الحلقة الأولى
الحلقة الثانية
الحلقة الثالثة

إنّ الدّول العربيّة التي لم تخض في أيّ زمن من تاريخها تجربة الدّيمقراطيّة لا يمكن التّنبّؤ بمستقبلها السّياسيّ وبما سيكون عليه حالها بعد سقوط الدّكتاتوريّات. فإنّ الأمل في أزمنة جديدة تكون فيها الحرّيّة مكرّسة في هذه المجتمعات هو مجرّد أمل، أمّا الواقع على الأرض فربّما ولسوء الحظّ لا يشي بكثير من التّفاؤل. وإذا انتقلنا إلى المجتمع اللّيبيّ تحديدا بدا لنا جليّا أنّه لم يعرف التّنظيم السّياسيّ إلاّ على مستوى النّخب ولفترة سنوات قليلة قبيل الاستقلال، أو عرف تنظيمات سرّيّة لم تكن لها أيّ جذور اجتماعيّة ولا أيّ أرضيّة في الواقع السّياسيّ حيث استطاع نظام القذّافي القمعيّ أن يقضي عليها بدون ضجيج يذكر.

وإذا كانت الأنظمة التي سقطت أو ستسقط في المنطقة العربيّة سوف تحافظ على الدّولة كإطار وطنيّ، وقد تحتكم إلى الدّساتير القديمة بعد تعديلها لمواجهة التزامات المرحلة الانتقاليّة من النّظام القديم إلى النّظام الجديد فلا بدّ لها من الحفاظ على بعض المؤسّسات التي سوف تحتمي بها الجماهير من الفوضى والاضطرابات حتّى يتسنّى لها انتقال السّلطة بشكل سلس، فإنّه في الحالة اللّيبيّة تحديدا سوف يكون الوضع مختلفا تماماـ لأنّ نظام معمّر القذّافي ألغى فكرة الدّولة أساسا، وقد دشّن طريقة في الحكم من أواخر السّبعينات من القرن المنصرم هي أشبه بتحكّم عصابة في إقليم وسكّان بدون مؤسّسات حقيقيّة، وبدون دستور أو مؤسّسة عسكريّة وطنيّة، عصابة رئيسها ينفي أن يكون رئيسا ولا يزال يردّد على مسامع العالم أنّه لا يتبوّأ أيّ منصب يمكنه الاستقالة منه. وهذا لا يحدث إلاّ في العصابات المنظّمة. فإنّ رئيس العصابة لا بدّ أن يقتل أو يسجن حتّى يترك رئاسته لها، ولكن لم نسمع عن رئيس عصابة قد استقال. لذلك فأيّ محاولة للمقاربة بين نظامه وبقيّة الأنظمة العربيّة السّاقطة أو الآيلة للسّقوط هي مقاربة غير ممكنة.
هذا يعني أنّ الشّعب اللّيبيّ مطالب بتشييد دولة من اللاّدولة، وبإنشاء مؤسّسات لهذه الدّولة من العدم. فهل يستطيع هذا الشّعب أن يقوم بهذه المهامّ؟ ومن يضمن له الأمن حتّى يقوم بذلك؟ وهل هذه الفصائل المسلّحة التي تقوم اليوم بقتال الطّاغية لن توجّه السّلاح بعضها ضدّ بعض أثناء الحراك السّياسيّ والإيديولوجيّ الذي يترافق مع إنشاء الدّولة؟ ثمّ هل ستقف الدّول المجاورة على الحياد؟ هل ستعزّز الوحدة الوطنيّة، أم ستدخل في الصّراع من خلال الجماعات المسلّحة تنفيذا لمآربها؟
هذه الأسئلة يجب أن تسبق أيّ سؤال آخر عن شكل الدّولة أو مبادئها أو فلسفتها. فإنّ أغلبيّة الشّعب اللّيبيّ من خلال نخبه الفاعلة يريد دولة مدنيّة ديمقراطيّة، ويطمح إلى الحرّيّة التي حرم منها، ولم يتذوّق لها طعما. يريدون التّنمية المستدامة حتّى يتحقّق الازدهار الاقتصاديّ ويريدون مؤسّسات منتخبة بنزاهة وشفافية، كما يريدون العيش مع جيرانهم والتّعاون الاقتصاديّ معهم حتّى يتمكّنوا من صنع دولة الّرفاه. وبالرّغم ممّا قد يحصل من اختلاف حول تفاصيل هذه العناوين العامّة، وهو الاختلاف المطلوب في أيّ تجربة ديمقراطيّة، كأن يريد جزء من الشّعب حكما رئاسيّا وشقّ آخر يريد نظاما برلمانيّا أو كأن يختلفوا حول مصادر التّشريع أو الطّرق التنمويّة..إلخ. كلّ هذه الاختلافات لازمة وضروريّة لإرساء نظام ديمقراطيّ. ولكن من يضمن للنّاس النّقاش والاختيار والوصول إلى الدّولة التي يرغبون في إنشائها وكتابة الدّستور والقوانين الأساسيّة التي يريدونها بشكل سياسيّ خال من العنف والاقتتال؟ قد يقول قائل : لماذا كلّ هذا التّجهّم وكلّ هذه السّوداويّة في النّظر إلى بلد ثائر قرّر الانعتاق؟ أليست هذه الأسئلة هي لمز ينال من عزيمة الثوّار؟ أليست هذه الاستفسارات قد تلقي في روع المواطن أنّه مقبل على المجهول؟

