملة وضربا من ضروب الكفر البواح.