الجواب على ذلك أنّ السّياسيّن أو الذين يتصدّون للتّحليل السّياسيّ والعمل السّياسيّ يجب أن يتحلّوا بوضوح الرّؤية وبعد النّظر، وذلك بتجنّب الاندفاع العاطفيّ والمثاليّة المفرطة، لأنّ السّياسة هي فنّ الممكن والقدرة على الاختيار بين السّيّئ والأسوأ. إنّ السّيناريوهات المفتوحة على كلّ الاحتمالات والتي تعجّ بها السّاحة السّياسيّة يجب أن تنأى عن عواطف النّاس وأمانيهم. ذلك أنّ الطّريق إلى الجحيم محفوف بالنّوايا الطّيّبة. إذ كيف يمكن في ظروف ليبيا البائسة إلى هذا الحدّ أن تقبل على عمليّة سياسيّة معقّدة وفي ظروف أمنيّة يالغة الصّعوبة؟ كيف يمكن أن نبدأ حياة سياسيّة من لا شيء بعد سقوط القذّافي، وكيف يمكن لكافّة أطياف قوس القزح السّياسيّ أن تسهم في ذلك باختلافاتها المشروعة وبإيديولوجيّاتها الطّموحة، وبتطلّعاتها المتباينة بدون غطاء أمنيّ قويّ يحفظ سلامة الوطن من التّشظّي ويؤمّن للمواطن الإسهام في خلق واقع جديد بحرّيّة، وأن يكون هذا الإطار الأمنيّ محايدا وبقيادة ليست لها أهواء سياسيّة ولا إيديولوجيّة؟

وسأستهلّ وجهة نظري بطرح سؤال محدّد : هل يمكن في الفترة الزّمنيّة ما بين اليوم وساعة نهاية القذّافي إنشاء جيش وطنيّ وقوّة أمنيّة تقوم بهذه المهمّة؟

إذا كان الجواب بالإيجاب على هذا السّؤال الخطير فإنّ التزامات القوى الفاعلة على مسرح الأحداث وعلى رأسها المجلس الوطنيّ الانتقاليّ هي التزامات يجب الإيفاء بها على وجه السّرعة وذلك بالبدء في تأسيس جيش وطنيّ قد يضمّ كلّ المقاتلين على أرض المعركة أو جزءا كبير منهم، ويخضعهم للانضباط، ويعلن عن فتح باب التّجنيد الطّوعيّ في صفوف هذا الجيش آخذا بعين الاعتبار جسامة الخطر المتوقّع وحجم المشاكل المستقبليّة واتّساع الرّقعة الجغرافيّة التي يطلب منه حمايتها. غير أنّ هذه المهمّة قد تبدو عسيرة، تعترضها عقبات كثيرة منها :

1-عدم القدرة على التّسلّح، لأنّ الدّول المساندة لقضيّة الشّعب اللّيبيّ لم تقرّر تسليح الثّوّار حتّى الآن. فهل ستقوم بتسليح الجيش الوطنيّ عند قيامه، باعتبار أنّ عدم إعطاء السّلاح لكتائب الثّوّار كان بسبب التّخّوّف من عدم انضباطها ومن تسرّب هذا السّلاح لأيد غير أمينة؟ أم أنّها لا ترغب في تسليح الثّوّار أصلا سواء أن كانوا كتائب متفرّقة أم جيشا وطنيّا منضبطا؟

2-هل ثمّة وقت كاف لإنشاء هذا الجيش الوطنيّ في فترة زمنيّة ضيّقة مع الأخذ بعين الاعتبار كلّ ما يترتّب عن إنشاء جيش وطنيّ، من تجنيد وتدريب واستيعاب للسّلاح؟

3-هل هناك تطابق في سبل تحقيق الأهداف السّياسيّة والعسكريّة بين حلف النّيتو والمجلس الوطنيّ الانتقاليّ؟

من خلال قراءة يوميّات الثّورة، وتصريحات المسؤولين الغربيّين من سياسيّين وعسكريّين يبدو أنّ هذا التّطابق بين الحليفين غير متوفّر حاليّا بالرّغم من الاتّفاق على الهدف، وهو إسقاط القذّافي. فإنّ الثّوّار يعتقدون أنّ حلف النّيتو سوف يساعدهم على تحقيق هدفهم النّهائيّ في الوصول إلى العاصمة طرابلس وإسقاط النّظام، وتحرير ليبيا بالكامل. وذلك بزحف ثوّار المنطقة الغربيّة من كافّة الاتّجاهات على العاصمة ومساعدة ثوّار المنطقة الشّرقيّة على تحرير الهلال النّفطيّ من البريقة إلى راس لنوف وتحرير سرت وطرد فلول القذّافي المتمركزة فيها. أمّا الحلف الأطلسيّ، فإنّني أرى أنّه لا يريد ذلك لأنّ استراتيجيّته مبنيّة على إخراج القذّافي بطرق تفاوضيّة تهدف إلى أن يسلّم العاصمة لمجموعة يتمّ الاتّفاق عليها بين الطّرفين، فهو يخشى من حمّامات الدّم الممكنة أو المتوهّمة إذا ما استولى الثّوّار من خارج المدينة على العاصمة. لذلك فلن يسمح للثّوّار بالتّقدّم إلى العاصمة على الإطلاق. وهذا ما يبرّر عدم تسليح الثّوّار بشكل فعّال يمكّنهم من إحراز نصر حاسم على الأرض.
محصّلة القول، أنّ دول حلف النّيتو في ما يبدو قد وقعت في تحليل استراتيجيّ خاطئ، لعدم معرفتها بنفسية القذّافي وغرابة أطواره. فهو لن يخرج من ليبيا ولن يسلّم السّلطة لأيّ كان كما بيّنّا في مقالنا السّابق، وليس هناك حلّ حقيقيّ إلاّ بدخول طرابلس عنوة وإلقاء القبض عليه أو قتله، سواء كان ذلك من الثّوّار أو من قوّة عسكريّة أخرى.

بعد هذا الاستعراض الموجز لبانوراما المسرح السّياسيّ والعسكريّ، نرى أنّ الوضع أكثر تعقيدا ممّا يبدو للوهلة الأولى. فقد ضاع الزّمن ما بين هذه الرّؤى المختلفة إلى درجة التّناقض بين الفاعلين على المسرح السّياسيّ والعسكريّ، باعتبار أنّ توافقهم على الهدف لم يؤدّ إلى توافق على وسائل بلوغه. فإذا افترضنا جدلا، وهذه فرضيّة ذات احتمال عال على أرض الواقع، إذا افترضنا أننا لا نستطيع بناء جيش وطنيّ قادر على سدّ هذا الاحتياج الأمنيّ في هذه الفترة القصيرة وللأسباب سالفة الذّكر، فلن يبقى أمامنا سوى البحث عن قوّة أخرى تسدّ هذا الفراغ حتّى إنشاء الجيش. من هنا يبرز السّؤال الصّعب المقيت : هل يتّفق اللّيبيّون على دخول قوات أجنبيّة؟ وإذا اتّفقوا وقبلوا بذلك ما ستكون جنسيّة هذه القوات، وتحت أيّ غطاء، وما هي المهامّ التي ستناط بعهدتها، وما هو الجدول الزّمنيّ لتواجدها؟

يجب أن ننطلق من توضيح معطى أساسيّ هو أن لا أحد يريد أن يرى قوات عسكريّة أجنبيّة على أرضه. ولكن إذا كان ثمن عدم وجود هذه القوات هو الاقتتال الدّاخليّ ودخول الوطن في مغامرة مجهولة العواقب، ممّا يفرض حتميّة دخول قوات أجنبيّة عنوة في يوم من الأيّام وبدون إذن من أحد، وبأجندات غير وطنيّة، فإنّ طلب دخول هذه القوات بإرادة الشّعب وبالمشاركة في تحديد مهامّها وشروط بقائها يبقى أفضل السّيناريوهات الممكنة. إنّ دخول قوات لحفظ السّلام تحت مظلّة الجامعة العربيّة والأمم المتّحدة للحفاظ على الوطن ووحدته التّرابيّة وحماية المواطنين حتّى يتسنّى لهم إنشاء دولتهم التي يرغبون فيها، وحتّى يتمكّنوا من إنشاء مؤسّساتهم المدنيّة وتكوين أمن وجيش وطنيّين هو أفضل الحلول الممكنة في الحالة اللّيبيّة. فإذا وجدت إرادة سياسيّة واضحة لقبول ذلك، فيجب الدّخول في تفاصيل هذا التّدخّل والإجابة عن هذه الأسئلة مبدئيّا :

1-هل تكون هذه القوّة مكوّنة من جيوش عربيّة أم إسلاميّة أم عربيّة إسلاميّة؟ أم هل من الممكن تشكيل هذه القوّة بغضّ النّظر عن خصوصيّة وهويّة الدّول المساهمة فيها؟

2-هل يكون من مهامّ هذه القوّة تجريد كافّة المسلّحين من أسلحتهم لتسليمها إلى الجيش الوطنيّ الذي سيتمّ إنشاؤه أم ستبقى هذه الأسلحة في يد الثّوّار الذين سيشكّلون نواة هذا الجيش الوطنيّ؟

3-هل يكون دخول هذه القوات على الأرض بعد سقوط القذّافي أم قبله، حتّى تتمكّن من المساهمة في إسقاطه لحفظ الأمن في المناطق غير المحرّرة وعلى الأخصّ مدينة طرابلس؟

4-ما هو السّقف الزّمنيّ الذي سيحدّد لهذه القوات للبقاء على التّراب الوطنيّ، وهل سيحدّد بالزّمن أم بانتهاء المهامّ؟

5-هل هذه القوّة سوف تأتمر بأوامر المؤسّسات والقيادات الوطنيّة عند إنشائها أم بأوامر قياداتها الدّوليّة أم بالتّنسيق بينهما؟

إذا لم يلق هذا السّيناريو قبولا لدى الشعب اللّيبيّ بثوّاره ونخبه ينفتح باب سيناريو آخر كارثيّ :
1-ننبّه مجدّدا إلى إمكانيّة دخول اقتحام القاعدة في بلاد المغرب الإسلاميّ المشهد في حالة السّيولة الأمنيّة واتّخاذها ليبيا ملاذا آمنا.

2-الاقتتال الدّاخليّ نتيجة للصّراعات السيّاسيّة التي ستنشأ بعد سقوط النّظام ومحاولة كلّ طرف الاستئثار بالحكم وتوريط القبائل اللّيبيّة في هذا الصّراع، وهذا سيقود إلى حرب أهليّة مدّمّرة.


3-قد يترتّب عن ظاهرة انتشار السّلاح في المجتمع حاليّا ظهور عصابات مسلّحة بدوافع سياسيّة أو إجراميّة منظّمة.

4-احتمال وجود أطماع أو هواجس لدى بعض دول الجوار التي قد تذكي هذه الصّراعات لإفشال الثّورة حتّى تبعد خطر انتقال عدواها إليها، أو لمحاولة الاستيلاء على بعض المناطق الغنيّة بالموادّ الأوّليّة.

5-إمكانيّة قيام بعض الأقلّيّات في الجنوب كقبائل التّبو غير اللّيبيّين وقبائل الطّوارق من غير اللّيبيّين ومجموعات الأنصار الموريتانيّة استغلال هذا الوضع الأمنيّ الصّعب والاستيلاء على الجنوب بالكامل، وهو ما قد يهدّد الوحدة التّرابيّة ويحرم الشّمال من منابع المياه الجوفيّة ومن منابع النّفط. ممّا في المحصّلة يؤدّي إلى حرب أخرى داخل الحرب.
هذه بعض المخاوف المشروعة التي إذا تحقّقت لا قدّر الله، كلّها أو بعضها، فسوف تكون ليبيا مسرحا لصراع دوليّ طويل الأمد، ذلك أنّ موقع ليبيا في قبالة الدّول الأوروبّيّة سيضطرّها إلى التّدخّل المباشر للدّفاع عن مصالحها ولحماية أمنها القوميّ. وإنّ خطورة مثل هذا التّدخّل قد ترمي الوطن في أتون حرب إذا شهدنا بدايتها فلا يمكن أن نتنبّأ بنهايتها.

لهذه الأسباب مجتمعة أطلب من كلّ الأطراف اللّيبيّة السّياسيّة الفاعلة ومن كلّ النّخب أن تشعر بضخامة المسؤوليّة الملقاة على عاتقها وأن تتدبّر الحلول النّاجعة حتّى تدرأ هذه المخاطر المحيقة بالوطن، واضعين نصب أعينهم أنّ الشّعب اللّيبيّ ليس مجتمعا من الملائكة، وأنّ النّخب العربيّة المؤدلجة والأكثر جعجعة في وسائل الإعلام لا تهمّها غير نجوميّتها النّرجسّية على الفضائيّات ولن ينالها سعير انخرام الأمن في ليبيا ولن تطالها محنة تشظّي هذا الوطن.